وكان مورو بصيرا فلما رتب أمره كما ذكرنا؛ حفظ لنفسه خط الرجعى، ومهد لجيشه سبيل الوصول إلى جبال الأبنين أو شواطئ جنوة إن لحق به الانكسار.
ولم يكد يفرغ مورو من استعداداته الحربية حتى بلغه خبر دخول سوفاروف مدينة تريفليو وتسليم مدينة برغامة وقصرها، فأقام في مكانه ينتظر العدو حتى لاحت طلائعه في اليوم الخامس والعشرين من أبريل.
ولما وصل سوفاروف عسكر بجنوده على مرمى المدفع من النقط الأمامية الفرنساوية، وكانت جيوشه ضعف جيوش الفرنساويين.
وفي المساء أرسل فيدور خطابا إلى الجنرال شرميلوف يقول فيه: «صرنا أمام الفرنساويين وجها لوجه، وستكون غدا واقعة هائلة أتعشم ألا تغرب شمسها إلا وأنا ملازم أول أو صريع بين القتلى.»
وفي الغد سمع دوي المدافع من جناح الجيشين، حيث اشتبك بينهما القتال، ولكن دحر جناح الفرنساويين الأيمن، وصدت غارة الروسيين عن جناحه الأيسر، وأقبل الليل بظلامه؛ فاغتنم فرصته الروسيون فأصلحوا القنطرة التي كان هدمها الفرنساويون، وأقاموا أخرى على فرسخين منها، وقد تم إنشاء القنطرتين دون أن تشعر به النقط الفرنساوية.
وفي الساعة الرابعة من الصباح عبر النهر قسم عظيم من جيش سوفاروف، فباغت النقط الفرنساوية التي صادفها في طريقه، والسريات التي أتت لتعزز قلب الجيش الفرنساوي، واشتبك بين الفريقين قتال عنيف، أظهر فيه رجال بونابرت ما يشهد بشجاعتهم وشهامتهم، إلا أنهم اضطروا إلى التقهقر لكثرة عدد العدو، وبينما هم في حال من الضيق شديد إذ سمعوا أصواتا آتية من خلفهم، وكانت تلك نجدة أرسلها مورو لتدرك الفرق التي هاجمها الروسيون، فأتت والقوم في أشد الحاجة إليها.
ولما اعتزت جنود الفرنساويين بهذه النجدة هاجمت الأعداء واضطرتهم إلى التقهقر، ودام الفريقان في أخذ ورد، حتى وافت نجدة من النمساويين؛ فاضطر الفرنساويون إلى الانسحاب لقرية بوتزو، ولبثوا هناك ينتظرون قدوم العدو؛ فوافاهم بعد قليل، وانحصر القتال في بوتزو؛ فأخذت القرية واستردت ثلاث مرات متوالية، وفي الرابعة كل الفرنساويون لتكاثر العدو عليهم؛ فاضطروا أن يخلوها. وكان بين الفرنساويين قائد يدعى الجنرال بيكر لم تسمح له نفسه بالقهقرى؛ فلبث مع بعض رجاله يقاتل الأعداء؛ حتى خلت من حوله أعوانه صرعى، فاضطر أن يسلم نفسه أسيرا لبعض ضباط الروسيين. أما الفرنساويون المنهزمون من الفرق المباغتة، فقد فرقت بينهم فرسان النمساويين؛ فقصدت كل فرقة قرية تحصنت فيها.
وفي تلك الأثناء انحصر القتال أمام قنطرة كسانو؛ فهاجم ميلاس ومعه 20 ألف رجل الاستحكامات الأمامية للقنطرة، وما زال يهاجمها برجاله ويرد عنها ثلاث مرات فقد منه فيها ألف وخمسمائة مقاتل، وهو كل مرة تنجده فرقة من أتباعه؛ حتى اضطر الفرنساويون في المرة الرابعة أن ينحازوا إلى الاستحكامات الداخلية المقامة على رأس القنطرة نفسها، وكان مورو قائد الدفاع بذاته، فانتشب هناك قتال تشيب له الأطفال، فكانت القنابل تطيح الرءوس والموت يحصد النفوس، ولا زالت النجدات تتوالى على النمساويين، وقد اتخذوا من جثث رفاقهم سلما ارتقوا عليه ذروة الاستحكامات، حتى رأى مورو أن الدفاع لا يجديه نفعا، فأمر بالقهقرى، ولبث بنفسه فوق القنطرة؛ ليحفظ لجيشه سبيل المرور، وكانت معه فرقة من الفرسان لم يبق منها حوله بعد نصف ساعة سوى 120 نفرا، وكان فيمن قتل حوله ثلاثة من أركان حربه العظام، ولما تمكن الجيش من العبور بلا طارئ؛ تبعه مورو، وما كاد أن يصل الضفة الثانية من النهر حتى ظهر النمساويون في طرف القنطرة من الضفة الأولى وأسرعوا في لحاقه، ولكن لم تكن إلا طرفة عين حتى سمع الفريقان صوتا غلب دوي المدافع وشاهدا القنطرة قد انقضت بمن عليها من فرق النمساويين.
وفي ذلك الحين رأى مورو الفرق التي كانت بعيدة عنه قد آبت منكسرة تتبعها الأعداء، فضمها إليه وأدار وجهه للعدو يكافحه، وتمكن ميلاس في تلك الفترة من إعادة بناء القنطرة؛ فعبر عليها بجموعه؛ فانحصر مورو من جناحيه وأمامه بجيوش تعادل عدا ثلاثة أمثال جيوشه، ولما رأى ضباطه ذلك التمسوا منه أن يأمر بالقهقرى؛ لأن حفظ إيتاليا متعلق بسلامته، فقاوم أفكارهم مورو حينا من الزمن، وكان مدركا جسامة الخطر الذي وقع فيه وعظم الخسارة التي تنجم عن انهزامه، فرأى أن الموت خير له من البقاء بعد الهزيمة، وما زال يكافح ليحفظ لباقي جيشه خط الرجعى، حتى تساقطت من حوله رجاله صرعى في ميدان الوغى، ولبث القتال ثلاث ساعات أتت فيها مؤخرة الجيش الفرنساوي بالمدهشات، ولما رأى ميلاس أن معظم جيش العدو قد أفلت من يده، وأن رجاله قد ملت القتال أمر بالكف عن الحرب، وكانت الجيوش الفرنساوية قد تمت هزيمتها بعد أن فقد 2500 رجل و120 مدفعا.
وفي المساء دعا سوفاروف الجنرال بيكر الأسير إلى تناول الطعام معه وسأله عمن أسره، فأجاب أنه ضابط حديث السن من الفرقة الأولى التي دخلت بوتزو، فتحرى القائد العام عن ذلك الضابط فعلم أنه فيدور روميلوف، حيث كان قادما ليقدم لرئيسه سيف الجنرال المأسور، فدعاه سوفاروف إلى الطعام معه وأسيره، وفي الغد كتب فيدور إلى الجنرال شرميلوف يقول: «لقد قمت بوعدي، وصرت ملازما أول، وقد التمس لي الفلدماريشال سوفاروف من جلالة القيصر رتبة سان فلاديمير.»
Página desconocida