أنا لن أيئس كما قلت؛ ففي يدي ورقة دفعت عليها رسم الضريبة، وسطرت عليها شكواي ونمقتها بالخط الجميل، وحشوتها بعبارات المدح والثناء على قيصر العظيم. كيف تصل ورقتي إلى يد قيصر؟ قد تأخذني الحيرة أو تذهب بلبي؛ فغير بعيد من هذا الحي سأجد قصر العدالة. حقا إنني لم أدخل أبوابه من قبل، غير أنني سأصعد سلالم المرمر، وأمضي إلى الردهة الكبرى. سوف يسألني الحجاب: ماذا تريد أيها الرجل؟ وسوف أرد عليهم في عزم ثابت: أريد أن ألتقي بقاضي القضاة. - إنه مشغول بإقرار العدل في البلاد. - ولكني أريد أن أسمعه شكواي. - وهل تستطيع أن تعرف الرجل الذي تشكو منه؟ - حسن أيها السادة؛ إنه قيصر!
سيعجب الحجاب من أمري، وسيمد أحدهم يديه ليطردني بعيدا عن قصر العدالة، ولكني سأقنعه أن قيصر هو الذي بعثني، وسوف أفلت من أيديهم لأجري في ردهات القصر باحثا عن قاعة المحاكمات. وسوف أضل في القصر، حتى أجدها. هناك أصرخ بملء صوتي: يا قاضي القضاة، يا قاضي القضاة، ألا تسمع شكواي؟ وسيرفع القاضي وجهه إلى الجريء الذي دنست قدماه قدس أقداس العدالة، وسيقول لي: ممن تشكو أيها الرجل؟ وسوف أقول بلا أدنى خوف: أنا أشكو قيصر أيها القاضي الجليل!
ماذا عسى أن يفعل القاضي؟ إما أن يعطف على شكواي، ويؤجر المحامين للدفاع عنها - فأنا رجل فقير لا أملك حق الدفاع عن نفسي - وإما أن يثور ساخطا: ضعوه بين المتهمين. أما أنا فلن أغضب أو أثور. يكفيني أنني أسمعت القاضي شكواي، وسواء علي أن أقف بين المظلومين أو بين المذنبين. ألم أوفق إلى دخول قصر العدالة في آخر الأمر؟!
أنا أنتظر موكب قيصر، سوف ينحني علي، ويقرب وجهه من أذني، ويقول لي: ستجدني في القصر غدا.
ها هو القصر بلغته بعد أن تمزقت قدماي، وغطى الغبار بشرتي، وها أنا ذا أتقدم من الحراس الأشداء. إنهم يظللون جدران القصر بهيبتهم، ويتسامقون عن جانبيه كالأشجار العتيقة المتكبرة. سوف لا أهاب شيئا. سوف أقول لهم: لقد بعثني الأمير إلى هذا القصر. سيضحك الحراس بلا مراء، وسيتخذون مني أضحوكة لهم، وربما هجم أحدهم فقبض علي بين ذراعيه كأنني دمية عاجزة، لكن هذا كله لن يخيفني، لن يضيرني أن أنتظر يوما أو يومين، أو أن أقف عند البوابة المرمرية شهرا أو شهرين.
فسوف أبعد عن القصر وفي نفسي أحسن الذكريات. ألست قد عرفت الطريق إليه؟ ألست قد ألفت الحراس ، وضاحكتهم، وحفظت ملامح وجوههم؟ ألم أفلح - إلى هذا كله - في أن أعطفهم على حالي، وأن أسرد عليهم حكايتي وتاريخي؟ ألست قد لمست يد الحارس؟ وأليست يد هذا الحارس ستلمس يد رئيسه الذي يفوقه قوة وبأسا وهذا الأخير، من ذا يشك في أنه سيسلم على كبير حراس قيصر؟ أما كبير الحراس فإنه يسلم على قيصر نفسه في كل يوم مرات، أفلا أكون بهذا قد لمست يد قيصر؟!
ربما وجدتهم في المرة التالية يقولون لي: تفضل، لقد أذن لك قيصر، وهو ينتظرك على مضض في الردهة الكبرى!
سأمضي في طريقي غير هياب. - هل تسمح لي أيها الحارس المبجل؟ - أراك رجلا من الشعب! - إني لكذلك يا سيدي. - إذن فقد أخطأت الطريق. - ولكن قيصر هو الذي بعث بنفسه إلي سيدي.
ويفطن هذا الحارس الغبي إلى خطئه حين يهرع إلى حارس آخر أعلى منه مرتبة ليقول لي: تفضل مكرما، نحن ننتظرك من سنين وسنين، ألست أنت ... (وهنا ينطق باسمي)؟ - نعم أنا هو يا سيدي. - ادخل، ادخل. إن قيصر العظيم مشتاق إلى رؤياك!
وأصعد سلالم الرخام الناصعة، حريصا حتى لا تنزلق قدمي. وأمر يدي لأنعمها بملمس الأعمدة الملساء، وأسير في معبر طويل لا تكاد نهايته أن ترى. وحين أبلغ قاعة فسيحة عليها حراس متدثرون بسترة زرقاء، تلمع فوق أكتافهم نجوم وأقمار ذهبية براقة، أسألهم: أنبئوا قيصر أن رجلا من شعبه الأمين قد جاء. - ولكن هذا مكان حاجب الوزير.
Página desconocida