هذا التفسير باطل تماما لعدة أسباب: (أ)
فاسپينوزا قد بدأ، في عبارته السابقة، بالكلام عن نظام الأفكار، ورده إلى نظام الأشياء؛ أي إنه فسر الأول بالثاني، والترتيب هنا غاية في الأهمية؛ لأنه لو كان قد قال: إن النظام والارتباط بين الأشياء هو ذاته النظام والارتباط بين الأفكار، لكان المعنى في هذه الحالة مختلفا كل الاختلاف، ومؤيدا للتفسير المثالي. (ب)
والسبب الثاني هو أن اسپينوزا، رغم تأكيده أن مجال الأفكار والأشياء واحد، قد أبدى ميولا مادية واضحة، وظهر ذلك بكل وضوح عندما طبق رأيه العام في العلاقة بين الفكر والامتداد على مشكلة الجسم والذهن، وسنتناول هذه النقطة الآن بالتفصيل لأهميتها الكبيرة، ولما تلقيه من ضوء على الاتجاهات الحقيقية لفلسفة اسپينوزا.
فقد رأينا اسپينوزا يحرص على أن يعد الجسم موضوعا للفكرة التي يكونها الذهن البشري؛ وعلى ذلك فالذهن لا يمكن أن يفهم إلا إذا فهم موضوعه؛ أي الجسم. ويبدو أن اسپينوزا قد شعر أن الذهن وحده هو الذي كان يحظى على الدوام باهتمام الفلاسفة، وأن الجسم وقدراته كان موضوعا للتجاهل والاحتقار من جانب الفلاسفة، والدليل على ذلك قوله: «إن أحدا لم يوضح حتى الآن حدود قوى الجسم؛ أي إن التجربة لم تكشف لأحد بعد عما يستطيع الجسم أداءه بقوانين الطبيعة وحدها، بقدر ما ينظر إلى الطبيعة أنها ممتدة. فلم يكتسب أحد حتى الآن من المعرفة الدقيقة بتركيب الجسم ما يمكنه من تفسير جميع وظائفه ، كما أنني لست بحاجة إلى أن أشير هنا إلى ما يلاحظ في الحيوانات الدنيا من أفعال عديدة تفوق حكمة البشر بكثير، وإلى أن المصابين بمرض السير أثناء النوم يقومون أثناء نومهم بأفعال كثيرة لا يجرءون على القيام بها وهم أيقاظ، فهذه الأمثلة تكفي لإثبات أن الجسم يستطيع بقوانين طبيعته الخاصة وحدها أن يقوم بأفعال كثيرة يحار لها العقل. وفضلا عن ذلك فلا أحد يعرف كيف، أو بأي الوسائل ، يقوم الذهن بتحريك الجسم، ولا عدد درجات الحركة التي يستطيع الذهن أن يبعثها فيه، أو مدى السرعة التي يمكنه تحريكه بها. وهكذا فإن الناس عندما يقولون: إن أصل هذا الفعل الجسمي هو الذهن الذي يسيطر على الجسم، إنما يستخدمون ألفاظا لا معنى لها، أو يعترفون بألفاظ ملتوية بأنهم يجهلون سبب الفعل الذي يتحدثون عنه دون أن تتملكهم لذلك دهشة.»
32
وهكذا حرص اسپينوزا على أن يتخلص من هذا الأسلوب الساذج في معالجة الأمور، وقرر أن يكمل النقص في معلومات الفلاسفة عن طريق محاولة إيضاح طبيعة الذهن ذاته من خلال موضوعه الذي هو الجسم. وقد بلغ اهتمامه بهذا الموضوع حدا يجعل التفسير المادي لفلسفته أمرا غير بعيد الاحتمال - وإلا فكيف يفسر المرء كون الحديث عن «الجسم» يحتل الجزء الأكبر من الباب الثاني من «الأخلاق» وهو الباب الذي كان يبحث، حسب عنوانه، في «أصل الذهن وطبيعته»؟
في ملحوظة القضية 13 من الباب الثاني من «الأخلاق»، يحدد اسپينوزا معالم اتجاهه - الذي كان جديدا كل الجدة بالنسبة إلى ما سبقه في تاريخ الفلسفة - بأنه محاولة فهم طبيعة الذهن البشري من خلال الجسم «فبقدر تفوق أي جسم على غيره في ملائمته لأداء أفعال عديدة أو تلقي انطباعات متعددة في وقت واحد، يكون الذهن الذي يتخذ من ذلك الجسم موضوعا له، أقدر من غيره على تكوين عدة إدراكات في آن واحد» ...
وتلي ذلك مجموعة من القضايا التي تتضمن كلها تمجيدا للجسم وإظهارا لأهميته في إيضاح طبيعة القدرات الذهنية للإنسان. وهكذا يقول: «إن الذهن البشري قادر على إدراك عدد كبير من الأشياء، ويكون أقدر على ذلك بقدر ما يتمكن جسمه من تلقي عدد أكبر من الانطباعات.»
33
ثم يأتي بعدة قضايا تتضمن تفسيرا ماديا لقدرات الذهن التي تتم دائما من خلال الجسم - ومنها تفسير مادي للذاكرة
Página desconocida