150

6

وعن تمكن اسپينوزا من الاحتفاظ «بجميع القيم البشرية العظيمة للأفلاطونية المحدثة والروحية بوجه عام.»

7

مثل هذه المحاولات للتقريب بين فلسفة اسپينوزا وبين الأفلاطونية المحدثة هي في رأينا محاولات ساذجة تماما. فمن العبث إضاعة الجهد في تلمس أوجه شبه سطحية بينه وبين مثل هذه التيارات الفكرية، في الوقت الذي ينطق فيه محتوى فلسفته بالتنافر التام بين آرائه وبين مثل هذا المذهب الحافل بالغائية وتشبيه الطبيعة والعالم بالإنسان وكراهية العلم والمعقولية. وإذا كانت هذه المحاولات تبذل من أجل إثبات العلم أو سعة الاطلاع، فإن ذلك يتم قطعا على حساب العقل والمنطق السليم، ففكرة «القوة » التي اعتقد بروشار أنها طاغية في فلسفة اسپينوزا، هي أبعد التصورات عن ذهنه؛ لأنها تنطوي على نظرة إلى الكون من خلال الإنسان. ونظرية اسپينوزا في العلاقة بين النفس والجسم، وفي فكرة النفس بوجه عام، هي أبعد ما تكون عن تفكير أفلوطين؛ إذ كان كل هدف اسپينوزا هو أن يقضي على القول بكيان مستقل للنفس، كما لو كانت «دولة داخل دولة». وأبعد الأمور عن ذهن اسپينوزا أن يقول بنفس كلية في الكون أو بغير ذلك من مظاهر تشبيه الكون بالإنسان. هذا إلى أن فكرة مشاركة النفوس الفردية في النفس الكلية كانت عند أفلوطين وسيلة لإثبات خلود النفس بالمعنى التقليدي الذي رفضه اسپينوزا رفضا صريحا قاطعا. أما الجزم بأن اسپينوزا قد «تشبع» بالأفلاطونية المحدثة فقول لا يقوم عليه أي دليل؛ لأنه إذا كان قد تعرف على هذا التراث من خلال من درسهم من مفكري العصور الوسطى، فليس معنى ذلك أنه قد «تشبع به» أو آمن به على الإطلاق، بل إن كل الدلائل تدل على أنه قد نبذه في نفس اللحظة التي نبذ فيها المبادئ الأساسية لتفكير العصور الوسطى. وإنه لمن الغريب حقا أن يقرب شارح - على أساس تشابه سطحي أو بناء على تفسيره الخاص لنصوص معينة - بين فيلسوف عقلي دقيق مثل اسپينوزا وبين مذهب آخر تتغلغل الغائية في كل جوانبه، ويحتشد بالأفكار اللاعقلية واللاعلمية، ك «المبادئ أو العلل البذرية»، و«التعاطف» الكوني، والقوى الخفية التي تزخر بها الطبيعة؛ أعني مذهبا لا يمكن أن يقال عنه سوى أنه نكسة شديدة للمعقولية اليونانية واتجاهاتها العلمية السليمة. •••

ولكن هذه المحاولات كلها هينة إلى جانب محاولة أخرى كانت أوسع انتشارا بكثير، بذلها عدد كبير من شراح اسپينوزا اليهود - وإن لم يخل الأمر من بضعة مفكرين غير يهود ساروا في الاتجاه نفسه - للتقريب بين فلسفته وبين التراث اليهودي، بل للنظر إليه على أنه يمثل مظهرا رئيسيا من مظاهر ذلك التراث. هذه المحاولة لا تقوم، في رأينا، على سوء تفسير فحسب، بل هي مبنية أيضا على سوء النية ، وعلى استغلال متعمد للعلم في سبيل إرضاء نزعات عنصرية معينة، وهو أسوأ أنواع التشويه في البحث العلمي.

ويتفاوت هؤلاء الشراح في درجة وطريقة تقريبهم بين فلسفة اسپينوزا وبين اليهودية؛ فبعضهم يتجاهل معظم نصوص اسپينوزا ويركز اهتمامه على نص واحد أو نصين منتزعين من سياقهما، ليؤكد تأكيدا لا عقليا قاطعا أن اسپينوزا ظل مفكرا يهوديا من البداية إلى النهاية. وبعضهم الآخر لا يصل ذهنه إلى هذا الحد من السطحية وضيق الأفق - وإن يكن لا يقل عن الأولين تعصبا - فيحاول أن يتحايل على النصوص ويطوعها لأغراضه الخاصة بطريقة فيها شيء من الدهاء، ولكن هدفها، آخر الأمر، هو أيضا إثبات يهودية تفكير اسپينوزا على حساب الحقائق القاطعة، وسوف نعرض فيما بعد أمثلة عديدة لهذين النوعين من الشراح، ولكن ستصادفنا أمثلة أخرى غير قليلة لشراح كانوا هم أنفسهم من اليهود، ولكنهم لم يستطيعوا مسايرة الأنماط السابقة من المفكرين، وسلموا بأن تفكير اسپينوزا لا يمكن أن يعد جزءا من التراث اليهودي على الإطلاق.

وسوف نبدأ بحثنا بالواقعة الأساسية في هذا الموضوع وهي واقعة طرد اسپينوزا من المجتمع الديني اليهودي؛ أي توقيع أحبار اليهود لعقوبة «الحرم» عليه، وهي واقعة يتجاهلها، أو يخفف من شأنها، معظم الشراح اليهود، وإن كانت قاطعة الدلالة؛ إذ إن اليهودية الدينية قد طردت اسپينوزا من صفوفها رسميا، ولم يعبأ هو ذاته بهذا الطرد، بل بادر إلى تغيير اسمه من صيغته اليهودية «باروخ» إلى مقابله اللاتيني «بندكتوس» ولم يتراجع عن موقفه هذا إلى النهاية؛ لذلك كان من الضروري أن نبدأ بحثنا في العلاقة بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي بإيضاح هذه الواقعة الرئيسية. (2) طرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية

يناقش «فوير

Feuer » الأسباب التي أدت إلى توقيع عقوبة «الحرم» على اسپينوزا، فيستبعد أن تكون تلك الأسباب دينية فحسب؛ فالاختلافات في المعتقدات اللاهوتية وحدها ليست في نظره تفسيرا كافيا لهذا الطرد؛ فقد قدمت إليه رشوة لتغيير موقفه، ولو كانت المسألة خلافا في العقائد وحدها لما حاولت الطائفة اليهودية تقديم هذه الرشوة إليه. فلا بد إذن أن الأمر كان متعلقا بأفعال لا بعقائد. وهو يرى أن السبب الحقيقي لهذا الطرد هو نزعة اسپينوزا التحررية في آرائه السياسية الاجتماعية، وهي نزعة تعد خطرا على الاتجاه المحافظ بين رجال الدين اليهود. «فاسپينوزا كان ذا نزعة عالمية، يحتقر فكرة الشعب المختار. وقد اجتذبته، قبل كل شيء، الآراء الدينية المتحررة، وكانت آراؤه السياسية والاقتصادية مضادة تماما لآراء قادة الطائفة اليهودية؛ فقد كان كبار اليهود ذوي نزعة ملكية، مخلصين لأسرة أورانج، وعلى علاقة طيبة بالحزب الكلڨيني، وبحملة أسهم شركتي الهند الهولندية الشرقية الغربية. أما اسپينوزا فكان جمهوريا متحمسا، من أتباع «يان ديڨيت» ... وقد ارتبط بالجماعة السياسية التي دعت إلى فض الشركات التجارية الكبرى، وأعجب بالاقتصاد الجمهوري الذي انتقد الاحتكارات ...»

8

Página desconocida