Sources of the Prophet's Biography
مصادر تلقي السيرة النبوية
Editorial
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
Géneros
مصادر تلقي السيرة النبوية والعناية بها عبر القرون الثلاثة الأولى
إعداد الدكتور: محمد أنور محمد علي البكري
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين، وسيد الأولين والآخرين وقائد الناس يوم الحشر المبين، صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، صاحب المثاني والقرآن الكريم، والكوثر والشفاعة يوم الحشر، والمبعوث بالحنيفية السمحة (١)، وبعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي سيدنا محمد ﷺ، وخير الأخلاق الحسنة خلقه الأعظم، وخير الطرق الموصلة إلى الله تعالى طريقه الأقوم (٢) ولهذا "قال الله تعالى ترغيبًا للأول والآخر في اكتساب تلك المحامد والمفاخر: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:٢١]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران:٣١]، وقال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:٦٣] .
فالقرآن الكريم كتاب الله، محكم التنزيل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعد الله تعالى بحفظه فقال جل من قائل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:٩]، هذا الكتاب لا تنقضي عجائبه إلى يوم القيامة، وهو مائدة الله التي أكرم بها عباده المؤمنين الصادقين المخلصين من أمة
_________
(١) السيرة النبوية للشعراوي: ص: ٥-٦.
(٢) السيرة النبوية للشعراوي: ص: ٨.
1 / 1
سيدنا محمد ﷺ، منذ أن نزل به الروح الأمين على قلبه الطاهر المنير.
كان هذا الكتاب، وما يزال نبع الصفا الذي نهل منه المسلمون منذ عهد الصحابة، وسيظل بإذن الله تعالى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أجمعين. وكانت آياته الأولى وما زالت هي المفتاح الذي فتح لهذه الأمة وبخاصة علماؤها كنوز الخير، وفي مقدمتهم الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين، ثم من جاء بعدهم من الأتباع وأتباعهم من أهل القرون المفضلة، عليهم من الله تعالى سحائب الرحمات.
لقد نبههم هذا التنزيل العزيز، ووجههم الله تعالى فيما وجههم لسيرة المصطفى، وسيد الكائنات، المبعوث رحمة للعالمين، يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٧]، ويقول جل شأنه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:٤] . لهذا فقد أولوا سيرته جل عنايتهم، وغاية اهتمامهم، فلقنوها أبناءهم، ونساءهم، ومواليهم، حتى كانوا يُحفِّظونَهُمْ مَغَازِيهُ كما يُحفِّظونهم السورة من القرآن.
يقول زين العابدين علي بن الحسين ﵄: "كنا نُعَلَّم مغازي رسول الله ﷺ كما نُعَلَّم السورة من القرآن" (١) .
ويقول الإمام الزهري - يرحمه الله تعالى - في علم السيرة "علم الدنيا والآخرة" (٢)، وكان إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ﵃ يقول: "كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول يا بني هذه شرف آبائكم فلا
_________
(١) البداية والنهاية: ٣/٢٤١.
(٢) السيرة الحلبية: ١/٢، البداية والنهاية: ٣/٢٤١، حدائق الأنوار: ١/٨.
1 / 2
تعدموا ذكرها" (١) .
لقد ظهر منهم أجيال جعلت عنايتها حفظ هذه السيرة العطرة وروايتها وتدوينها وكانوا يتناقلونها جيلًا بعد جيل، وطبقة بعد طبقة بأسانيدها وطرقها المختلفة حتى توافر لدينا قدر هائل، وثروة عظيمة، وميراث صحيح عن سيرة سيد الكائنات ﷺ.
ففيما يتعلق بنسبه الشريف ﷺ، وَقَفوا عند قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾، وفي قراءة شاذة: ﴿أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة:١٢٨]، فهو نسيب وحسيب، وسيد عظيم من ساداتهم، فهو خيرهم نفسًا وخيرهم أبًا (٢)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ [آل عمران:٣٣-٣٤]، فهو المصطفى من جهة الآباء والأمهات، والأجداد، والعشيرة، والقبيلة، والقوم (٣)، فهو خيار من خيار، خرج من نكاح ولم يخرج مِنْ سِفاح، من لدن آدم إلى أن ولده أبوه وأمه (٤) .
وتحدث القرآن الكريم عن طفولته ويفعه، وعناية الله له في هذه الطفولة
_________
(١) شرح المواهب: ١/٤٧٣.
(٢) المقصود حديث العباس ﵁ الذي رواه الترمذي، والإمام أحمد عن العباس نفسه وفيه:" فجعلني في خيرهم بيتًا وخيرهم نفسًا"، انظر: الترمذي: ٨/٦٥٣، ومسند أحمد: ٤/١٦٦.
(٣) المقصود حديث واثلة بن الأسقع ﵁، الذي رواه الإمام مسلم عن واثلة ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" انظر صحيح مسلم: ٤/١٠٧)، صحيح الترمذي: ٥/٣٦، ٦/٣٦.
(٤) المقصود حديث عبد الله بن عباس ﵁، الذي رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي في السنن الكبرى: أن النبي ﷺ قال: "ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء، ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام"، انظر المعجم الكبير: ١٠/٣٢٩، سنن البيهقي: ٧/١٩٠.
1 / 3
فقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ [الضحى:٦]، وهي مِنَّةٌ لا يعلم قدرها إلا الله تعالى، ولم تكن لأحد قبله ولا بعده ﷺ.
وأما فيما يتعلق بأخلاقه فقد أدركوا قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:٤]، ولهذا عندما سئلت السيدة عائشة ﵂ عن خلقه قالت: "كان خلقه القرآن" (١)، أي إن ما في القرآن من آداب، وفضائل، ومكارم، وخشية، وورع، وتقوى، وأخلاق كلها تتمثل في شخصيته ﵊، ولم يُمْتَنَّ بهذا على نبي ولا رسول، فأفاد أنه انفرد بهذه الأخلاق دون سائر الخلائق (٢) .
وأما حديث القرآن عن رحمته ورأفته فقد أدركوها في قوله تعالى:
﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة:١٢٨]، وقوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:١٥٩]، ولقد فاز على جميع الخلائق بهذه الرحمة "فهو الرحمة المهداة في الدنيا والآخرة" (٣)، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ويقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (٤) [الأنبياء: ١٠٧] .
وحديث القرآن الكريم عن المزايا التي وهبه الله إياها، حديث أكثر من أن
_________
(١) صحيح مسلم كتاب مسند أحمد: ٦/١٦٧، السنن الكبرى: ٦/٤١٢، المعجم الأوسط: ١/١٨٣.
(٢) دلالة القرآن الكريم على أن النبي ﷺ أفضل العالمين: ص:١٢.
(٣) المستدرك: ١/٣٥، مجمع الزوائد: ٨/٢٥٧.
(٤) إن هذه الرحمة شاملة لكل الخلق؛ إنسهم وجنهم، مؤمنهم وكافرهم، علويهم وسفليهم، مرئيهم ومخفيهم. انظر تفسير الطبري: ١٨/٥٢٢، وتفسير البغوي: ٣/٢٧١-٢٧٢، ابن كثير: ٣/٢٠٢، مكانة النبي الكريم بين الأنبياء ﵈: ص:١٣٤-١٣٥.
1 / 4
يحصى (١)، فدفاع الله عنه، ونداؤه بوصف النبوة والرسالة، ونهي المؤمنين أن ينادوه باسمه المجرد، وتجنيد الملائكة للقتال معه وإنذارهم على لسانه، وعموم بعثته، وختمه للنبوة، وإقسام الله تعالى بحياته، وإعطاؤه السبع المثاني والقرآن العظيم، وإعطاؤه خمسًا لم يعطهن أحد من قبله ولا من بعده (٢)، وغيرها من الخصائص المشهورة التي خَصَّه الله تعالى بها دون غيره من الأنبياء والمرسلين بل جَمَعَ خصائصهم، وزاد عليهم أجمعين.
ولم يقتصر القرآن الكريم على ما تقدم من ذِكْر أخباره، ونسبه، وخلقه، ورسالته، ونبوته، ورحمته، وعلو منزلته عند ربه، ومعجزاته، وذكر كثير من صفاته، بل تعدى القرآن الكريم إلى وصفه وذكر بعض أعضائه الشريفة.
فقال عن وجهه الشريف: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء﴾ [البقرة:١٤٤] .
وقال عن يده الشريفة: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء:٢٩] .
وقال عن عينه الشريفة: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النجم:١٧] .
وقال عن صدره الشريف: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الانشراح:١] .
وقال عن لسانه الشريف: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ [القيامة:١٦] .
_________
(١) دلالة القرآن الكريم: ص:١٣، وانظر كتاب عظيم قدره ﷺ الذي جمع فيه مؤلفه مئة خصيصة للرسول ﷺ.
(٢) الجامع الصحيح المختصر: ١/١٢٨، صحيح مسلم: ١/٣٧٠، سنن النسائي: ١/٩، مسند أحمد: ٤/٤١٦، ابن حبان: ١٤/٣٠٨.
1 / 5
وقال عن قلبه الشريف: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم:١١] .
وقال عن قلبه الشريف أيضًا: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ [الشعراء:١٩٣-١٩٤] .
وقد وجَّه القرآن الكريم الصحابة إما بصريح العبارة أو بطريق الإشارة إلى سرد كثير من أخباره وفضائله، وشمائله، ومنزلته عند ربه، وفضله على جميع الخلائق ﷺ فكان حَرِيًَّا بهم أن يولوا هذه السيرة العطرة جُلَّ عنايتهم، فتخصص فريق منهم في روايتها، وبرز فريق آخر في حفظها، وبرع ثالث في تدوينها والتصنيف فيها، وهذا هو موضوع بحثنا إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق، وعليه التوكل، فهو نعم المولى ونعم الوكيل.
هذا وقد جعلت هذا البحث في مقدمة وثلاثة فصول:
الفصل الأول: مدخل إلى علم السيرة النبوية.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أهمية علم السيرة النبوية في حياة المسلمين.
المبحث الثاني: التعريف بالسيرة النبوية وأهم مميزاتها.
الفصل الثاني: أهم مصادر السيرة النبوية وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: القرآن الكريم.
المبحث الثاني: كتب الحديث الشريف (كتب السنة المطهرة)
المبحث الثالث: كتب الشمائل المحمدية.
المبحث الرابع: كتب الدلائل النبوية (المعجزات المحمدية) .
1 / 6
المبحث الخامس: كتب الخصائص المحمدية.
المبحث السادس: كتب المغازي والسير المتخصصة.
الفصل الثالث: أشهر من صنف في السيرة النبوية في القرون الثلاثة الأولى.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الرواية.
المبحث الثاني: التصنيف.
المبحث الثالث: التأليف.
أسأله تعالى مزيد الفضل، وأن يكرمنا برضاه، ويجعل هذا البحث عنده مقبولًا، إنه نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
1 / 7
الفصل الأول: مدخل إلى عالم السيرة النبوية
المبحث الأول: أهمية علم السيرة النبوية في حياة المسلمين
...
الفصل الأول: المدخل إلى علم السيرة النبوية
المبحث الأول: أهمية علم السيرة النبوية في حياة المسلمين
إن لسيرة النبي ﷺ العطرة، سِجِلًا حافلًا بالمآثر، مليئًا بالمكرمات، مفعمًا بالفضائل والدروس، إنها كثيرة المواعظ والعبر التي تنبض بالنور، وترشد إلى الخير، وتوقظ الهمم، وتشحذ العزائم، وتزيد الإيمان، وترسم الطريق إلى مرضاة الله ﷿، وتضع المعالم أمام الدعاة والمصلحين.
إنها تجسد القيم العليا والمبادئ الرفيعة في شخص النبي محمد ﷺ، واقعًا محسوسًا لحياة كريمة فاضلة، سار على هديها الصحابة الأجلاء ﵃، ومَنْ جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم بإحسان، فاستنارت العقول، وصلحت القلوب، وزكت النفوس، واستقامت الأخلاق، فكانوا بحق خير أمةٍ أُخرجت للناس.
لقد كان السلف الصالح يعلِّمون أبناءهم هذه السيرة كما يعلمونهم السورة من القرآن، فنشؤوا على الفضائل، ونهضوا إلى المكارم، وطمحوا إلى معالي الأمور، واتخذوا من الرسول ﷺ مثلًا أعلى، ومنارًا شامخًا، وقدوة حسنة ينالون باتباعه واقتفاء أثره والعمل بسنته خير الدنيا وسعادة الآخرة (١) .
يقول تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: ٧] .
ويقول تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ٣٢] .
_________
(١) خاتم النبيين: ص/٧-٨، وانظر كذلك مصادر السيرة وتقويمها: ص:١٣.
1 / 9
ويقول تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران:١٣٢]، ويقول تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ [المائدة:٩٢] .
فالسيرة النبوية هي الترجمة العملية للقرآن الكريم، وهي التطبيق الصحيح للكتاب والسنة المطهرة، في واقع الحياة على جميع محاورها، ولهذا تقول السيدة عائشة أم المؤمنين ﵂:"كان خلقه القرآن".
ففي العبودية والتعلق بالله ﷾ كان المثل الأعلى حيث عرف ربه وعبده، وتوكل عليه حتى أتاه اليقين، وفي دعوته إلى الله تعالى دعا بالحسنى، فحاز على رضوان الله ﷿، وفي تربيته لأصحابه كان من أرفق الناس بهم، وذلك بتوفيق وأمر من الله تعالى.
وفي جهاده، وفي علاقاته، وفي بيعه وشرائه، وفي سفره وحضره، وفي طعامه وشرابه، ومع أهل بيته وجيرانه، ومع الفقراء والمساكين، والأطفال والنساء، حتى مع الجمادات والحيوانات، ومع كل شيء يحيط به، ويدخل في دائرة احتياجاته كان القدوة والمثل الكامل....
لقد كان ﷺ رحمة مهداة من المولى ﷿ لجميع مخلوقاته. يقول تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]، ويقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ: ٢٨] .
من هنا يجمع المحدثون، والمؤرخون، وجمهور هذه الأمة، على أن السيرة
1 / 10
النبوية تجسيد حي للتاريخ الإسلامي المجيد في عصر النبوة، من الناحية العملية؛ لأن حوادثها ارتبطت بشخصه الكريم ﷺ في كل جوانب حياته العملية والفكرية والنفسية والاجتماعية، حتى الإنسانية (١) .
فعلم السيرة النبوية من أشرف العلوم وأعزها وأسناها هدفًا ومطلبًا، بها يعرف المسلم أحوال دينه، ونبيه ﷺ، وما شَرَّفه المولى ﷿ من أصل كريم، ثم ما أكرمه به من اختياره للوحي والرسالة، وحمل عبء الدعوة الكاملة.
ثم ما قام به من بذل الجهود المتواصلة، وما عاناه من البلاء والمحن في هذا السبيل، وما حظي به ﷺ من نصرة الله وتأييده بجنود غيبية، وملائكة كرام بررة، وتوجيه الأسباب له، وإنزال البركات، وخوارق العادات (٢) .
إن التاريخ لم يتحدث عن سيرة أحدٍ وصفاته، ولا عن أطوار حياة إنسان ومنهجه مثلما تحدث عن سيدنا محمد ﷺ، وما هذا إلا لأنه جاء بالرسالة الجامعة، والدين الخاتم، فنسخ ما قبله، ولاشيء بعده.
لقد انقطع بعده حديث السماء إلى الأرض، فكان خليقًا به أن يكون طرازًا من البشرية النقية الصرفة التي تعطي البشر القدوة والمثالية في الاستقامة على النهج الواضح، وجادة السواء، وسبيل التوحيد (٣) .
إن الواقع اليوم وفي ظل الإمكانات الهائلة التي وفرها عصر المعلوماتية عبر
_________
(١) علم المغازي بين الرواية والتدوين: ١/٤.
(٢) السيرة النبوية للشعراوي: ص:٨.
(٣) فقه السيرة من زاد المعاد: ص:٦.
1 / 11
وسائله المختلفة، كالبرامج، والموسوعات الحديثية، والتاريخية، أو عبر وسائل الاتصال بالمكتبات العالمية، وما تزخر به من مصادر ومراجع عن المعرفة الإنسانية، وبخاصة التاريخ الإسلامي يحتم علينا أن نستثمر هذه الإمكانات والخدمات لجمع مرويات السيرة النبوية وأخبارها، وبداياتها الأولى رواية وحفظًا وتدوينًا عبر العصور والعصور الثلاثة الأولى على وجه الخصوص، جيلًا بعد جيل، وطبقة بعد طبقة (١)، اعتمادًا على المراجع الصحيحة الموثوقة التي اعتمدت صحة الأسانيد والمتون. وهذا ما سوف يكون بإذن الله تعالى الاعتماد عليه في هذه الدراسة.
_________
(١) علم المغازي بين الرواية والتدوين: ١/٤.
1 / 12
المبحث الثاني: التعريف بالسيرة النبوية وأهم مميزاتها
عند تعريف كلمة السيرة لابد من الرجوع إلى كتب اللغة ومعاجمها للوقوف على مدلول هذا اللفظ عند اللغويين، وذلك لكي يتضح ما يتضمنه هذا المصطلح الذي إذا أطلق ذهب المعنى تلقائيًا إلى سيرة المصطفى ﷺ.
من هنا وجب التعريف بهذا المصطلح لغويًا حتى نتمكن من تعريفه بعد ذلك عند عموم المؤرخين، وعند أهل الاختصاص ممن يذهب إلى أبعد من التعريف الاصطلاحي، ليضمنه أمورًا حسية ومادية، وظاهرة وباطنة عن شخص الرسول ﷺ، وذلك ليشمل التعريف كل شيء يتعلق بالرسول ﷺ منذ ولادته حتى وفاته، في شؤون الحياة كلها؛ العقدية، والفكرية، والاجتماعية، والأخلاقية، والإنسانية.
بهذا المفهوم الواسع، لا بد أن يوفر التعريف اللغوي ما يوضح هذه الحقيقة عن مصطلح السيرة النبوية، وكيف تطور ليعطي هذا المدلول الواسع الشامل عن حياة نبي الإسلام، ومنقذ البشرية، وقدوة المؤمنين في كل زمان ومكان ﷺ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ . [الأحزاب:٢١] .
يقول أهل اللغة: سار سَيرًا، وتَسْيارًا، ومَسارًا، وسار السنَّةَ أو السِّيرةَ: سلكها واتبعها (١) .
_________
(١) المعجم الوسيط: ١/٤٧٠، وانظر: مادة سير ومن معاني السيرة: السنة والطريقة، والحالة التي يكون عليها الإنسان.
1 / 13
ويقولون أيضًا: السيرَة: معناها الهيئةُ، والسنةُ، والطريقةُ، والمذهبُ، ووصفُ السلوك (١)، ونحن في السيرة النبوية نتطرق وبشكل أساسي إلى هيئته، ووصفه ظاهرًا وباطنًا في باب الشمائل المحمدية والتي أشار القرآن الكريم إلى كثير منها.
كما نقف طويلًا عند سنته القولية والفعلية والإقرارية في أطوار حياته بعد البعثة في كل موطن ومشهد من أحداث السيرة العطرة.
ويستمتع الدارسون والمتلقون من أبناء هذه الأمة المحمدية عندما يصف المحدثون والمؤرخون سلوكه الرباني العظيم مع ربه ﷿ أولًا، ثم مع أتباعه من الأصحاب والأحباب وخاصة مع أهل بيته، وخدمه، ومواليه، حتى مع دوابه ﷺ.
ويقولون أيضًا:
استارَ بسَيرْ فُلاَن، أي مشى على خطته واستن بسنته (٢) ونحن أمة
محمد ﷺ مطالبون بالسير على خطاه، وباتباع سننه بقدر المستطاع؛ حتى ننال الأجر والثواب: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران:٣١]، ويقول تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران:١٣٢] .
وآيات الطاعة والاتباع والتعزير والتوقير كثيرة في كتاب الله الحكيم، فلا يكمل إيمان المسلم إلا إذا كان اللهُ ورسولهُ أحَبَّ إليه مما سواهما.
_________
(١) القاموس المحيط: ٥٢٨، مختار الصحاح: ٣٤٧، اللسان: ٦/٤٥٤.
(٢) المعجم الوسيط: ١/٤٧٠.
1 / 14
ولا يكمل إيمان المرء المسلم إلا إذا قدّم محبة هذا النبي ﷺ على محبة والديه وولده ونفسه والناس أجمعين، كما في حديث أنس ﵁ المتفق عليه وحديث أبي هريرة وحديث عمر بن الخطاب ﵄ عند البخاري (١) .
أما تعريف السيرة عند عموم المؤرخين وفي حالة الإطلاق:
فهو يعني التعرض إلى كل الأحداث المبكرة من تاريخ الإسلام، وعلى التحديد بدايةً من بعثته ﷺ، وبدء رسالته، وانتشار الإسلام، كما يقصد بها تاريخ الجهاد لنشر الدعوة الإسلامية، وإقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، والتي جمعت الناس تحت لوائه، حتى أصبحوا أمة واحدةً، لم تلبث بعد فترة وجيزة أن خرجت خارج حدود المدينة المنورة لتُؤَسِّس الدولة الفتية، التي عاصمتها المدينة المنورة، وما لبثت بعد وفاته أن خرجت حتى خارج حدود جزيرة العرب (٢) .
تعريف السيرة عند أهل الاختصاص:
ولو أردنا أن نعرف مصطلح السيرة عند أهل الاختصاص من المحدِّثين والمؤرخين الذين أَوْلَوْا السيرة عناية خاصة معتمدين على النصوص القرآنية الواضحة والأحاديث النبوية الثابتة نصًا ومتنًا، لرأيناهم يتجاوزون به إلى ما صحَّ من الإرهاصات النبوية منذ مولده، ونشأته، وصباه، وشبابه، ومظاهر حفظ وعناية الله به ﷺ، حتى كمل سنه أربعين، فجاءه الوحي المبارك، وأمره بتبليغ هذا الدين القويم إلى الناس كافة (٣) .
_________
(١) صحيح البخاري: ١/١٤، صحيح مسلم: ١/٦٧، انظر محبة النبي ﷺ وطاعته: ص:١٣٥-١٣٨، صحيح البخاري: كتاب الإيمان والنذور: وانظر شرح هذا المعنى في كتاب محبة النبي وطاعته بين الإنسان والجماد: ص: ١٣٨.
(٢) حدائق الأنوار ومطالع الأسرار: ١/٨.
(٣) حدائق الأنوار ومطالع الأسرار: ١/٨.
1 / 15
ثم ما لقي في سبيل ذلك من معارضة، وعنت، وتحدّ، واضطهاد، وإيذاء، ثم تطور إلى صراع ومقاومة مع المشركين أدت إلى الهجرة إلى الحبشة، وإلى المدينة المنورة المباركة هو وأصحابه بأمر من الله تعالى، كما في قوله: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٠] .
ولقد جاء وصوله ﷺ إلى المدينة المنورة عندهم مشروعًا إنسانيًا عظيمًا كبيرًا، كان مقدمة لتأسيس دولة الإسلام على المؤاخاة، وهو النظام الاجتماعي الذي لم تعرف العرب له مثيلًا من قبل، ثم تأسيس هذه الدولة على ركائز أخرى كبناء المسجد، وتوقيع المعاهدات بين سكانها وبين مَنْ جاورها، ثم الانطلاق بالدعوة نحو كل اتجاه خارج حدود المدينة المنورة.
ثم جاءت بعد ذلك مرحلة مواجهة التحديات الكبرى في تلك المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام في مرحلة الدفاع في كل من بدر، وأحد، والخندق، والحديبية، حتى تغيَّرت الموازين لصالح المسلمين، وخرجوا بعد ذلك بأمر من الله تعالى لقتال الناس من أجل رفع راية التوحيد، والقضاء على مظاهر الشرك والوثنية البغيضة، التي فَرَّقَتْ الناس إلى سيد، وعبد، وشريف، ووضيع، فقاتل بعضهم بعضًا، وعاشوا قبل أن يُسْلموا ردحًا من الزمن في الفوضى والعبث.
وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ لفظ السيرة عندهم يعني أيضًا المنهج النبوي، والخلق المحمدي، فيما يتعلق بصفاته، وأخلاقه ﷺ، وما خَصَّه الله تعالى به من خصائص عظيمة، وما أيَّده به من معجزات باهرة خارجة عن المألوف والمعروف بقدرة الله ﷿.
1 / 16
وكذلك طريقة تعامله مع المسلمين نبيًا مشرعًا ورسولًا قدوة في جميع الأحوال، حتى كان لهم المثل الكامل الأعلى.
لقد جمعت السيرة النبوية بهذا التعريف والمفهوم الواسع عدة مزايا جعلت دراستها متعة روحية، وعقلية، وتاريخية، ونفسية، وهي إلى جانب ذلك كله ضرورية لكل مسلم ومسلمة.
ذلك من أجل أن ينضموا إلى ركْب الدعاة والمصلحين ممن يقع على عاتقهم إبلاغ الناس المنهج الرباني الصحيح، الذي تلقاه هذا النبي العظيم ﷺ عن ربه تعالى، فبلَّغ ونصح الأمة حتى لقي ربه ﷺ فكان القدوة الحسنة للناس في القول والعمل، في كل تصرفاته العامة والخاصة.
كما حكت لنا ذلك كتب السيرة، والشمائل، والدلائل، والخصائص، والمعجزات وما جمع فيها من الآثار، والأخبار، والقصص، والحوادث، وما جمع فيها من الأدعية، والأذكار، والمناجاة، والعمل بالليل والنهار، وما حفظت لنا هذه الكتب من جوامع كلمه ﷺ، وما حفظه لنا بعض أصحابه وآل بيته من صفته وصفاته (١) والتي لم تحفظ كتب الأدب، والتاريخ، والأنساب صفة أكثر دقة، وأعظم استيعابًا لكائن من كان منذ أن خلق الله آدم ﵇، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها سواه.
فكانت بحق أعظم وأكمل سيرة لإنسان على وجه الأرض، كيف لا، وهي السيرة المؤسسة على النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والوثائق التاريخية، والتي جعلتها صالحة لكل زمان ومكان؟ ويكفيه أن قال عنه ربه:
_________
(١) سأل الحسن بن علي، خاله هند بن أبي هالة، وكان وصَّافًا لرسول الله ﷺ، فوصف له رسول الله ﷺ أحسن وصف، انظر الترمذي: ص/٢٦٥-٢٦٦.
1 / 17
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:٤]، وقوله تعالى: ﴿... بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة:١٢٨]، وقوله ﷺ: "أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأدِيبي" (١)، وقوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (٢) .
ولهذا قالت أم المؤمنين الصدِّيقة بنت الصديق ﵂ عندما سُئلت عن خلقه ﷺ. فقالت: "كان خلقه القرآن" (٣) .
والخلاصة: أننا لو أردنا أن نجمل مزايا هذه السيرة النبوية العطرة لأكمل إنسان على ظهر الوجود فإننا لن نستطيع أن نجملها في عبارات أو حتى في أشعار أو صفحات، لكن هذا كله لا يعفينا من أن نذكر قدر المستطاع أهم مميزات هذا العلم المبارك - علم السيرة النبوية- في نقاط محدودة لتكون واضحة يمكن استيعابها، وتكون ضوءًا لكل ما تقدم في هذا البحث عن السيرة النبوية ومباحثها المختلفة على النحو الآتي:
أولًا- أنها أصح سيرة لتاريخ نبي مرسل، فقد وصلت إلينا عبر أصح الطرق دقة وضبطًا ووضوحًا، بما لا يترك مجالًا للشك في وقائعها البارزة، وأحداثها الكبرى (٤) .
ثانيًا- أنها واضحة كل الوضوح في جميع مراحلها منذ زواج أبيه عبد الله بأمه آمنة وحتى وفاته ﷺ، مما يجعل سيرته واضحة وضوح الشمس وضياء القمر (٥) .
_________
(١) أخرج هذا الحديث ابن السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء: ص:١.
(٢) بقية حديث عبد الله بن مسعود، مسند أحمد: ٢/٣٨١، الأدب المفرد: ص/١٠٥، والمستدرك: ٢/٦١٣.
(٣) تقدم تخريجه في ص:٤.
(٤) السيرة النبوية دروس وعبر: ص:١٥، الجامع الصحيح للسيرة النبوية: ص:٣٩.
(٥) السيرة النبوية دروس وعبر: ص:١٧، الجامع الصحيح للسيرة النبوية: ص:٤٧.
1 / 18
ثالثًا- أنها سيرة واقعية تحكي سيرة إنسان أكرمه الله بالرسالة فلم تخرجه عن إنسانيته، ولم تلحق حياته بالأساطير، ولم تُضْفِ عليه الألوهية قليلًا ولا كثيرًا (١)، ولهذا ظلت سيرته المثل النموذجي للإنسان الكامل، وهي القدوة لكل من أراد أن يعيش سعيدًا كريمًا في نفسه وأسرته ومرضيًا لربه ﷿.
رابعًا - أنها سيرة شاملة لكل النواحي الإنسانية، كأب، وزوج، وقائد، وصديق، ومربّ، وداعية، وسياسي، وقبل كل ذلك نبي ورسول ﷺ (٢) .
خامسًا- أنها سيرة تعطي الدليل الذي لا ريب فيه عن صدق نبوته ورسالته لأنها سيرة إنسان سار بدعوته من نصر إلى نصر (٣)، ودعا الناس إلى ربه في تأدب وخشية وشفقة ورأفة ورحمة حتى أتاه اليقين.
سادسًا- أنها مستوفية لكل الجزئيات والكليات التي تحويها السيرة بأدق العبارات وأشمل الأوصاف لحياته ﷺ.
فصلى الله عليه وسلم كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون صلاةً كما يحب ربنا ويرضى.
_________
(١) السيرة النبوية دروس وعبر: ص: ١٨، الجامع الصحيح للسيرة النبوية: ص:٤٩.
(٢) السيرة النبوية دروس وعبر: ص: ١٩، الجامع الصحيح للسيرة النبوية: ص:٥١.
(٣) السيرة النبوية دروس وعبر: ص:٢٠، الجامع الصحيح للسيرة النبوية: ص:٥٤.
1 / 19
الفصل الثاني: أهم مصادر السيرة النبوية
المبحث الأول: القرآن الكريم
...
الفصل الثاني: أهم مصادر السيرة النبوية خلال القرون الثلاثة الأولى
المبحث الأول: القرآن الكريم
لابد لأي باحث يريد أن يصنف في السيرة النبوية أو يكتب فيها أن يجعل من القرآن الكريم مصدرًا أساسيًا له.
لقد ضم القرآن الكريم جزءًا كبيرًا من أخبارها الصحيحة التي لا يتطرق إليها الشك أو الظن، وبهذا فقد وفر القرآن الكريم قدرًا عظيمًا من الأخبار الصحيحة للسيرة وصاحبها ﵊.
لهذا فإن القرآن الكريم يعدُّ في مقدمة مصادر السيرة في حالة
أي مشروع موسوعي يتعلق بتدوينها، وروايتها، وحفظها، لأن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى المنزل على نبيه لفظًا بطريقة الوحي (١) ولا يأتيه الباطل، وقد وعد الله تعالى بحفظه فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] .
فالناظر المدقق في القرآن الكريم يرى إشاراته إلى سيرته ﷺ، إما بتصريح العبارة، أو بطريق الإشارة، أو بطريق التضمين، أو الموازنة (٢)، فهو في ذلك أصل الأصول، ومصدر النور، ليس وراء حجته حجة، ولا مع دليله دليل، ونصه هو القاطع للخصومة، وقوله هو الفصل (٣) .
ولأن الصورة الواضحة الصادقة لشخصية الرسول الكريم ﷺ في القرآن الكريم، هي أصدق ما وصلنا عنه من أخبار، وهي أصح وصفًا لحقيقة سيرته،
_________
(١) السيرة النبوية الصحيحة: ١/٤٧-٤٨.
(٢) دلالة القرآن المبين: ص:٥.
(٣) محمد رسول الله ﷺ: ١/٨.
1 / 21
وشمائله، ودلائل نبوته، وأخلاقه، وخصائصه، وهي أوثق تقرير لما كان عليه ﷺ في جميع حالاته (١) .
ففي ثنايا القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تعرضت لحياته ﷺ قبل بعثته، وأثناءها، وبعدها....
فحديث القرآن عن يُتْمِه ورد في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى:٦-٧] .
وحديثه عن بدء نزول الوحي عليه، كما في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:١] .
وحديثه عن حاله ﷺ عند تلقيه الوحي، كما في قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة:١٦-١٧] .
وحديث القرآن عن عداوة الأعداء وخصومة الكافرين له، واتهامه بشتى أنواع المعايب في قوله تعالى (٢): ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ [الصافات:٣٥-٣٦] .
كذلك حديث القرآن عن بشريته واضحًا في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [فصلت: ٦] . وقوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولًا﴾ [الإسراء:٩٤] .
_________
(١) شخصية الرسول ودعوته في القرآن والسنة: ص:٧.
(٢) مصادر السيرة النبوية وتقويمها: ص:٢٣.
1 / 22