9
ومع ذلك فهناك، رغم هذه الضرورة المطلقة، شعور مؤكد بالحرية لدى الإنسان، ورغبة في الحكم على الأشياء كما لو كان المرء هو الآمر الناهي في مجاله الخاص. وهكذا يفرق اسپينوزا، رغم إيمانه بفكرة الضرورة، بين القوانين الطبيعية والقوانين التي يسنها الإنسان، ويفسر الاعتقاد بوجود النوع الثاني من القوانين، الخاضع لإرادة الإنسان، بأنه راجع إلى جهلنا بالأسباب النهائية القصوى، وإيثار الحديث عن الأسباب القريبة، مما يؤدي إلى قبول فكرة عرضية الأشياء حتى تكون الحياة ممكنة بالنسبة إلينا.
10
وواضح، من هذه الفكرة الأخيرة، أن اسپينوزا يقول بمستويات مختلفة لتفسير فكرة الحرية؛ ففي المستوى المطلق يكون كل شيء ضروريا، وتنتفي الحرية بمعنى المشيئة التي لا تخضع لعامل خارجي. أما في المستوى النسبي أو الحيوي فإن بعض الأشياء يكون عرضيا إذا كانت معرفتنا بأسبابه غير كافية، وإذا كانت رغبتنا قوية في أن نسلك كما لو كنا نتحكم فيه بالفعل. وهكذا تكون الضرورة بالنسبة إلى اسپينوزا مثلا أعلى للمعرفة؛ فإذا تأملنا الأشياء من وجهة نظر المعرفة الكاملة بها؛ أي إذا تصورنا أن لدينا معرفة كاملة بأدق تفاصيل الطبيعة، فمن الواجب عندئذ أن يختفي الاعتقاد بحرية الإرادة، ويصبح كل شيء مرتبطا ارتباطا ضروريا بأسبابه المعروفة، ولكن الملاحظ من جهة أخرى أن موقفنا الإنساني ذاته لا يتيح لنا الوصول إلى هذه المعرفة الكاملة التي تغدو كل الحوادث في ظلها ضرورية، فمعرفتنا بطبيعتها ناقصة، ولا يمكن أن تستوعب كل شيء. وهذا الجهل الذي نعيش فيه - بدرجاته المتفاوتة - يجعل لفكرة حرية الإرادة مكانا في تفكيرنا على الدوام. وإذن فحرية الإرادة فكرة «واقعية». أما فكرة الضرورة فهي تعبير عن مثل علمي أعلى، والفكرتان تنتميان إلى منظورين مختلفين: منظور الحياة الفعلية من جهة، ومنظور المثل الأعلى للمعرفة العلمية من جهة أخرى. ويبدو أن اسپينوزا لم يكن يرمي إلا إلى استخلاص هذه النتيجة؛ أي إلى أن يقول: تستطيعون أن تعتقدوا أن إرادتكم حرة طالما أنكم تجهلون الأسباب الحقيقية للظواهر. وأنا لا أنتقدكم على ذلك، ولكن كل ما أريده منكم هو أن تعترفوا بأن المعرفة الكاملة لهذه الأسباب كفيلة بأن تقضي على اعتقادكم الحالي بحرية الإرادة، وبأن تأمل الأشياء من وجهة النظر الشاملة يؤدي حتما إلى سيادة فكرة الضرورة.
ومن المؤكد أن نفي حرية الإرادة، وتأكيد سيادة الضرورة - حتى على مستوى المثل الأعلى للمعرفة - يثير حتما السؤال عن إمكان المسئولية والجزاء، وبالتالي عن إمكان قيام الأخلاق ذاتها. وبالفعل نجد اثنين على الأقل من مراسلي اسپينوزا، وهما «أولدنبرج» و«بلينبرج»، يبديان نفس الاعتراض؛ إذ إن الجزاء الإلهي، من مثوبة وعقاب، يغدو أمرا لا معنى له إذا كانت جميع أفعالنا ترجع إلى الله بوصفه علة لها. وبعبارة أخرى: فإذا كانت الضرورة هي المتحكمة في جميع هذه الأفعال، فعندئذ تغدو جميع الآثام مباحة، وكل الشرور لها ما يبررها.
ويرد اسپينوزا على هذا الاعتراض، في الرسالة رقم 75، قائلا: إن الضرورة كما يقول بها لا تقضي على القوانين الإلهية ولا على القوانين البشرية، وسيظل للأخلاق دائما نفعها سواء اتخذت الأوامر فيها صورة القوانين أو الشريعة الإلهية، أم اتخذت أية صورة أخرى. وسواء نظرنا - كما يفعل العامة - إلى القواعد الأخلاقية على أنها تصدر عن الله بوصفه قاضيا، أو تأملناها من حيث هي صادرة عن ضرورة الطبيعة، فستظل في كل الأحوال نافعة لنا. كذلك فإن الشرور الناشئة عن الانفعالات والأفعال المنحرفة لا تكون أقل ضررا إذا ما فسرناها على أنها ناشئة بالضرورة عن هذه الانفعالات والأفعال، ويرد اسپينوزا، في صدد هذه الفكرة الأخيرة، على السؤال الذي يستنكر فيه المرء معاقبة الأشرار طالما أن ذنوبهم راجعة إلى طبيعتهم فحسب، فيقول: إذا كان عقابنا يقتصر على من يذنبون بمحض إرادتهم واختيارهم الحر، فلماذا نبيد الأفاعي السامة، التي تذنب بطبيعتها ولا تملك غير ذلك؟
11
وهكذا يكون عقاب المذنب راجعا إلى أنه يضر بالباقين، أو إلى أن طبيعته ذاتها تضر بالآخرين؛ فالعقاب - والمسئولية بوجه عام - يستهدف نفع المجتمع، وليس مجرد نتيجة للفعل ذاته؛ إذ إن الفعل نفسه، كما أكد من قبل مرارا، لا يكون شرا أو خطيئة إلا من المنظور البشري. أما في صورة الضرورة الأزلية فليس له أية قيمة كهذه. فليس ثمة شيء اسمه العصيان طالما أننا بصدد القوانين الضرورية للكون؛ أي إن أي فعل - بلغة اللاهوتيين - لا يمكن أن يكون مخالفا للإرادة الإلهية. ومثل هذا يقال على الثواب أو المكافأة؛ فالفضيلة الحقة لا تستحق مكافأة أو ثوابا؛ إذ إنها غاية في ذاتها، وثوابها - كما يؤكد في خاتمة البابين الثاني والخامس من «الأخلاق» - ينحصر في ممارستها، لا فيما تجلبه من النتائج. (3) الانفعالات ووسيلة التغلب عليها
يرسم اسپينوزا في مقدمة الباب الثالث من «الأخلاق» منهجا للبحث في الانفعالات ووسيلة التغلب عليها، يؤكد فيه أن خوضه لهذا الميدان البشري المحض لا يعني خروجه على مبدأ الحتمية المتحكمة في الطبيعة، بل إن خطأ جميع الباحثين من قبله كان ترددهم في أن يطبقوا على الإنسان نفس المبادئ التي تطبق على الطبيعة بوجه عام، ونظرتهم إلى الإنسان على أنه «استثناء» من المجرى العام للطبيعة، ووضعهم إياه في مركز مميز يعلو فيه سلوكه على سائر الظواهر الطبيعية، وكان من نتيجة ذلك أن ظلت طبيعة الإنسان مجهولة لديهم على الدوام، وسوف نقتبس من هذه المقدمة نصا طويلا، لأهميته الكبيرة في إيضاح منهج اسپينوزا في معالجة نظريته الأخلاقية. «إن معظم من يكتبون عن الانفعالات والسلوك البشري يبدو كأنهم يعالجون أمورا خارجة عن الطبيعة أكثر مما هم يعالجون ظواهر تسير وفقا للقوانين العامة للطبيعة. وهكذا يبدو أنهم يتصورون الإنسان كما لو كان في الطبيعة يحتل مركز دولة داخل الدولة؛ إذ إنهم يظنونه خارجا على نظام الطبيعة أكثر منه منقادا له، ويعتقدون أن لديه سيطرة مطلقة على أفعاله، وأنه لا يخضع إلا لذاته ... فلم يقم أحد، بقدر ما أعلم، بتعريف طبيعة الانفعالات وقوتها، وقدرة الذهن على مكافحتها وقمعها.
ولكن هذه هي خطتي؛ فلا شيء مما يحدث في الطبيعة يمكن أن يفسر بأنه انحراف عنها؛ إذ إن الطبيعة هي هي على الدوام، وهي دوما متماثلة في أحكامها وقدرتها على الفعل؛ أي إن قوانين الطبيعة وأوامرها، التي تحدث بها كل الأشياء وتتغير من صورة إلى أخرى، واحدة في كل شيء وكل زمان، بحيث يجب أن يوجد منهج واحد لفهم طبيعة كل الأشياء على إطلاقها؛ أعني من خلال القوانين والقواعد الشاملة للطبيعة. وهكذا فإن انفعالات الكراهية والغضب والحسد وما إليها، إذا ما نظر إليها في ذاتها، تسير وفقا لنفس هذه الضرورة والإحكام في الطبيعة، وهي ترتد إلى أسباب محددة تفهم من خلالها، ولها خصائص معلومة تستحق أن تعرف، شأنها شأن خصائص أي شيء آخر يؤدي تأمله في ذاته إلى إرضائنا؛ لذلك سأعالج طبيعة الانفعالات وقوتها وفقا لنفس المنهج الذي استخدمته من قبل في أبحاثي عن الله والعقل، وسوف أنظر إلى الأفعال والرغبات البشرية تماما كما لو كنت أبحث في خطوط ومسطحات وأحجام.»
Página desconocida