ثم تصافحا في حرارة وهما يضحكان ضحكة الغبطة والسرور ... - أية مفاجأة سعيدة بعد ذلك التاريخ الطويل ! - أية مفاجأة سعيدة! تغيرت كثيرا يا كمال، ولكن مهلا لعلي أبالغ! عودك هو هو، جملة منظرك، ولكن ما هذا الشارب المحترم؟! وهذه النظارة الكلاسيكية وهذه العصا! وهذا الطربوش الذي لم يعد أحد يلبسه غيرك! - وأنت شد ما تغيرت! سمنت أكثر مما كنت أتصور، أهذا يتفق وتقاليد باريس؟ أين حسين زمان؟! - وأين باريس زمان؟ أين هتلر وموسوليني؟ ما علينا، كنت ذاهبا إلى ريتز لأشرب قدح شاي فهل عندك مانع من الجلوس معي قليلا؟ - بكل سرور.
فمالا إلى ريتز ثم جلسا حول مائدة وراء النافذة الزجاجية المطلة على الطريق، وطلب حسين شداد الشاي وطلب كمال قهوة ثم عادا يتفحصان بعضهما البعض في ابتسام. لقد ضخم حسين فامتد طولا وعرضا. ولكن ماذا فعل بحياته يا ترى؟ هل ساح في الأرض والسماء كما كان يود قديما؟ لكن عينيه تعكسان رغم ابتسامها نظرة غليظة كأنما بدلت من طفولة الحياة جدا. وكان قد مضى عام على التقائه ببدور في شارع فؤاد الأول فبرئ في أثنائه من نكسة الحب وانزوى آل شداد جميعا في ركن النسيان، غير أن ظهور حسين قد أيقظ النفس من سباتها، فبدا الماضي وكأنه يتمطى ناشرا أفراحه وآلامه. - متى عدت من الخارج؟ - منذ عام تقريبا ...
ولم يحاول مقابلته على الإطلاق! ولكن علام يلومه وهو نفسه قد نسيه وفرغ من صداقته منذ دهر؟! - لو علمت أنك عدت إلى مصر لسعت إلى لقائك!
ولم يبد علي حسين أنه أحرج أو ارتبك ولكنه قال ببساطة: عدت فوجدت الهموم في انتظاري، ألم تبلغك أشياء عنا؟
فتجهم وجه كمال وقال باقتضاب وأسف: بلى، عن طريق صديقنا إسماعيل لطيف. - لقد سافر إلى العراق منذ عامين كما أخبرتني والدتي ...
وجدت الهموم في انتظاري كما قلت، ثم كان علي أن أعمل، وأن أعمل ليل نهار!
هذا حسين شداد طبعة 1944! ذلك الذي يعد العمل جريمة إنسانية، أحق وجد ذلك الماضي؟ لعله لا دليل عليه إلا خفقان هذا القلب. - أتذكر آخر مرة تلاقينا؟! - أوه! ...
وجاء النادل بالشاي والقهوة قبل أن يتم كلامه غير أنه لم يبد متحمسا للذكريات ... - دعني أذكرك، كان ذلك في عام 1926. - عفارم على ذاكرتك! ... (ثم شاردا) ... سبعة عشر عاما في أوروبا! - حدثني عن حياتك هنالك!
فهز رأسه الذي لم يشب منه إلا سوالفه وقال: دع ذلك إلى حينه، واقنع الآن بهذه العناوين: أعوام سياحة وفرحة كالحلم، حب فزواج من باريسية من أسرة محترمة، الحرب والهجرة إلى الجنوب، إفلاس أبي، العمل في متجر حماي، عودتي إلى مصر دون زوجي حتى أهيئ لها حياة مستقرة، ماذا تريد أكثر من ذلك! - أنجبت أطفالا؟ - كلا.
كأنما لا يود أن يتكلم، ولكن ماذا بقي من الصداقة القديمة حتى يأسف على ذلك؟ ورغم هذا وجد رغبة قوية في طرق أبواب الماضي فتساءل: وماذا عن فلسفتك القديمة؟
Página desconocida