Studies in Philology
دراسات في فقه اللغة
Editorial
دار العلم للملايين
Número de edición
الطبعة الأولى ١٣٧٩هـ
Año de publicación
١٩٦٠م
Géneros
مقدمات
كلمة المؤلف في الطبعة الثالثة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة المؤلف في الطبعة الثالثة:
حين صدرت عن "مطبعة جامعة دمشق" الطبعة الأول لهذا الكتاب، طننت أن سيطول عليه الأمد قبل أن يشق طريقه إلى كليات العالم العربي ومعاهده العلمية العاية، على الرغم من استيفائه أهم المناهج المقررة لتدريس "فقه اللغه" على المستوى الجامعي، ولم يكن يطوف بخلدي آنذاك أن تنفذ هذه الدراسات بعد أشهر معدودة من تاريخ صدروها.
فعهدنا بالمؤلفات العمية الرصينة أن يتراكم عليها الغبار قبل أن تحظى بشيء من اهتمام القراء!
ولو سارعت إلى تلبية رغبات الزملاء من العلماء الباحثين والأساتذة الجامعيين لصدرت حينئذ الطبعة الثانية خلال العام الذي ظهرت فيه الطبعة الأولى، فقد أحسن هؤلاء الظن بالكتاب، وعدّوه أجود ما ألف في بابه، وبذلوا له من الدعاوة فوق ما يستحق، وأغراني كثير منهم في بيروت ودمشق وبغداد بإعادة نشره في أقرب فرصة ممكنة.
والآن أرى لزامًا عليّ -وقد منّ الله علي بهذه الطبعة الثالثة- أن
1 / 5
أنقح في هذه "الدراسات" ما تنبهت إليه بنفسي، وما نبهني إليه الأصدقاء، وأن أزيدها بحثين بدا لي أنهما ينقصانها، أحدهما عن "الصيغ والأوزان"، أوضحت فيه ظاهرة الصياغة القالبية فيما تسبكه اللغة وتبنيه، بعد تفصيل الحركة الاشتقاقية فيما تلده اللغة وتحييه.
أما الآخر فعرضت خلاله "للعربية في العصر الحديث"، وفندت الشبهات التي يلقيها بعض الباحثين المتسرعين جزافًا، كلما رموا الفصحى بالعقم، ووصموها بالتخلف عن مجارة الحضارة في عصر العلم والنور، وقدمت في الفصل ما بدا لي مناسبًا من الاقتراحات والتوصيات.
وكدت أغْنِي فصل "الأصوات العربية وثبات أصولها" بمباحث جديدة في علم الأصوات اللغوية، وأشبع القول في تطور الدلالة وعوامل هذا التطور، وأضيف بحثًا مسهبًا عن نشأة الكتابة العربية ونمائها وطرق إصلاحها، ثم آثرت أن أفرد لهذه الإضافات كتابًا مستقلًّا مفصلًا، مكتفيًا اليوم بما زدته عن "الصيغ والأوزان"، و"العربية في العصر الحديث".
وإني لأسدي الشكر خالصًا لكل من عمل على نشر هذه "الدراسات" في الجامعات والكليات، وأخص بالذكر زملائي في كليتي الآداب والشريعة في جامعتي دمشق وبغداد، وكلية الآداب في الجامعة اللبنانية، وإلى هؤلاء الأصدقاء الغُيُر أهدي كتابي في طبعته الثالثة، شاكرًا لدار العلم للملايين إخراجه بأبهى حلة في ثوبه الجديد.
بيروت، غرة ربيع الثاني ١٣٨٨.
صبحي الصالح.
1 / 6
مقمة الطبعة الأولى
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى:
خلال السنوات المتعاقبات التي نهضت فيها بتدريس فقه اللغة، كثيرًا ما كان الطلاب في بغداد ثم في دمشق يسألونني سؤالًا متشابهًا، أمسى على تعاقب الأيام تقليديًّا: هل لنا من كتاب جامع في فقه اللغة نتخذه عُدَّةً لنا في الدراسة، وإمامًا هاديًا إلى ينابيع العربية الصافية؟
وكانت الحيرة تدركني كلما ألقي عليّ هذا السؤال، فأنا لا أعرف كتابًا جامعًا في هذا العلم، لا قديمًا ولا حديثًا، وإن في كل كتاب أنصح به لعيبًا أو عيوبًا، وإن كانت مواطن الضعف تتفاوت بين كتاب وكتاب، وبين باحث وآخر، وبين جيل وجيل؛ في الكتب القديمة نقل أمين، واستقصاء دقيق، وعلم غزير، تفرض بها القواعد فرضًا، ولا توصف بها الحقائق وصفًا، وفي الكتب العصرية تجديد في مناهج البحث يغضّ من قيمته وَلوعُ الباحثين العرب بتقليد الأعاجم و"المستعجمين" في دراسة اللغات الإنسانية.
1 / 7
ولم يكن ينقذني من هذه الحيرة إلّا أن أقول للسائلين: من أفض الكتب القديمة إن التمستم كثرة النصوص وسعة المعلومات "المزهر" للسيوطي، ومن أجود الكتب العصرية إن رغبتم في تبويب اللغة على المنهج الحديث "فقه اللغة" و"علم اللغة" للدكتور علي عبد الواحد وافي.
لكن الطالب الذكيّ لم يكن يخفى عليه أن جوابي إلى التهرب أقرب، فمن أراد أن يتذوق فقه اللغة علمًا مستقلًّا قائمًا برأسه، لن يجد طلبته في "المزهر" مهما يجمع من أبواب اللغة، ولن يشفي غلته ما جمعه الدكتور وافي ونسقه منذ أكثر من عشرين عامًا، وإن أطرى مجمع القاهرة يؤمئذ كتابيه.
إن كتبًا حديثة أخرى تتناول أبحاثًا لغوية عميقة، قد ظهرت في العواصم العربية، ولا سيما في القاهرة، فهلّا أحلنا الدارسين على أحدها، وارتضيناه كتابًا جامعًا، وإمامًا هاديًا؟
تلك أبحاث الأستاذ المحقق الدكتور إبراهيم أنيس؛ أليس فيها كتاب واحد جامع مستوفٍ للشروط؟ إن يك في كتابه عن "اللهجات"، أو في مؤلفه عن "الأصوات اللغوية"، أو عن "دلالة الألفاظ"، أو عن "موسيقى الشعر" ضرب من الاختصاص في عرض لونٍ معين من موضوعات اللغة، فما بالنا لا نعد كتابه القيم "من أسرار اللغة" بحثًا في خصائص العربية، والخصائص -كما يعلم كل لغوي- أهم مباحث فقه اللغة.
إنني -على إجلاللي للدكتور إبراهيم أنيس، وتطلعي إلى الإفادة من كتبه، كما تَنمُّ عن ذلك "دراساتي" هذه، أرى في جُلِّ مباحثه عيبًا
1 / 8
لا أطيق الإغضاء عنه أو السكوت عليه، وأرجو مخلصًا أن يتداركه بنفسه في الطبعات المقبلة، وإن هذا العيب ليتمثل في تهاونه بأقول المتقدمين، وندرة عزوه الآراء إلى أصحابها، واستخفافه برد الشواهد إلى مراجعها ومظانها، كأن كتبه محاضرات عجلى لا مباحث مدروسة، أو كأنها مجموعة ملاحظات، ليس فيها تحقيق للنصوص، ونقد للوثائق، وموازنة بين المذاهب، مع أن اللغة، ولا سيما العربية، لا تدرس إلّا من خلال النصوص، فهي أصوات تسمع ثم تحفظ، ثم تنقد، وهي بذلك -كعلوم الدين- لا ينقل شيء بغير دليل يثبته، أو رواية تشهد له، أو برهان يقوم عليه.
ولو صبر الدكتور أنيس على كتبه هذه صبرًا أجمل، ومنحها وقتًا أطول، ثم لمَّ شتاتها بنفسه في كتاب واحد جامع منقح غني بالمصادر الأصلية الأساسية، لأدى في هذا العصر أجلَّ خدمة لعلماء العربية، فما من شك في انطواء بحوثه على آراء أصيلة، إن فاتها الصواب أحيانًا لم تفتها الجراءة، وإن أهملت فيها النصوص غالبًا، عوض إهمالها صلاح المنهج الذي أشهد بحرارة أنه دفع الدرسات اللغوية إلى الأمام قرونًا وأجيالًا.
وفي كتاب الزميل الفاضل الأستاذ المبارك "فقه اللغة"، الذي تمَّ طبعه خلال هذا العام في مطبعة جامعة دمشق، نظرات ثاقبة، وآراء في العربية ناضجة، حرصنا على الإفادة منها أيضًا في "دراساتنا" هذه، لكنها لم تبرأ مما يؤخذ على مؤلفات الدكتور أنيس، فلقد يخيل إلى القارئ أن الأستاذ المبارك لا يبالي بالنصوص القديمة كثيرًا، فما يذكرها إلّا قليلًا، ونادرًا ما يعزوها في الحواشي إلى أصحابها، مع أن الأستاذ
1 / 9
المبارك -كما يعلم إخوانه وصحبه- من أوثق الناس صلة بالقديم، وحسبه فخرًا أنه في هذا الباب تلميذ أبيه المرحوم العلامة عبد القادر المبارك، على أن الزميل الكريم قد أوضح في مطلع كتابه أنه: "لم يعمد إلى حشد الشواهد الكثيرة من المصادر العربية القديمة، ولم يأخذ منها إلّا ما احتاج إليه للاستشهاد، أو لبيان ما سبق إليه علماؤنا من نظرات نافذة، أو إبداع في البحث"، فكان منه هذا أشبه بالاعتذار عما لم يحبه لنفسه من إغفال النصوص، وكاد هذا منه يشي بما آمن به في قرارة نفسه من وجوب الاستشهاد بتلك النصوص.
ولو وضعنا في ميزان النقد مقدمة العلايلي لدراسة لغة العرب لألفيناها -رغم تعاقب الأعوام عليها- ما تنفك تغني المبحث اللغوية بمدد غير ممنون، إلّا أن العلايلي حاول أحيانًا أن يجدد وهو في عالم خلقه لنفسه بمعزل عن القدامى والمحدثين، فنمَّ تجديده عن فكره الثاقب، ونظره البعيد، ولو تجافى عنه لسان العرب المبين!
أما كتاب الدكتور تمام حسان "مناهج البحث في اللغة"، وكتابه الآخر "اللغة بين المعيارية والوصفية"، فقد جاءا آيتين في الدقة والتقصي فيما صورا من المذاهب الحديثة في بحوث اللغة، وإن فيهما لجهدًا مشكورًا في رد طائفة من تلك المذاهب إلى مبتدعيها، ومحاولة ناجحة أحيانًا في المقارنة بين العربية واللغات الحية من خلال ما استحدث العلماء من مناهج، ولكن في الكتابين عيبًا أجسم من عيوب الكتب العصرية السابقة، فكثيرًا ما يدخل الدكتور حسان الضيم على العربية وهو يطبق عليها ما أتقنه من المناهج الغربية، ماسحًا بذلك أصوات العرب في رموز وطلاسم "اسشراقية"، فيها من عجمة الدخيل ما لا يطاق!
1 / 10
وقد كان سبقه إلى إدخال الضيم على العربية، واستعجال المقارنة بينها وبين اللغات الحية، جرجي زيدان في كتابه "الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية" وكان في زيدان عيب أقبح، يتمثل في "سطحية" علمه بهذه الأمور -إن صح هذا التعبير- وفي تطفله على ميدان اللغة، كما كان شأنه في أكثر الميادين، فما من بحث إلّا خاض فيه، ولم يكن في واحد منها من أهليه ...
وكتيّب الأستاذ عبد المجيد عابدين "المدخل إلى دراسة النحو العربي على ضوء اللغات السامية" قد حوى -على إيجازه- آراء مستطرفة سديدة في أصول النحو، التي هي في نظرنا أجدر أن تسمى: أصول اللغة، ولكنها آراء منبثة متفرقة طال انتظارها لليد الرفيقة الأمينة التي تلمّ شعثها وتنسقها، وتستخرج منها أكرم جواهرها.
ويطيب لي -بهذه المناسبة- أن أشيد بكتابٍ قيّمٍ للزميل الكبير الأستاذ سعيد الأفغاني، سماه: "في أصول النحو" ففي مباحثه الدقيقة عن القياس والاحتجاج والاشتقاق التفاتة رشيقة لطيفة أراد بها الزميل الجليل أن يسمو بدرس النحو من الفروع إلى الأصول، وينتقل به من فرض القواعد إلى وصف الحقائق، أو من عمل النحاة في أفقهم الضيق المحدود، إلى عمل اللغويين في أفقهم الرحب الطليق، وليت الأستاذ الأفغاني استكمل دراسة أبواب اللغة كلها بهذا الأسلوب الفذ، إذن لكان كتابه أجدر التصانيف العصرية أن يسمى: "فقه العربية".
ولا يسعنا في هذه "الدراسات" إلّا أن نكبر جهود العاملين الخالدين في تنمية العربية؛ كالشيخ عبد القادر المغربي في "الاشتقاق والتعريب"، والأب أنستاس ماري الكرملي في "نشوء العربية ونموها واكتهالها".
1 / 11
والأب مرمرجي الدومينيكي في أبحاثه حول "الثنائية" في العربية والساميات، والأستاذ عبد الله أمين في "الاشتقاق"، والدكتور مصطفى جواد في تحقيقاته الدقيقة التي ذكر طرفًا منها في كتيّبه "المباحث اللغوية في العراق"، والأمير مصطفى الشهابي في "المصطلحات العلمية"، وفي معجمه القيم للألفاظ الزراعية. ولكن هؤلاء العلماء الأعلام كانوا يتناولون بالدراسة بعض الموضوعات الخاصة ولم يتصدوا -فيما نعلم- لتأليف كتابٍ جامعٍ مدروس في فقه الللغة، أو ربما فكّرَ بعضهم بذلك، غير أننا لم نجد لهم في المكتبة العربية كتابًا مطبوعًا منشورًا١.
وإن في تفرق المباحث اللغوية على هذا النحو، وقلة التأليف في موضوعها العام الشامل، وتهاون أكثر المؤلفين فيها بأقوال المتقدمين، وإدخال بعضهم الضيم على العربية فيما كتبوه، ونكوص آخرين منهم عن مجاراة ما يجدّ كل يوم من ألوان البحث في فقه اللغة العام، وفقه اللغة المقارن، إن في هذا كله لما يهيب بالغيور على هذه اللغة الذي يريدها لتسابق اللغات الحية في مضمار الحضارة، إلى الأدلاء بدلوه، في وضع كتاب جامع يحاول به أن يلمّ شتات الآراء السديدة، قديمة وحديثة، حتى لتشمل فصول الكتاب على أفضل ما يتمنى أستاذ فقه اللغة، أو دراسه، أو الناشيء فيه، أن يجده من المباحث الأساسية الهامة.
_________
١ إلّا ما كان من اطلاعي اتفاقًا وعرضًا على مذكرات في "فقه اللغة"، كان الدكتور مصطفى جواد قد أملاها على طلابه في كلية الشريعة ببغداد، ولما خلفته بتدريس هذه المادة بين سنتي ١٩٥٤-١٩٥٦ في الكلية المذكورة، أمليت على الطلاب مذكراتي الخاصة التي كانت الأصول الأولى لكتابي هذا؛ ثم أغنيت بعض فصولها منذ كلفت بهذه المادة في كلية الآداب بجامعة دمشق، ابتداء من سنة ١٩٥٦، بيد أنني في ذلك العام اشتركت والأستاذ المبارك في التدريس، فكان من نصيبي التطبيق العملي في دراسة النصوص القديمة، ونهض الأستاذ المبارك بالجانب النظري، ثم انفردت وحدي بتدريس فقه اللغة نظريًّا وعمليًّا منذ سنة ١٩٥٧ حتى يومنا هذا.
1 / 12
ومن الغرور أن أزعم أني بكتابي هذا جئت أملأ ذاك الفراغ، وأسد تلك الثغرات، وأحقق أمنية الدارسين، فما عانيت تدريس فقه اللغة إلّا ست سنين، ليست في حساب الزمن شيئًا مذكورًا، ولكن الله وحده يعلم أيّ جهد بذلت، وكأيٍّ من ليل سهرت، وكم من كتابٍ قرأت، حتى أخرجت للناقدين قبل المادحين "دراساتي" هذه في أسلوب علميٍّ بسيط، توخيت أن يكون بالغ الحيطة شديد الحذر، لا يفرط ولا يفرّط، ولا يبالغ ولا يقصر، ينقل من النصوص القديمة، ويعزو كل نص إلى قائله، وينقب عن المخطوطات النفيسة ويستشهد بها، ثم يوازن بينها، ولا يقنع بالجمع والتنسيق، ويقبس من آراء المحدثين، شرقيين وغربيين، ومستشرقين ومستعجمين، ثم يمحص آرءهم ويزنها بميزان النقد النزيه الدقيق.
وإن من ذكرت أسماءهم آنفًا من المؤلفين والعلماء ليجنون الآن معي كلهم ثمار هذا الكتاب، فإن تك ثمارًا يانعة طيبة، فبهم طابت، ومنهم أينعت، ولأردنّ إليهم كل رأي مبتكر أخذته عنهم، وكل فكرة أصلية اقتبستها منهم.
ففي فصل الاشتقاق أعجبت بتفرقة الدكتور إبراهيم أنيس بين الدلالة المكتسبة المتطورة والدلالة الوضعية الأصلية، وعن الأستاذ المبارك اقتبست فكره ثبات الأصوات في العربية، ومع الدكتور تمام حسان سرت أشواطًا في الدعوة إلى المنهج الاستقرائي الوصفي في أبحاث اللغة، ومع عبد المجيد عابدين ناديت بدراسة النحو العربي في ضوء اللغات السامية، ومن الأبوين أنستاس الكرملي ومرمرجي الدومينيكي أخذت القول بالثنئاية التاريخية في اللفظ العربي، وعلى هَدْي أسطر قليلة جامعة للأستاذ سعيد الأفغاني
1 / 13
بنيت فكرة الانتقال من الثنائية التاريخية إلى الثنائية المعجمية١، وتابعت الشيخ المغربي على رأيه في تنزيل المعرّب منزلة العربي، وأيدت عبد الله أمين في اشتقاق العرب الفصحاء من الجواهر قبل المصادر، ومضيت مع الدكتور مصطفى جواج أقيّد النحت بالضرورة القصوى، وأخذت عن الأمير مصطفى الشهابي شروط النقل والتعريب لمصطلحات العلوم والفنون.
ومع أن هذه الآراء ليس وقفًا على أولئك العلماء المحققين، إذ يجدها الباحث في مظانها الكثيرة، قديمة وحديثة، آثرنا أن ننسبها إلى مستنبطيها قبلنا؛ لأن الأمانة العلمية تفرض علينا إبراز ما لهؤلاء من فضلٍ طوقوا به جيد العرب والعربية!
وبين هذه الغمرة من النظرات العلمية الجديدة المبتكرة؛ جلنا على استحياء جولات متواضعة قطعنا مراحلها الأولى على هدى أولئك العلماء، ثم وجدنا أنفسنا بغتةً تلقاء الينبوع الصافي: ينبوع هذه اللغة، فغرفنا منه غرفًا، وعببنا منه عبًّا، وذقنا من حلاوة العربية ما يظن الصوفي أنه ذاقه بعد رياضة روحية شاقة مضنية.
وما لنا ألَّا تقودنا خطانا إلى ينبوع العربية الصافي وقد سلكنا إليه صراطه المستقيم؟
أليس الطريق الموصل إلى العربية مرسوم الخطوط، محدد المعالم، في
_________
١ من المعلوم أن أكثر القائلين بثنائية اللفظ العربي قد أخذوا بها في مفهومها التاريخي محاكاة لطائفة من اللغويين الغربيين، لكن الأستاذ الأفغاني أيَّد هذه الثنائية بنصوص معجمية، وأشار إلى ذلك في "أصول النحو". كما أنه فطن إلى مذهب ابن فارس في الاحتجاج للثنائية منذ عثر على مخطوطة "مقاييس اللغة" قبل أن يشرها الأستاذ المحقق عبد السلام هارون بزمنٍ غير قليل.
1 / 14
النصوص القديمة التي أورثنا إياها سلفنا الصالح، وصانها من عبث الأيدي علماؤنا الأبرار؟ أولم نعش في ظلال تلك النصوص؟ أولم نحمل طلابنا على أن يعيشوا في ظلالها آمنين؟ ألم نطبق عمليًّا على كتب المتقدمين ما هدتنا إليه نظرات العلماء المحدثين؟
فهل من عجب إذا سودت شواهد الأقدمين بياض كتابنا، وهذبت فيه مناهج المحدثين مقاييس أسلافنا، حتى جاء كالمرآة لملامح العربية في نشأتها وشبابها وكهولتها، وجاء معه الكثير من القديم الأصيل، والكثير من المبتكر الجديد!
ولن يفوتني في ختام هذه الكلمة أن أثني أطيب الثناء وأزكاه على إدارة مطبعة جامعة دمشق وموظفيها ومستخدميها وعمالها، لما بذلوه جميعًا من عناية بهذا الكتاب حتى أخرجوه بهذه الحلّة الجميلة، وزينوه بهذه الطباعة الرشيقة، وحرصوا على الدقة في ضبط ما ورد فيه من النصوص القديمة، فلم يقع فيه من سهو التطبيع إلّا القليل النادر، وهذا النادر نفسه صححناه، في "التصويبات" ونرجو القارئ الكريم ألّا يمضي في القراءة قبل أن يصحح ما ندَّ من هذه الكلمات.
وبعد ... فإنا نسأل الله أن يجعل هذا الكتاب خالصًا لوجهه الكريم، ونرجو لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أن يجد فيه -بعد الفراغ من قراءته- تلك المرآة التي أردناها صافية، تنطبع فيها ملامح الوجه العربيّ الأصيل، وتنمحي منها قسمات الشعوبيّ الدخيل.
دمشق في١٧ رمضان سنة ١٣٧٩هـ-١٩٦٠م.
صبحي الصالح.
1 / 15
الباب الأول: فقه اللغة "نشأته وتطوره"
الفصل الأول: بين فقه اللغة وعلم اللغة
فقه اللغة وعلم اللغة:
من العسير تحديد الفروق الدقيقة بين علم اللغة وفقه اللغة؛ لأن جل مباحثهما متداخل لدى طائفة من العلماء في الشرق والغرب، قديمًا وحديثًا، وقد سمح هذا التداخل أحيانًا بإطلاق كل من التسميتين على الأخرى، حتى غدا العلماء يسردون البحوث اللغوية التي تسلك عادة في علم اللغة، ثم يقولون: وفقه اللغة يشمل معظم البحوث السابقة، ولا سيما إذا قورنت هذه البحوث بين لغتين أو لغات متعددة١.
وإذا التمسنا التفرقة بين هذين الضربين من ضروب الدراسة اللغوية، من خلال التسميتين المختلفتين اللتين تطلقان عليهما، وجدناها تافهة لا
_________
١ انظر على سبيل المثال "علم اللغة" لوافي ١٢، وهذه الطريقة في الدراسة تسمى حينئذ الطريقة المقارنة method comparee. وراجع ما يتلعق بها في كتاب بيرو: perrot، Linguistiqus٧٢
1 / 19
وزن لها، فاسم على اللغة عند الفرنجة: Linguistiqus ou Science Du Langage، أي: العلم المختص بالكلام أو اللغة؛ واسم فقه اللغة عندهم: "philologie"، وهي كلمة مركبة من لفظين إغريقيين أحدهما philos بمعنى الصديق، والثاني Logos بمعنى الخطبة أو الكلام، فكأن واضع التسمية لاحظ أن فقه اللغة يقوم على حب الكلام، للتعمق في دراسته من حيث قواعده وأصوله وتاريخه.
وعلى هذا النحو كان العلماء في عصر إحياء العلوم يفهمون "فقه اللغة"، بل كان هذا الاسم إذا أطلقوه لا ينصرف إلّا إلى دراسة اللغتين الإغريقية واللاتينية؛ من حيث قواعدهما، وتاريخ أدبها، ونقد نصوصها، وأصبحنا اليوم نعد هذه الدراسة متحفية، ونسميها: "فقه اللغة الاتباعي" philologie classique
وربما لا يكون مفهوم علمائنا القدامى لـ"فقه اللغة" شديد الاختلاف عما أصبحنا نسميه: "فقه اللغة الاتباعي" إلّا في مواطن قليلة؛ فسنرى أن كثيرًا من مباحث القوم في اللغة كان يتناول العربية الفصحى؛ من حيث قواعدها، وتاريخ أبدبها، ونقد نصوصها، فقابلت الفصحى عندهم الإغريقية واللاتينية الفرنجة.
ومع أن دراساتنا هذه اشتملت على طائفة من المباحث خرجت عن النطاق الاتباعي التقليدي، آثرنا عندها ملحقة بفقه اللغة؛ لأنها قصرت على إبراز خصائص لغاتنا العربية، فكانت أجدر أن تسمى بالاسم الشائع عند العرب حين ألفوا في هذه الموضوعات، وإنه ليحلو لنا أن نقترح على الباحثين المعاصرين ألَّا يستبدلوا بهذه التسمية القديمة شيئًا، وأن يعمموها على جميع البحوث اللغوية؛ لأن كل علم لشيء فهو فقه، فما أجدر هذه الدراسات جميعًا أن تسمى فقهًا!
1 / 20
منهج فقه اللغة واستقلاله:
وحين نأخذ بهذا الاصطلاح، يسهل علينا أن نحدد نطاق فقه اللغة، سواء أتعلق بعرض المباحث القديمة عرضًا جديدًا، أم يقوانين علم اللغة في العصر الحديث، فليس شرطًا لازمًا أن يتحدث العالم اللغوي بعدة لغات؛ لأن كثيرًا من علماء اللغة وفقهائها المشاهير لم يكونوا قادرين على الاستخدام العمليّ لأية لغة غير لغتهم القومية١. على أننا لا نجحد الثمرات التي يجنيها فقه اللغة إذا أجاد تلك اللغات قراءة وكتابة وحديثًا، فلا ريب أنها توطئ لمباحثه، وترفده بالدقة فيما يستخلصه من الأحكام.
وفي دراسة لغتنا العربية، بخاصة أعظم بالباحث إذا كان ملمًّا ببعض اللغات السامية؛ كالسريانية والعبرية! فبهذا الإلمام يلاحظ مواطن التقارب والاختلاف، والأخذ والاقتباس.
ومنهج فقه اللغة في البحث مستقلٌّ كل الاستقلال عن مناهج العلوم الأخرى، فيجب إقصاء التفكير الفلسفي عنه، لئلَّا تجيء الأحكام فيه مطبوعة بالطابع الغيبي أو "ما وراء الطبيعة"، أو المنطق الصوري.
ولعل فقه اللغة في آثار علمائنا القدامى لم يأت بالكثير من الآراء الأصلية؛ لأنهم عدوه جزءًا لا يتجزأ من التفكير الفلسفي القديم، ولا سيما التفكير اليوناني الذي كان يرى أن "دراسة اللغة اليونانية في تراكيبها وأساليبها تصدق على جميع لغات العالم؛ إذ لا مناص من أن تجري تلك اللغات على مقياس اليونانية٢".
وعندما نطرح جانبًا كل أثر للمباحث التي لا تتعلق باللغة تعلقًا وثيقًا، نستطيع أن نعرف فقه اللغة بأنه "منهج للبحث استقرائي وصفي
_________
١قارن بـperrot، Linguistique٦
٢ Bloomfield Language.٦ وقارن بمناهج البحث في اللغة ١٤.
1 / 21
يُعرَف به موطن اللغة الأول وفصليتها وعلاقتها باللغات المجاورة أو البعيدة، الشقيقة أو الأجنبية، وخصائص أصواتها، وأبنية مفرداتها وتراكيبها، وعناصر لهجاتها، وتطور دلالتها، ومدى نمائها قراءة وكتابة".
والبحوث الأساسية المذكورة في التعريف تتعلق بعلوم ثلاثة:
١- التاريخ: لمعرفة موطن اللغة الأول، وروابط القربى بينها وبين اللغات الإنسانية الأخرى، وتنوع لهجاتها، وتطور خطها وكتابتها.
٢- علم الصوت: لبحث لهجات اللغة وأصواتها، ومعرفة أنواع التطور الصوتي فيها.
٣- علم الدلالة: لبحث تطور ألفاظها وما تفيده من المعاني.
ولقد انحصرت مناهج العلماء في القرن التاسع عشر في دراسة اللغة من وجهة النظر التاريخية١، فأعلن كبارهم: "أن علم اللغة تاريخي٢".
وأضاف كثير منهم إلى الناحية التاريخية معرفة التطور الذي أصاب اللغات في مخلتف العصور.
أما القرن العشرون فقد طبع بطابع الوصفية، وتناول العلماء فيه اللغات بدراسة خصائصه الصوتية والتعبيرية، فكانت مباحثهم مجموعة مستقلة من المواد المتداخلة؛ كالأصوات والتشكيلات والمعجمات والدلالات وما يمكن أن يسمى: "علم الاجتماع اللغوي"٣.
في ضوء هذه الدراسة الوصفية، انطلقوا يعالجون الأصوات الإنسانية بالبحث العميق، فقارنوا بين الحروف وصفاتها، ودرسوا أعضاء جهاز النطق، وأخضعوا ذلك كله للملاحظة المباشرة، وسنرى أن العرب برزوا في ذلك منذ قرون في علمي التجويد والصرف.
وبحثوا في اشتقاق الكلمات، وأصولها، وصيغها، وأبنيتها، وسمعاها، وقياسها.
ثم عنوا بدراسة معاني الألفاظ ودلالاتها، ملاحظين ما بينها وبين الاشتقاق من اتصال وثيق.
_________
prrrot، Linnguistique، chap. III.p. ٦٥ ١
٢ firth، personality and language، in Society
sociological Review، vol. II، sect، two، ١٩٥٠، p. ٣٧
٣ المصدر نفسه.
1 / 22
تطور التأليف في فقه اللغة عند العرب:
إن التأليف في فقه اللغة قد مَرَّ بأدوار جديرة أن تسجل، تقف الباحث على نشأة هذا العلم وتطوره، وإن من العسير استيعاب جميع الكتب المتعلقة بفقه اللغة تعلقًا غير مباشر؛ كالمصنفات النحوية والصرفية، والمباحث البلاغية، ووجوه القراءات المتواترة والشاذة، فلا بد لنا أن نقصر حديثنا على التآليف التي توفر أصحابها على دارسة ما يرتبط ارتباطًا قويًّا بفقه اللغة علمًا مستقلًّا قائمًا بنفسه، لا يناقض التعريف الذي قدمناه له.
لعل أقدم ما وصلنا من هذه الدراسات مباحث الأصمعي "أبي سعيد عبد الملك بن قُرَيْب"، المتوفي سنة ٢١٥هـ، عن الاشتقاق في العربية، وفي تسمتيتها فقه اللغة كثير من للتجوز؛ لأنها لا تعدو ملاحظات عامة اتسع القول فيها فيما بعد، وأوضحت جزءًا هامًّا من هذا العلم العظيم.
ثم أنشأ ابن جني "أبو الفتح عثمان" المتوفي سنة ٣٩٢هـ، الفقيه اللغوي العبقري كتابه "الخصائص"، وراح يناقش فيه بفكره الثاقب ومنطقه السليم أبحاثًا خطيرة في أصل اللغة "أإلهام هي أم اصطلاح" وفي مقاييس العربية، واطرادها وشذوذها، وتصاقب ألفاظها لتصاقب معانيها، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، والاشتقاق الأكبر، وتركب اللغات، واختلاف اللهجات، ومع أن "خصائص" ابن جني أجدر الكتب أن تسمى بفقه اللغة، ضنَّ عليها مؤلفها بهذا الاسم!
1 / 23
أما أحمد بن فارس "أبو الحسين القزويني" المتوفي سنة ٣٩٥هـ، وهو أستاذ الصاحب بن عباد، المتوفي سنة ٣٨٥هـ، فقد خلع على مباحثه في نشأة العربية اسم: "الصاحبي في فقه اللغة، وسنن العرب في كلامها"، وذهب إلى أن اللغة إلهام وتوقيف، مستدلًّا بقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ . على أنه ضمَّن كتابه هذا بعض المباحث الهامة حقًّا في فقه العربية؛ كخصائص هذه اللغة، واشتقاقها، وقياسها، ومترادفها، ومجازها، واشتراكها، ونحتها، واختلاف لغاته ولهجاتها.
ونرى الثعالبي "أبا منصور عبد الملك بن محمد"، المتوفى سنة ٤٢٩هـ، ينشئ بعد ذلك كتابه "فقه اللغة" الذي لا تجد اسمه إلّا كالثوب الفضفاض عليه، فإنه لم يضمنه إلّا بعض المباحث القليلة التي يمكن أن تتعلق بهذا العلم، كإيراده بعض الألفاظ العربية التي نسبها أئمة اللغة إلى الرومية، أو بعض الأسماء القائمة في لغة العرب والفرس على لفظ واحد، أو الأسماء التي تفردت بها الفرس دون العرب، فاضطرت العرب إلى تعريبها أو تركها كما هي، أو الأسماء التي ماتت فارسيتها، مع أن عربيتها ما تزال مستعملة محكية؛ وهذه المباحث مبثوثة في الباب التاسع والعشرين من كتابه، ولا تشغل أكثر من خمس عشرة صفحة.
أما ابن سيده "أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي"، المتوفى سنة ٤٥٨هـ، فقد عرض في كتابه "المخصص" لبعض البحوث المتعلقة بنشأة اللغة العربية، وبالترادف والتضاد والاشتراك والاشتقاق، وتعريب الألفاظ الأعجمية، ونحو ذلك، والمخصص يقع في سبعة عشر جزءًا، وهو حسن التنسيق دقيق.
ويتوفر الجواليقي "أبو منصور، موهوب بن أحمد"، من علماء القرن السادس الهجري، بوجه خاص على دراسة "المعرب من الكلام الأعجمي"، وكتابه مرتب على حروف المعجم، ويتلوه البشبيشي المتوفى سنة ٨٢٠هـ بكتابه "التذليل والتكميل" لما استعمل من اللفظ الدخيل".
1 / 24
ثم يجمع جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ٩١١، من علماء القرن التاسع الهجري، كتابه العظيم "المزهر في علوم اللغة وأنواعها" من أكثر الكتب المتقدمة، ويزيد عليها بعض الأبحاث الجديدة، ولعل كتابه -بتنوع أبوابه، واتساع أغراضه- ألصق المؤلفات بفقه اللغة؛ ففيه تقرأ عن نشأة اللغات، وتداخلها، وتوافقها، والمصنوع والفصيح، والمستعمل والمهمل، والحوشي والغريب، والمعَرَّب والمولَّد، والاشتقاق والاشتراك، والترادف والتضاد، والنحت، والتصحيف، والتحريف، والشوارد والنوادر، وما اختلفت فيه لغة الحجاز ولغة تميم، ويقع في جزئين كبيرين.
وفي القرن الحادي عشر يعنى شهاب الدين الخفاجي خاصة بالألفاظ الدخيلة على العربية، فيؤلف في ذلك كتابه "شفاء الغليل، فيما ورد في كلام العرب من الدخيل".
1 / 25
الفصل الثاني: فقه اللغة في كتبنا العربية القديمة
من وصف الحقائق إلى فرض القواعد:
لقد انتهى فقهاء اللغة اليوم إلى أن "وظيفة اللغويّ هي وصف الحقائق لا فرض القواعد١"، وتلك وظيفة لم يفهما على حقيقتها أحد مثلما فهمها وطبقها سلفنا الصالح من علمائنا الأولين؛ إذ أنشأوا في فجر الإسلام يجمعون اللغة ورواياتها، ويمحصون نصوصها كل التمحيص، ويخضعونها لطرائق الاستقراء، ليخرجوا منها بما يسمونه "سنن العرب في كلامها"٢.
يمكننا القول إذن: إن منهج فقه اللغة عند العرب بدأ وصفيًّا استقرائيًّا، تقرر فيه الوقائع في ضوء النصوص، لا تفرض على أحد ولا
_________
١- Arnold Smith، Gramm. and the use Words، p. VIII
٢- وتجد الكثير من هذه السنن في الكتب اللغوية، كالصاحبي والخصائص والمزهر معزوة غالبًا إلى بعض العلماء الأولين.
1 / 26
يُقْضَى بها على أحد، ولكن هذا المنهج السليم سرعان ما انحرف واعتوره الضعف، منذ أن استبدل العرب القواعد بالحقائق، والمعايير بالوقائع، والإلزام المتسلط بالوصف الدقيق الأمين، وبدأ الناس يسمعون من اللغويين مثل هذه اللهجة الجازمة الحاسمة: "وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائها، ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسًا نقيسه الآن نحن"١.
عوَّلوا أول الأمر على سليقة الأعرابي، وظنوا أنه "إذا قويت فصاحته، وسمت طبيعته، تصرَّف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به"٢، واقتنعوا بأن الأعراب، "قد يلاحظون بالمُنَّة والطباع ما لا نلاحظه نحن على طول المباحثة والسماع"٣، ومع احتمالهم أن العربي الفصيح ينتقل لسانه٤ إذا فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها٥، ومنع رغبتهم حينئذ في رفض لغته، وترك تلقي ما يرد عنه، ورأيناهم يجنحون إلى تقييد الباحثين بما قاسه أولئك الأعراب، وقالوه، فلا يجرؤ أحد على قياس ما لم يقيسوه.
وغَلَوْا في سليقة الأعرابي غلوًّا فاحشًا، حين نسبوا إليه العجز عن نطق كلمة قرآنية بغير لهجته ولحنه، فقرأ أعرابيّ بالحرم على أبي حاتم السجستاني: "طيبى لهم وحسن مآب" فقال له: "طوبى، فقال: طيبى، فعاد أبوحاتم يصلحها له مرة أخرى قائلًا: طوبى، فقال:
_________
١ الصاحبي ٣٣.
٢ الخصائص ١/ ٤٢٤.
٣ المزهر ٢/ ٣٠٩.
٤ الخصائص ١/ ٤٢١.
٥ نفسه ١/ ٤٠٥.
1 / 27