كانت الفوضى التي ضربت أطنابها في روسيا، تلك الفوضى التي ظل الشيوعيون يحاربونها مدة عشرين عاما متتابعة، كانت هذه الفوضى تتجلى عند نهاية عهد القياصرة، في خلل الإدارة الحكومية، وفي روح الاستياء التي عمت نفوس الشعب.
وإذا عرفنا ما في نفسية الروسي من عواطف متضاربة تتأرجح أحيانا حتى تتفاوت من الوحشية إلى الرقة، لو عرفنا ذلك لما أدهشنا أن نسمع أن كثيرين من المنفيين إلى سيبيريا كانوا يعاملون معاملة حسنة بواسطة حراسهم.
وسيبيريا بلاد واسعة يشتد فيها البرد شتاء كما يشتد فيها الحر صيفا، وقد كان بين الذين نفوا إلى هناك عدد كبير من الكتاب؛ ولذلك فقد تركوا لنا أوصافا شائقة للمنطقة، وكلها تقريبا تكاد تخلو من الشكوى، ويبدو مما كتبوا أنه لم يكن ينقصهم هناك أي شيء اللهم إلا الجو المناسب لمزاولة مهنتهم ومباشرة نشاطهم.
وقد كان النفي خير مساعد لستالين على التثقيف، وهي فرصة أتاحها له المنفى وما كانت لتتاح له مطلقا لولا النفي، بسبب حياته المضطربة كداعية سياسي، هذا علاوة على أن الرجل الذي يميل إلى صيد السمك وصيد الحيوانات في كل يوم لا يمل الحياة في سيبيريا. كان ستالين في صباه على وشك الإصابة بذات الرئة، ولكنه شفي تماما من هذه العلة أثناء نفيه في سيبيريا.
ستالين الشاب الثائر في عام 1915 عندما كان يحمل اسم «صوصو».
ستالين «المشبوه» صورته في صحيفة السوابق ...!
وقد حدث يوما وهو يجتاز نهرا متجمدا أن فاجأته الرياح القطبية القاسية العاتية التي تجرف مراعي «الإستبس» أحيانا - ويسمونها هناك بوران - فاجأته هذه الرياح وهو يجتاز جمد النهر، فظل ساعات طويلة يصارع الريح الصرصر، حتى تمكن بشق النفس من الوصول إلى كوخ إحدى الفلاحات، ولكن قواه كانت قد خارت تماما حتى إنه لم يتمكن من دفع الباب والدخول، وأغمي عليه عند عتبة الباب، ولحسن حظه شعر به سكان الكوخ فأدخلوه عندهم وأسعفوه، فنام مدة ثمان ساعات متتالية وهو لا يعي شيئا مما حوله.
وتقول القصة: إنه منذ ذلك اليوم أصبح محصنا ضد السل!
وهكذا أكمل ستالين تعليمه في سيبيريا نفسها، حتى إنه ليبدو أن القيصر المسكين، الذي كان يريد القضاء على أعدائه بإرسالهم إلى المنفى، إنما كان يساعدهم بهذا النفي على الاستزادة من الصحة والعافية، علاوة على الثقافة العقلية!
ولم يتمكن ستالين من فهم كارل ماركس على حقيقته إلا وهو في منفاه بسيبيريا، على الرغم من أن ثلاثة أجيال متعاقبة من الروس كانت قد أكبت على دراسته ...
Página desconocida