فقال ياسين باسما: أحيانا، إنه لا يكاد يعرف أحدا، ولكنه ما زال يسير على قدمين قويتين!
يا للرجل! ألم تنازعه نفسه مرة إلى زيارتي؟ أم نسيني كما نسي أبنائي من قبل؟!
ولما ذهب الأصدقاء اتخذ الرجل من كمال صديقا، ولعله فاجأه بصداقته. لم يعد الأب الذي عهده، وغدا صديقا يناجيه ويتشوف إلى مناجاته، وكان يقول عنه آسفا: «أعزب في الرابعة والثلاثين من عمره، يعيش أكثر حياته في حجرة مكتبه، كان الله في عونه »، ولم يكن يعد نفسه مسئولا عما صار إليه أمره؛ فقد أبى من أول الأمر إلا أن يصنع نفسه بنفسه، وانتهى به الحال إلى أن يكون مدرسا أعزب «قعيدا مقطوعا»، في حجرته. وكان يتجنب أن يثقل عليه بسيرة الزواج أو الدروس الخصوصية، كما كان يدعو الله أن يكفيه مدخره من النقود حتى الرمق الأخير كي لا يكون يوما عالة عليه. ويوما سأله: هل تعجبك هذه الأيام؟
فابتسم كمال ابتسامة حائرة، وتردد في الجواب، فاستطرد الرجل قائلا: الأيام الحقيقية كانت أيامنا! كانت يسرا ورغدا، وصحة وعافية، شهدنا سعد زغلول، وسمعنا سي عبده، ماذا في أيامكم؟!
فأجاب كمال مأخوذا بتداعي معاني الحديث فحسب: لكل زمان محاسنه ومعايبه ..
فهز الرجل رأسه المسند إلى مخدة مكسورة وراء ظهره وقال: كلام يقال ليس إلا ..
ثم بعد فترة صمت ودون تمهيد: عجزي عن الصلاة يحز في نفسي حزا، فالعبادة عزاء الوحدة. ومع ذلك، تمر بي أوقات غريبة أنسى فيها كافة وجوه الحرمان التي أعانيها من مأكل ومشرب وحرية وعافية، تصفو نفسي صفاء عجيبا حتى يخيل إلي أني متصل بالسماوات، وأن ثمة سعادة مجهولة تزري بالحياة وما فيها ..
فتمتم كمال: ربنا يمد في عمرك ويرد إليك العافية ..
فهز رأسه مرة أخرى في استسلام، وقال: هذه ساعة طيبة، لا ألم في الصدر، ولا ضيق في التنفس، وورم ساقي آخذ في الزوال، وموعدنا في الراديو مع ما يطلبه المستمعون!
وإذا بصوت أمينة يقول: سيدي بخير؟ - الحمد لله. - هل آتي بالعشاء؟ - العشاء؟! أما زلت تسمينه العشاء؟! هاتي سلطانية اللبن! ..
Página desconocida