وأقام الفاتح في العاصمة سنتين كاملتين بدون عناء ولا كفاح، وهو في خلالهما لا يفتر عن العمل طرفة عين، فرمم أسوار إستانبول، وحاصر إينانجتي فلم يفلح بفتحها، وما زال الأقنجيون
3
لا ينفكون عن إعمال أيدي التخريب في بلاد المجر وجرمانيا.
بادر الفاتح بعد مضي هاتين السنتين السلميتين إلى تجديد تجريدته على البندقية، وقرر إيفاد أمير أمراء الروملي على حصار أقجه حصار - مركز حكومة إسكندر بك الألباني حال حياته - وأمير أمراء البوسنة مع الأقنجية على راغوزة، وأحمد باشا كدك على فتح أشقودرة، فاستقال الأخير من هذا المنصب لصعوبة الأمر وخطورته، فسقط من عيني السلطان وآلى على فتح الحرب بنفسه.
ومن حسن الحظ أن ملك صقلية قدر مكانة الفاتح الحربية حق قدرها، وعلم علم اليقين أن غضب السلطان يعمل عملا أشد من سخط العالم المسيحي بأسره، فرأى من الحكمة والتعقل عقد صلح شريف، وأمضيا بذلك اتفاقا كان أول ما عاهدت به الدولة العثمانية دولة مسيحية.
وجنح ملك المجر إلى السلم أيضا، فأصبح جمهور البندقية عزلا من كل سلاح وبعيدا عن النصراء والظهراء، وقد بلغت الأقنجية إلى عاصمته واستولى اليأس والرعب على بلاده، فبعث إلى السلطان يطلب الصلح والسلام.
قابل السفير السلطان في صحراء صوفية وعرض عليه شروط الصلح، فلم يعبأ بها الفاتح؛ لأن رأس مطاليبه تسليم أشقودرة، والبندقية ترى في ذلك مساسا بشرفها، فلم تجد هذه السفارة نفعا ولم تغن عن الحرب فتيلا.
أرسل الفاتح داود باشا على حصار أشقودرة، وتوجه هو بذاته على أقچه حصار، وقد كان لها سنة واحدة وهي مثقلة بقيود الحصار، فلما رأى أهلوها أن القوة العثمانية أصبحت في ازدياد، وأن فتح المدينة أضحى قاب قوسين أو أدنى سلموا ليسلموا من خطر الحروب وويلاتها، فاستأنف الفاتح سفره إلى أشقودرة لأنه كان يرمي إلى ضبط حدود الروملي، والتحق بجيشه الذي أرسله أمامه لإصلاح الطرق.
إذا اعتبرنا أن حصار إستانبول كان مبتدأ اختراعات الفاتح في فن المدفعية، فإن حصار أشقودرة كان خبرها وغاية كمالاتها.
وقد كانت قلعة أشقودرة في ذروة جبل، يكتنفها من الغرب بحيرة ومن الجنوب الغربي نهر بويانة الذي ينبع منها وينصب في خليج فينسيا (ونديك)، ومن الشمال الشرقي نهر درنة، ويتلاقى في النهر الأول عند رأس البحيرة، ولها غير هذه الاستحكامات الطبيعية ثلاثة حصون تسمى لش ودرغوش وكول باشي (رأس البحيرة)، فلش على ملتقى النهرين، ودرغوش مطل على المدينة، وكول باش قائم في ثغر البحيرة. أما جمهور البندقية فقد تدبر الأمر وأتم نواقص أشقودرة وحصنها تحصينا مهما، ولم يدع فيها رجالا سوى المحاربين وبعض نساء قليلات كي يتعهدن خدمة الجيش؛ لأنه كان يعلم مبلغ نوايا السلطان من فتح أشقودرة والضرب في عرض الروملي منذ أول مرة حوصرت بها أشقودرة .
Página desconocida