لعلي إلى من قد هويت أطير!
فيقول: «ما أقل عقل الإنسان وما أطمعه! اسمعوا يتمنى أن يطير، فما عليه لو مشى على مهله؟!» ثم رأيت طائرة فدرين تحلق لأول مرة في سماء الشرق، فقلت: «أين أنت يا معلمي لترى مطامع الإنسان تتحقق؟»
وإني لأتخيل جدي وقد استيقظ ورأى المخترعات الجديدة، أفلا يصيبه ما أصاب رجال الكهف؟!
قد شهدت بيروت تستضيء شوارعها بالكاز والغاز، وشهدتها مضاءة بالكهرباء، وشهدت أناسا من ماضين وحاضرين فما رأيت هؤلاء أسعد حالا ولا أفضى بالا.
رأيت الناس يلبسون الخام المصبوغ، ويجلسون على مقاعد من الخيش والجنفيص، رأيتهم في القصور الحاضرة المنيفة، حتى إذا سألتهم عن حالهم هذا وحالتهم تلك فما سمعت إلا تأوها.
يقولون إننا مقبلون على عالم تخدمنا فيه الآلة، فتغنينا عن الخدم والحشم. وزعموا أننا سنعيش على «الخلاصات» فلا نضطر إلى مضغ وبلع، وإذ ذاك ندرك السعادة والنعيم المقيم. أما أنا فما أرى أن العالم يصلح أكثر إذا خلا من العمل، ولعمري كيف تدرك لذة بلا تعب؟! أما خبرونا عن أغنياء العالم الذين لم يذوقوا طعم التعب أنهم يتسلقون الجبال العالية ليشعروا بلذة الراحة بعد التعب؟
الطائر يلتذ بالإسفاف كما يلتذ بالتحليق إلى أبعد مدى يستطيع إدراكه، وكذلك الإنسان فلا يعيش عيشة لذيذة إذا لم تتنوع حياته بين بؤس ونعيم وهناء وشقاء، وقد قال أحد القدماء: «لا تأكل لقمتك إلا مغموسة بعسل» أي لا تأكل إلا بعد تعب وجوع فتستطيب الأكل مهما كان رديئا.
إن الحياة الخالية من كل شر وعناء لهي أغنية على وتيرة واحدة، ومن تروق له مثل هذه الأغنية؟! فالحياة لا تحلو وتطيب ما لم تتنوع. وإنني لا أتصور حياتي الهانئة في الجنة حيث النعيم المقيم إلا وأخشى مللها وإن كان يترجاها غيري ويتفانى في سبيل إدراكها.
إن من يطلب عالما لا شر فيه كمن يطلب لحما بلا عظم، ونارا بلا دخان، ونورا لا يحرق. والذي أراه أن خير ما في هذا العالم هو هذا التقلب الذي فيه، فلا تحلو الطبيعة إلا بهدوها وثوراتها، ونسيمها وعواصفها، وبردها وحرها. ما أصدق قول أبي تمام:
وإني رأيت الشمس زيدت محبة
Página desconocida