وفي الرسالة 14 يعاود أولدنبرج إلحاحه على اسپينوزا، فيقول: «اسمح لي أن أعرب لك أيضا عن أسفي لرفضك نشر المؤلفات التي تعترف بأنها تنتسب إليك في بلد فيه من الحرية ما يتيح للمرء أن يفكر ويعبر عن أفكاره كما يشاء، ولكم كنت أود أن تتحرر من هذه المخاوف لا سيما وفي إمكانك أن تحذف «اسمك، فتكون بذلك بمنأى عن كل خطر».»
ويتكرر إلحاح أولدنبرج في الرسالة رقم 31؛ إذ يقول: «لم التردد يا صديقي؟! ومم تخاف؟! جرب وابدأ وقم بهذا العمل الهام، وستجد أصوات الفلاسفة جميعا ترتفع لحمايتك ... إن الشك لا يساورني أبدا في وجود شيء في ذهنك يهدد بالخطر وجود الله والعناية الإلهية؛ وطالما أن هذه الدعامة قد حفظت، فسيكون الدين مرتكزا على أساس متين، وسوف يتسنى الدفاع عن جميع الأفكار الفلسفية أو تبريرها، فلتكف إذن عن التباطؤ ولا تقطع جهودك.»
ويبدو أن اسپينوزا قد أحسن الظن وقتا ما بالجو السائد في عصره، أو أنه خضع لهذا الإلحاح ولغيره، فحاول أن ينشر كتاب «الأخلاق» بالفعل؛ إذ يقول لأولدنبرج في الرسالة رقم 68: «إنه كان يعتزم الذهاب إلى أمستردام لتسليم الكتاب إلى الطابع، ثم بلغه أن هناك شائعات قوية تتردد بأنه سيطبع كتابا يثبت فيه عدم وجود إله، وانتهز رجال الدين هذه الفرصة فقدموا ضده شكاوى إلى الحكام والأمراء، بل إن أنصار ديكارت أنفسهم لم يخفوا كراهيتهم له. وهكذا قرر إرجاء النشر حتى يرى ما تسفر عنه الحوادث.» (ج)
وحينما علم اسپينوزا أن شخصا سيترجم كتابه «البحث اللاهوتي السياسي» إلى اللغة الهولندية، سأل صديقه «يلس
Jelles » في الرسالة رقم 44، عن صحة هذا الخبر، وألح عليه أن يحول دون ذلك إذا استطاع؛ إذ إن الكتاب سيمنع من التداول حتما إذا ما نشر بالهولندية. (د)
وتحفل رسائل اسپينوزا بالشواهد على أنه لم يشأ أن يطلع أحدا على كتاباته إلا من كان في رأيه قادرا على فهمها فهما صحيحا؛ ففي الرسالة رقم 70 يحدثه صديقه «شولر» عن صديق ثالث لهما هو «تشيرنهاوز» سأله العالم الهولندي الكبير «هويجنز
Huygens » إن كانت لدى مؤلف البحث اللاهوتي السياسي كتب أخرى، فرد تشيرنهاوز بأنه لا يعرف إلا «مبادئ الفلسفة الديكارتية»، ويقول صاحب الرسالة بعد ذلك: «إن تشيرنهاوز لم يضف إلى ذلك شيئا عنك، وهو يأمل ألا يكون في هذا ما يكدرك». وفي الرسالة ذاتها يبلغه أن تشيرنهاوز يرى في ليبنتس أهلا للاطلاع على مؤلفات اسپينوزا «بشرط أن توافق أنت على ذلك ... أما إذا لم توافق، فلا تخش شيئا؛ إذ إنه سيحتفظ بكتاباتك التي لم يذكر عنها شيئا حتى الآن.»
وهكذا يبدو أن اسپينوزا قد نقل الحذر إلى أصدقائه وتلاميذه، وأنه كان يطلب إليهم أن يستشيروه أولا قبل نقل آرائه إلى أي شخص، ومن الواضح أنه كان يودع لديهم نسخا، وربما أجزاء، خطية من قضايا كتاب الأخلاق، وألا يسمح لهم بأن يطلعوا عليها أحدا إلا بعد موافقته؛ إذ إن هويجنز قد اطلع، كما رأينا، على البحث اللاهوتي، كما أن «مبادئ الفلسفة الديكارتية» كان منشورا باسم اسپينوزا. فلا بد أن إشارة تشيرنهاوز إلى المؤلفات الأخرى كانت تعني نسخة خطية تامة أو ناقصة من «الأخلاق». (ه)
وأخيرا، فليس أدل على أن الحذر كان حقيقة واقعة في حياة اسپينوزا، من أنه قد نقش على خاتمه كلمة «حذار!» باللاتينية (
Caute ) وجعل من هذه الكلمة شعارا له في حياته. (4-1) عودة إلى المنهج الهندسي
Página desconocida