عرفت الجندي لعينا ونظارا، ورأيته جلادا، وعشت حتى رأيته اليوم في هذا العصر صديقا ومرشدا، ولا شك في أنك ستكون من عصابة المرشدين الحكماء؛ لأنني لمحت فيك - إذ عرفتك واختبرتك - الفضائل الأدبية الأربع: الفطنة والعدل والقوة والقناعة.
ففطنتك تنير طريقك فلا تعثر بحجر رجلك، والعدل ينظم إهمال إرادتك ويرتبها فلا تظلم ولا تحابي، والقوة تجعلك تتمثل بقول القائل: «لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى.» والقناعة تحفظك بريئا من كل ما يتسخ به ثوب من يخدمون الجماعات.
وقصارى القول يا أخي: إن الجندي الأمين يجعل الناس فضلاء غصبا عنهم، فهو حافظ الحقوق من الامتهان متى كان عادلا، وحارس على الأخلاق الفاضلة متى كان فطنا، وصائن الضعيف وحاميه متى كان قويا ، وقاتل الطمع - علة المجتمع الكبرى - إن كان قنوعا، ومن كان عادلا قويا قانعا فطنا كان رجل التضحية، ونحن أفقر الناس إلى التضحية.
وإن قلت: ما هذه المواعظ الجافة يا معلم، فما هكذا عودتنا؟! فاسمع الجواب: إنني أخاطبك جنديا، والجندية لا تعرف الهزل لأنها جد كلها، ومتى خالطها الهزل تشوش نظامها وسقطت الفائدة المرجوة منها.
تصور فرقة تتمرن وتضحك، فما تراه ينطبع في نفوس أفرادها؟ إنهم يخطئون أهدافهم وتنقب نعالهم ويضيع تعبهم، إن مهمتك جدية كلها، ولا متسع فيها للنوادر والفكاهات. ومتى استقام لك نظامها وتمكن من نفسك وكتبت إلي كتابا عامرا بالإيمان حافلا بالرجاء منتعشا بالمحبة لرفاقك ولمدربيك الذين قلت فيهم إنهم وجوه من خشب فارقتها الماوية منذ قرن ونيف ... أجل متى حدثتني عن الجندية حديث أخ بطل لا مكره؛ أكتب إليك باللهجة التي تعهدها بي ساعة النشاط والجمام. أما الآن يا حبيب القلب فأقول لك المثل المعروف: «من دق الباب سمع الجواب» ...
أودعك الآن وأترقب بصبر تباشير الساعة التي أرى فيها الحجل مزوقا، أي ساعة تظهر على جناحيك الألوان، فأنت الآن يا حبيبي كأفراخ الحطيئة بذي مرخ لا ريش ولا وبر، فاجتهد تصر طاووسا، نجاك الله من خيلائه وزهوه!
نسيت أن أحييك وأقبلك فاعذرني، ولك أن تسمي كتابي هذا «الأبتر» كما سموا خطبة زياد «البتراء»، وإلى اللقاء.
الميلاد
أجراس تطن ونواقيس ترن في أربعة أقطار المسكونة، تمجيدا لذكرى ميلاد من أرسله الله آية للناس ورحمة منه، إنه يوم تجديد أمل الإنسانية بعام أحسن وعالم أفضل، فمنذ ألف وتسعمائة وخمس وخمسين سنة رأى المجوس نجمه في المشرق فجاءوا ليسجدوا له مقدمين القرابين مرا ولبانا. وفي مثل هذه الليلة سمع الرعاة أصواتا ترتل في الأعالي: المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة أو الرجاء الصالح لبني البشر.
هذا ما اعتاد ترديده الناس يوم هذا العيد السعيد. أما أنا فلست ممن يعومون في غمر الصوفية ما دام هناك قنبلة ذرية، وكيف أقول: وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة ... إن صح أن دولة ما تستطيع - لو شاءت - أن تبقي على الجنس البشري أو أن تمحوه من الوجود؟!
Página desconocida