بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه الْغَرَض من الرسَالَة قصدنا فِي هَذَا القَوْل ذكر قوانين سياسة يعم نَفعهَا جَمِيع من استعملها من طَبَقَات النَّاس فِي متصرفاته مَعَ كل طَائِفَة من أهل طبقته وَمن فَوْقه وَمن دونه على سَبِيل الإيجاز والاختصار على أَنه لَا يَخْلُو قَوْلنَا هَذَا من ذكر مَا تخْتَص بِاسْتِعْمَالِهِ طَائِفَة دون طَائِفَة وَوَاحِد دون وَاحِد مِنْهُم فِي وَقت دون وَقت وَمَعَ قوم دون قوم إِذْ الْوَاحِد من النَّاس لَا يُمكنهُ أَن يسْتَعْمل فِي كل وَقت مَعَ كل أحد كل ضرب من ضروب السياسات ونقدم لذَلِك مُقَدمَات مِنْهَا أَن نقُول مكانة الْإِنْسَان بَين غَيره من النَّاس إِن كل وَاحِد من النَّاس مَتى مَا رَجَعَ إِلَى نَفسه وَتَأمل أحوالها وأحوال غَيره من أَبنَاء النَّاس وجد نَفسه فِي رُتْبَة يشركهُ فِيهَا طَائِفَة مِنْهُم وَوجد فَوق رتبته طَائِفَة مِنْهُم أَعلَى منزلَة مِنْهُ بِجِهَة أَو بجهات وَوجد دونهَا طَائِفَة هم أوضع مِنْهُ بِجِهَة أَو جِهَات لِأَن الْملك الْأَعْظَم وَأَن وجد نَفسه فِي مَحل لَا يرى لأحد من النَّاس فِي زَمَانه منزلَة أَعلَى من مَنْزِلَته فَإِنَّهُ مَتى تَأمل حَالَة نعما وجد فيهم من يفضل عَلَيْهِ بِنَوْع من الْفَضِيلَة إِذْ لَيْسَ فِي أَجزَاء

1 / 7

الْعَالم مَا هُوَ كَامِل من جَمِيع الْجِهَات وَكَذَلِكَ الوضيع الخامل الذّكر يجد من هُوَ دونه بِنَوْع من الضعة فقد صَحَّ مَا وصفناه وَينْتَفع الْمَرْء بِاسْتِعْمَال السياسات مَعَ هَؤُلَاءِ الطَّبَقَات الثَّلَاث أما مَعَ الأرفعين فلينال مرتبتهم وَأما مَعَ الْأَكفاء فليفضل عَلَيْهِم وَأما مَعَ الأوضعين فلئلا ينحط إِلَى رتبتهم تَأمل أَحْوَال النَّاس ونقول أَيْضا إِن أَنْفَع الْأُمُور الَّتِي يسلكها الْمَرْء فِي استجلاب علم السياسة وَغَيره من الْعُلُوم أَن يتَأَمَّل أَحْوَال النَّاس وأعمالهم ومتصرفاتهم مَا شَهِدَهَا وَمَا غَابَ عَنْهَا مِمَّا سَمعه وتناهى إِلَيْهِ مِنْهَا وَأَن يمعن النّظر فِيهَا ويميز بَين محاسنها ومساوئها وَبَين النافع والضار لَهُم مِنْهَا ثمَّ ليجتهد فِي التَّمَسُّك بمحاسنها لينال من مَنَافِعهَا مثل مَا نالوا وَفِي التَّحَرُّز والاجتناب من مساوئها ليأمن من مضارها وَيسلم من غوائلها مثل مَا سلمُوا قوتان فِي الْإِنْسَان ونقول أَيْضا إِن لكل شخص من أشخاص النَّاس قوتين أَحدهمَا ناطقة وَالْأُخْرَى بهيمية وَلكُل وَاحِدَة مِنْهُمَا إِرَادَة وَاخْتِيَار وَهُوَ كالواقف فِيمَا بَينهمَا وَلكُل مِنْهُمَا

1 / 8

نزاع غَالب فنزاع الْقُوَّة البهيمية نَحْو مصادفة اللَّذَّات العاجلة الشهوانية مثل أَنْوَاع الْغذَاء وأنواع الاستفراغات وأنواع الاستراحات ونزاع الْقُوَّة النطقية نَحْو الْأُمُور المحمودة العواقب مثل أَنْوَاع الْعُلُوم وأنواع الْأَفْعَال الَّتِي تَجِد العواقب المحمودة فَأول مَا ينشأ الْإِنْسَان فِي حيّز الْبَهَائِم إِلَى أَن يتَوَلَّد فِيهِ الْعقل أَولا فأولا وتقوى فِيهِ الْقُوَّة الناطقة فالقوة البهيمية إِذن أغلب عَلَيْهِ وكل مَا كَانَ أقوى وأغلب فالحاجة إِلَى إخماده وتوهينه وَأخذ الأهبة والاستعداد لَهُ أَشد وألزم فَوَاجِب على كل من يروم نيل الْفَاضِل أَن لَا يتغافل عَن تيقيظ نَفسه فِي كل وَقت وتحريضها على مَا هُوَ أصلح لَهُ وَأَن لَا يهملها سَاعَة فَإِنَّهُ مَتى مَا أهملها وَهِي حَيَّة والحي متحرك لَا بُد من أَن تتحرك نَحْو الطّرف الآخر الَّذِي هُوَ البهيمي وَإِذا تحركت نَحوه تشبثت بِبَعْض مِنْهُ حَتَّى إِذا أَرَادَ ردهَا عَمَّا تحركت إِلَيْهِ لحقه من النصب أَضْعَاف مَا كَانَ يلْحقهُ لَو لم يهملها ويعطل وقته الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَن يحصل فِيهِ فَضِيلَة لاشتغاله بالاحتيال لردها عَمَّا تحركت نَحوه وفاتته تِلْكَ الْفَضِيلَة الْمَرْء بَين حَالين ونقول أَيْضا إِن الْمَرْء لَا يَخْلُو فِي جَمِيع تَصَرُّفَاته من أَن يلقى أمرا مَحْمُودًا أَو أمرا مذموما وَله فِي كل وَاحِد من الْأَمريْنِ فَائِدَة إِن استفادها ويجد

1 / 9

فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا نفعا يُمكنهُ جذبه إِلَى نَفسه ويصادف فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا مَوضِع رياضة لنَفسِهِ وَهُوَ إِنَّه يحتال للتمسك بذلك الْأَمر الْمَحْمُود الَّذِي يلقاه إِن وجد السَّبِيل إِلَى التَّمَسُّك بِهِ أَو يتشبه بالتمسك بِهِ بِقدر طاقته إِن أعوزه ذَلِك أَو يحسن ذَلِك الْأَمر عِنْد نَفسه وينبهها على فضيلته وَيُوجب عَلَيْهَا التَّمَسُّك بِهِ مَتى مَا وجد الفرصة لذَلِك وَهُوَ لَا شكّ وَاجِد السَّبِيل إِلَى هَذِه الثَّلَاث وَإِذا تلقها الْأَمر المذموم فليجتهد فِي التَّحَرُّز مِنْهُ والاجتناب عَنهُ وَإِن لم يجد إِلَى ذَلِك سَبِيلا وَهُوَ وَاقع فِيهِ فليبالغ فِي نَفْيه عَن نَفسه بغاية مَا أمكنه وَإِن لم يُمكنهُ التبرؤ مِنْهُ فليعزم على نَفسه إِذا تيَسّر لَهُ الْخَلَاص مِنْهُ لَا يعود إِلَى أشباهة وليقبح إِلَى نَفسه دواعي ذَلِك الْأَمر ولينتبهها على الِاعْتِبَار بِمن نالهم مضار مثلهَا فقد ظهر إِن الْمَرْء يُصَادف فِي جَمِيع أَحْوَاله دقها وجلها خَيرهَا وشرها مَوضِع الرياضة لنَفسِهِ

1 / 10

فصل ١ معرفَة الْخَالِق وَمَا يجب لعزته الله مُنْفَرد بِذَاتِهِ ونقول أَيْضا إِن أول مَا يَنْبَغِي أَن يَبْتَدِئ بِهِ الْمَرْء هُوَ أَن يعلم إِن لهَذَا الْعَالم وأجزائه صانعا بِأَن يتَأَمَّل الموجودات كلهَا هَل يجد لكل وَاحِد مِنْهَا سَببا وَعلة أم لَا فَإِنَّهُ يجد عِنْد الاستقراء لكل وَاحِد مِنْهَا سَببا عَنهُ وجد ثمَّ ينظر إِلَى تِلْكَ الْأَسْبَاب الْقَرِيبَة من الموجودات هَل لَهَا أَسبَاب أَيْضا أم لَيست لَهَا أَسبَاب فَإِنَّهُ يجد لَهَا أَيْضا أسبابا ثمَّ يتَأَمَّل وَينظر هَل الْأَسْبَاب ذَاهِبَة إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ أم هِيَ واقفة عِنْد نِهَايَة بعض الموجودات أَسبَاب للْبَعْض على سبل الدّور فَإِنَّهُ يجد القَوْل بِأَنَّهَا ذَاهِبَة إِلَى غير نِهَايَة محالا ومضطربا لِأَنَّهُ لَا يُحِيط الْعلم بِمَا لَا نِهَايَة لَهُ ويجد القَوْل بِأَن بَعْضهَا سَبَب للْبَعْض على التَّعَاقُب محالا أَيْضا لِأَنَّهُ يلْزم من ذَلِك أَن يكون الشَّيْء سَببا لنَفسِهِ كَمَا أَنه لَو كَانَ الْألف سَببا للباء وَالْبَاء سَببا للجيم وَالْجِيم سَببا للدال لَكَانَ الْألف سَببا لنَفسِهِ وَهَذَا محَال فَبَقيَ أَن تكون الْأَسْبَاب متناهية وَأَقل مَا يتناهى إِلَيْهِ الْكثير هُوَ الْوَاحِد فسبب الْأَسْبَاب مَوْجُود وَهُوَ وَاحِد وَلَا يجوز أَن يكون ذَات السَّبَب وَذَات الْمُسَبّب وَاحِدًا فسبب أَسبَاب الْعَالم مُنْفَرد بِذَاتِهِ عَمَّا دونه

1 / 11