الفصل الثالث عشر
عادت فاننكا مع أبيها في منتصف الليل، فوجدت أنوشكا تنتظرها بردهة القصر؛ لتنزع عنها رداءها، فسألتها فاننكا بنظرة عما تم، فمالت إليها الوصيفة وقالت لها همسا: انتهى كل شيء يا مولاتي.
فتنفست فاننكا كمن أزيح عن صدره حمل ثقيل، ولقد عرفنا الفتاة قوية العزيمة قهارة لعواطفها، لكن لعمري قد جعل لشجاعة الإنسان وصبره حد لا يتعدياه مهما بلغ الإنسان من القوة والعزم؛ فلذا لم تتمالك فاننكا أن تحضر العشاء مع والدها، فاعتذرت له محتجة بإتعاب المرقص، وقصدت غرفتها فانتزعت الزهور عن رأسها والحلي عن صدرها، فرمت بها بعيدة عنها وقطعت المشد عن خصرها وقد كاد يخنقها، ثم استلقت على فراشها حيث استخرطت في البكاء والشهيق بحرقة وولوع، فحمدت أنوشكا ربها إذ فرج عن صدر مولاتها بالبكاء؛ لأنها كانت تخشى عليها غائلة الجمود.
ولما أخذت فاننكا حظها من البكاء قامت تصلي، ولبثت ساعة من الزمن جاثية أمام مصلاها حتى اضطرتها خادمتها الأمينة إلى أن تلتمس لنفسها الراحة، فقامت ورقدت في سريرها، وجلست وصيفتها بجانب السرير، ومضى الليل كله دون أن يزور جفن الفتاتين الكرى، ولما أشرق الصباح سري عن فاننكا بعض انقباضها لفرط ما بكت، ثم عهدت إلى أنوشكا أن تبلغ إيفان شكرها، وتقول له إنها تخشى إن هي أعطته مكافأة على خدمته مبلغا عظيما من المال مرة واحدة أن تحرك عليه الظنون، وتبلغه أنها مستعدة لإعطائه كل ما يريده من الدراهم وقت حاجته إليه.
أما جريجوار فلما نال من سيده الجنرال ما وعده به، اعتزل الخدمة واتخذ خارج المدينة حانة دعاها «الحانة الحمراء»، ولكثرة معارفه بين خدمة وعبيد البيوت الشهيرة ببطرسبرج قصد حانته جمهور عظيم منهم، فأقبلت عليه الدنيا وصار لحانته شهرة بين الناس.
واتخذ الجنرال شرميلوف حلاقا آخر، وعادت الأحوال في قصر الجنرال إلى ما كانت عليه لولا غياب فيدور.
الفصل الرابع عشر
مضى شهران على ما مر بنا من الحوادث، وسرها مكتوم عمن في القصر أجمع، وذات يوم استدعى الجنرال شرميلوف ابنته إليه، فأوجست خيفة لهذه الدعوة، وكانت منذ الليلة المشئومة تترقب شرا من أبسط الأمور، إلا أنها جمعت قواها واتجهت نحو مكتب أبيها فوجدته منفردا ووجهه متهلل بالبشر والسرور، فاطمأنت واقتربت منه فقبلها في جبينها قبلته الأبوية المعتادة، وأشار لها بالجلوس فجلست، ثم مد إليها يده بخطاب مفتوح، فأخذته متعجبة، وأجالت نظرها في صفحاته وإذا به يتضمن موت خطيبها ابن المشير، حيث قتل في براز مع بعض أعدائه.
وأخذ الجنرال يتتبع تأثير هذا الخبر على نفس ابنته، ولم تكن فاننكا مع شجاعتها وقوة عزيمتها لتتمكن من إخفاء عواطفها في مثل هذه الحالة، وأي قلم يتمكن من وصف ما خالجها إذ ذاك من عوامل الأسف والندامة وعذاب الضمير، لا سيما وقد أصبحت خالصة من وعود أبيها ولها حرية الاقتران بمن تشاء.
وقد عزى الجنرال ما لمحه من اضطراب ابنته إلى حبها لفيدور، ذلك الحب الذي تجتهد أن تخفيه عن الناس، ولا تكاد تنم به ظواهرها، فتبسم وقال لها مطمئنا: هيا يا ابنتي، وقري عينا فقد تمهدت الأمور.
Página desconocida