145

ومن المؤكد أن اسپينوزا كان يجعل للدولة، بوصفها نظاما سياسيا، مسئولية كبيرة في توجيه رعاياها في الطريق السليم؛ فهو لم يكن من أولئك الفلاسفة الذين يقللون مسئوليات الدولة إلى الحد الأدنى، وإنما أكد بالفعل أنه، منذ اللحظة التي يتنازل فيها الأفراد للدولة عن بعض حقوقهم في سبيل تحقيق المزيد من الحرية بفضلها، تصبح الدولة هي المسئولة عن المستوى الأخلاقي والاجتماعي لمواطنيها، وإذا ظهر أي انحراف عام في سلوك هؤلاء المواطنين فمن الواجب أن تلام عليه الدولة ذاتها، لا الأفراد: «... فمن المؤكد أن الفتن والحروب وكسر القوانين أو حرقها لا ينبغي أن تعزى إلى وجود الشر في الرعايا بقدر ما تعزى إلى سوء حالة نظام الحكم ذاته؛ ذلك لأن الناس لم يخلقوا صالحين لأن يكونوا مواطنين، وإنما ينبغي أن يجعلوا صالحين لذلك. وفضلا عن ذلك فإن انفعالات الناس الطبيعية واحدة في كل مكان، فإذا ما استشرى الفساد في مكان ما، وازدادت الجرائم انتشارا في دولة دون الأخرى. فلا بد أن الأولى لم تمض في عملية توحيد رعاياها كما ينبغي، ولم تضع قوانينها ببعد نظر كاف؛ وبذلك تكون قد أخفقت في استخدام حقها في ممارسة الحكم.»

18 (3) الموقف السياسي العام لاسپينوزا

ليس البحث في موقف اسپينوزا السياسي من الموضوعات الهينة؛ إذ إن آراء اسپينوزا الصريحة لا تستكشف إلا بعد قدر غير قليل من البحث والمقارنة. وفضلا عن ذلك فقد اشتهر عنه وقتا طويلا أنه كان منعزلا معتكفا لا شأن له بالصراع السياسي الحقيقي الدائر في عصره، ولم يبدأ الباحثون في الكشف عن غوامض حياته العملية إلا في وقت غير مبكر من القرن الحالي. وبعد ذلك تضاربت الآراء إلى حد بعيد عن الموقف الحقيقي الذي كان اسپينوزا يقفه من مختلف التيارات السياسية في عصره، وكان هذا التضارب راجعا في المحل الأول إلى رغبة كثير من الباحثين في تفسير اسپينوزا من خلال الاتجاهات السياسية السائدة في عصورهم، لا في عصره هو.

ونستطيع أن نتخذ نقطة بداية بحثنا من آراء «ديزانتي

Desanti » الذي قدم تفسيرا ماركسيا لفلسفة اسپينوزا، ولا سيما النواحي السياسية فيها؛ فهو يرى أن اسپينوزا لم يكن بمعزل عن التيارات السياسية في عصره، ويميل إلى القول بأنه كان على اتصال بالهيئات البورجوازية الحاكمة في عهد «يان ديڨيت» الجمهوري، ويحلل «ديزانتي» النص الذي بدأ به اسپينوزا «البحث اللاهوتي السياسي»، والذي يتحدث فيه اسپينوزا عن ضرورة صيانة الحرية السائدة في العصر الجمهوري القائم والدفاع عنها، قائلا إن هذا النص يكشف عن مدى ارتباطه بالأفكار السائدة في «الجمهورية التجارية».

19

وسوف نورد هذا النص لكي يكون بحثنا هذا قائما على أساس ملموس: «لما كان قد قدر لنا أن نحظى بهذا الخير العميم، وهو أن نحيا في جمهورية يتمتع فيها كل شخص بالحرية الكاملة في الحكم وتمجيد الله على حقيقته، وينظر فيه الجميع إلى الحرية على أنها أنفس وأغلى ما يملكون؛ فقد رأيت أنني لا أكون جحودا ولا أكون قد بذلت جهدا عقيما إذا ما أثبت أن هذه الحرية يمكن أن تمنح دون خطر على التقوى والدولة، بل إن القضاء عليها يستتبع حتما القضاء على سلام الدولة وعلى التقوى.» ومن هذا النص يستنتج ديزانتي أن اسپينوزا كان حريصا على سلامة الدولة حتى تثرى المؤسسات التجارية البورجوازية، وأن دعوته إلى استتباب النظام معناها الإبقاء على النظام القائم والقضاء على الروح الثورية. أما الدعوة إلى التقوى فيقصد منها التهدئة الدينية للنفوس لنفس الغرض.

20

وهكذا لخص الوضع السياسي والطبقي لاسپينوزا بأنه وضع شخص «متضامن مع الطبقة المسيطرة»،

21

Página desconocida