Sudán
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)
Géneros
ثم أخذ ذلك الطاغية ورجاله القساة يعذبون كل من يعلن أنه مسيحي، وراح كثير منهم شهداء حتى قدر بعضهم الذين استشهدوا في عشر سنوات من إصدار هذا المنشور في مصر بنحو مائتي ألف شخص.
وإنه يعسر على الكاتب البليغ أن يصف مقدار ما تجرعه الشهداء من ضروب العذاب، فكانوا يلبسونهم جلود الحيوانات ويسلمونهم إلى الكلاب الكلبة الجائعة والحيوانات المفترسة في ملاعبهم، فيرى الناظر في أقل من لمح البصر أجساما وقد قطعت إربا إربا. أو يخدشون أجسامهم ويسلخون جلودهم حتى يموتوا. أو يدهنونهم بالصمغ وما شاكله من المواد الملتهبة ثم يربطونهم بالأشجار أو بأعمدة من الخشب ليكونوا عبرة للشاهدين وعرضة لسخط الناظرين وإهانتهم، ثم يجعلون عند دخول الليل من أجسام أولئك الشهداء مشاعل حية يطوفون بها في الشوارع، وكانوا يستعملون نور ذلك الحريق كمشاعل لإضاءة موائد الإمبراطور وحاشيته يأكلون عليها ما طابت له نفوسهم، أو يستعملونه كمصابيح بشرية لإضاءة الحدائق والبساتين المخصصة لتنزه العامة، أو يعلقونهم بالمسامير على خشبة الصليب، أو يذبحونهم ذبح الأنعام في الطرقات. واستخدموا طريقة فظيعة لتعذيبهم وقتلهم؛ فقد كانوا يقربون غصنين قويين من شجرتين متجاورتين فيربطون بهما الشهيد ربطا محكما، ثم يفكون الغصنين فيفترقان. وحينئذ تتفرق أضلاع الشهيد وأشلاؤه في قسوة شنيعة. أما النساء فكانت تربط إحداهن في رجليها وترفع في الهواء بعد أن يخلعوا عنها ملابسها ويكشفوا كل جسمها ، وتظهر أمام جمهور المتفرجين بمظهر تنفر منه الإنسانية وتأباه النفوس الأبية. وحينما كان الجلادون والقائمون بأمر القتل والتعذيب يتعبون كانوا يلقون الشهداء في أتون من نار حامية.
ومما هو جدير بالذكر أن استشهاد أولئك الأبرار البسلاء لم يكن استشهاد المرغم. بل كان بمحض اختيارهم وإرادتهم ومحبتهم لكنيستهم وخالقهم. فلذلك كانوا يلاقون الموت بثغر باسم مستشهدين في سبيل دينهم ما دام مؤسس دينهم قد مات شهيدا على الصليب في سبيل تعاليمه، عالمين أنه بضيقات كثيرة، ينبغي أن يدخلوا ملكوت السموات. ولما كان يصدر عليهم الحكم النهائي بالموت كانوا يقابلون هذا الحكم بفرح وتهليل، ويرتلون أغاني الحمد والشكر لله الذي أهلهم لأن يموتوا لأجله.
ومما يدعو إلى الدهش حقا أن بعض المسيحيين والوثنيين كانوا يدفعون أنفسهم للاستشهاد في وسط تلك المجازر التي قام بها دقلديانوس وغيره من أباطرة الرومان في سبيل الدين المسيحي، فكان لا يحكم على شخص منهم بالإعدام حتى يندفع آخرون من كل مكان ويعترفون بأنهم مسيحيون معتقدون بأن كل وسائل التعذيب والموت في سبيل دينهم أمور هينة بجانب الإكليل الذي سيوضع على هاماتهم بجانب ملكوت الله الذي يرثونه بعد مماتهم.
وقد استشهد في أثناء تلك المجازر في ذلك العصر عدد كبير من كبار الأقباط وقديسيهم وقديساتهم، نذكر منها «مينا» المعروف باسم ماري مينا، والقديسة كاترينة التي تعلقت بالمسيحية فأغضبت أهلها الوثنيين، وانتهى الأمر بإعدامها. ومن بين الذين ألح عليهم الإمبراطور - في الارتداد - القديسة دميانة المشهورة، فقد كانت هذه القديسة من ضحايا ذلك العصر المشؤوم، وكان أبوها مديرا مصريا في إحدى مديريات القطر المصري محترما في قومه ذا مكانة عند الإمبراطور، وبنى لابنته دميانة ديرا على بعد ساعتين عن بلقاس اعتزلت فيه للعبادة، ولما أصدر دقلديانوس منشوره كان في الدير أربعون راهبة، فطلب الإمبراطور من أبيها أن يجاهر بالوثنية فأرسلت دميانة إلى أبيها تستعطفه بأن يرفض رفضا باتا ما طلب منه، فعمل بمشورة ابنته؛ فاستعمل الإمبراطور معه نفوذه الشخصي ليقنعه بأن يذبح للأوثان؛ لأنه لم يكن يود هلاك خادم أمين مثله في بلاد عمها الاضطراب والقلاقل وكثر فيها أعداء الإمبراطور. غير أن والد دميانة أصر على رأيه فاستشاط غضبا منه ومن ابنته، فألقى القبض على دميانة وراهباتها الأربعين، وأمرهن أن يسجدن للأوثان فامتنعن؛ فأخذ يعذبهن تعذيبا قاسيا. ولكنهن لم يعدلن عن رأيهن فأمر بقطع رؤوسهن وما زال ديرهن قائما حتى اليوم.
وقد كانت مذابح دقلديانوس لمسيحيي مصر أعظم المذابح وأفظعها، فتركت أثرا كبيرا في نفوس المصريين، حتى إنهم سموا عصره بعصر الشهداء.
ولم تصنع أمة في الأرض مثل ما صنع المصريون لأولئك الشهداء الذين ذهبوا في سبيل عقيدتهم. فهي قد جعلت ذكرى شهدائها تاريخا لها تحسب عليه كل يوم من أيامها وكل عام من أعوامها. فقولنا: سنة 1651 قبطية معناه: مرور هذه السنين على تلك الأيام المشؤومة، وتذكار تمسك الشهداء بالمسيحية.
ولا ريب في أن اضطهاد دقلديانوس للأقباط وغيرهم من المسيحيين كان من أكبر الأسباب لانتشار الديانة المسيحية ونموها؛ لأن قساوة أولئك الظالمين أفناها الدهر. وأما دماء الشهداء فقد صارت زرعا لمسيحيين آخرين. أي إن الاضطهاد لم يأت بالغرض المقصود منه؛ لأن المسيحيين ازدادوا تمسكا بدينهم، وأخذ الناس يعجبون بشجاعتهم وصبرهم وتحملهم للأذى؛ فدخلوا في دينهم أفواجا حتى زاد عدد المسيحيين على عدد الوثنيين.
ولما أتى قسطنطين الأكبر في سنة 313م رأى أن يعترف بالديانة المسيحية جهارا، فجعلها دين الحكومة والأمة؛ لأنها دين الكثرة، وانتحلها، وعطل الأشغال في أيام الآحاد، وهدم الهياكل الوثنية، وبنى الكنائس، وكان المسيحيون حتى ذلك العهد يقيمون الصلاة في الكهوف والدياميس. وفي سنة 378 تولى الإمبراطورية الرومانية «تيودوسيوس» فعمم الدين المسيحي في أنحاء الإمبراطورية الرومانية، بأن حتم التمذهب به، ونهى عن الوثنية فحرم عبادة الأوثان وأغلق معابدها، وأخذت الحكومة تضطهد الوثنيين، وعلى ذلك أنشئت كنائس كثيرة أشهرها كنائس روما والإسكندرية وأورشليم وأنطاكية والقسطنطينية، وكثر بناء الأديرة والصوامع؛ فتوطدت دعائم المسيحية وأصبحت عنصرا من عناصر الحضارة الأوربية الحديثة. ا.ه. (8) بعض معلومات العرب عن منابع النيل
قال المغفور له أحمد زكي باشا ما يأتي:
Página desconocida