بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي يسر معرفة اليقين فظهرت للعارفين حقائقه، وأوضح لطلابه أعلامه وبانت للمساكين طرائقه، الذي يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق (1)، والصلاة على المختار للهداية فهو قائد الخير وسائقه، محمد المصطفى الذي صفت جميع صفاته وخلائقه، وعلى أخيه الذي جعل سيفا لنبوته فهو مؤازره وموافقه، ذلك أمير المؤمنين حقا المميز به صادق عهد الله ومدافعه، صلى الله عليهما وعلى آلهما الذين هم سوابق الفضل ولواحقه.
وبعد، فيقول الفقير إلى الله المنان إبراهيم بن سليمان: إن الزمان وإن تفاقمت (2) ضلالته وبعدت هدايته، ورجع القهقرى على عقبه وأقعى (3) إقعاء الكلب على ذنبه، وكلح (4) منه لأهل الفضل نابا وفتح لهم من مضلات الفتن بابا، ونادى بخدامه في الشهوات الذين ارتكبتهم الغفلة والهفوات: هلموا إلى بقية الله للدين وحفظة الحجج والبراهين، فلا يبقوا لهم من الناس دارا ولا في عمران الأرض آثارا، فإن ولي النعم ودافع النقم ممد لأوليائه بالإرقاد وهو القاهر
Página 19
بقدرته في سمائه وأرضه فوق العباد، وقد صرح عنه بكلامه فصيح المنادي، فأسمع من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد من الحاضر والبادي " ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد " (1) و " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " (2).
هذا وأن بعض إخواننا في الدين قد ألف رسالة في حل الخراج وسماها " قاطعة اللجاج " وأولى باسمها أن يقال: مثيرة العجاج كثيرة الاعوجاج، ولم أكن ظفرت بها منذ ألفها إلا مرة واحدة في بلد سمنان، وما تأملتها إلا كجلسة العجلان، فأشار إلى من يجب طاعته بنقضها ليتخلق من رآها من الناس برفضها، فاعتذرت بأعذار لا نذكر (3) الآن، وما بلغت منها حقيقة تعريضية بل تصريحية بأنواع التشنيع ومخالفته في ذلك، فلما تأملته الآن مع علمي بأن ما فيها أو هي من نسج العناكب، فدمع الشريعة على ما فيها من مضادها ساكب، وهو مع ذلك لا يألو جهدا بأنواع التعريض بل التصريح بما يكاد يخفى مقصده فيه على أهل البصائر، ومن هو على حقائق أعوار المقاصد عاثر، لكن المرء المؤمن يسلي نفسه بالخبر المنقول عن أهل المآثر عليهم السلام: لا يخلو المؤمن من خمس إلى أن قال: وهو مؤمن يؤذيه، فقيل: مؤمن يؤذيه! قال: نعم وهو شرهم عليه لأنه يقول فيه فيصدق (4) وفي قوله تعالى " وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " (5)
Página 20
وقوله " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط " (1) أتم دلالة وسلوى، وقد حسن بي أن أتمثل بقول عنترة العبسي:
ولقد خشيت بأن أموت ولا أرى * للحرب دائرة با بني ضمضمي شاتمي عرضي ولم أشتمهم * والناذرين إذا لم ألقهما ذمي فاستخرت الله تعالى على نقضها وإبانة ما فيها من الخلل والزلل، ليعرف أرباب النظر من أهل العلم والعمل الحق فيتبعوه والباطل فيجتنبوه، فخرج الأمر بذلك، فامتثلت قائلا من قريحتي الفاترة على البديهة الحاضرة ثلاثة أبيات:
فشمرت عن ساق الحمية معربا * لتمزيقها تمزيق أيدي بني سبا وتفريقها تفريق غيم تقيضت * له ريح خسف صيرت جمعه هبا أبى الله أن يبقى ملاذ العاقل * كذاك الذي لله يفعل قد أبى فألفت هذه الرسالة وجعلتها واضحة الدلالة وسميتها " السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج " ومن الله تقدس اسمه أسأل العصمة في المقاصد والمصادر والموارد ولا قدم على المقصود بالذات من النقض فوائد:
الفائدة الأولى قال العلامة في تحريره: فصل، ويحرم كتمان الفقه والعلم (2) قال الله تعالى " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " (3). وقال " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار " (4). وقال - عليه السلام: من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار (5). وقال عليه السلام: إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم
Página 21
يفعل فعليه لعنة الله (1).
الثانية قال عليه السلام: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل يا رسول الله فيما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم (2). أورد ذلك العلامة في تحريره أيضا (3). وقال عليه السلام: العلماء أحباء الله ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولم يميلوا في الدنيا ولم يختلفوا أبواب السلاطين، فإذا رأيتهم مالوا إلى الدنيا واختلفوا أبواب السلاطين فلا تحملوا عنهم العلم ولا تصلوا خلفهم ولا تعودوا مرضاهم ولا تشيعوا جنائزهم فإنهم آفة الدين وفساد الإسلام يفسدون الدين كما يفسد الخل العسل (4). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: النظر في وجوه العلماء عبادة (5). سئل جعفر بن محمد عليه السلام عنه فقال: هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكرك الآخرة ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة (6). وفي حديث آخر: إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص وإياك يخدع، ويقال: يرد مظلمة ويدفع عن مظلوم، فإنه هذه خدعة إبليس اتخذها فخا والقرآن سلما (7). وروي الشيخ بإسناده إلى معاوية الأسدي قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول: أما والله إنكم لعلى دين الله وملائكته فأعينونا على ذلك
Página 22
بورع واجتهاد، عليكم بالصلاة والعبادة، عليكم بالورع (1). وإلى محمد بن مسلم الثقفي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام يقول: لا دين لمن دان بطاعة من عصى الله، ولا دين لمن دان بفرية باطل على الله، ولا دين لمن دان بجحود شئ من كتاب الله (2). وإلى علي بن جعفر بن محمد عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم لأصحابه: ألا أنه قد دب إليكم داء الأمم من قبلكم وهو الحسد، ليس بحالق الشعر لكنه حالق الدين، وينجي منه أن يكف الإنسان يده ولسانه، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن (3). وإلى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: تناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانة في ماله وإن الله سائلكم يوم القيامة (4). وبحذف الإسناد عن النبي صلى الله عليه وآله: العلم وديعة الله في أرضه والعلماء أمناؤه، فمن عمل بعلمه أدى أمانته، ومن لم يعمل بعلمه كتب في علم الله من الخائنين (5).
الثالثة بحذف الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أعان طالب
Página 23
العلم فقد أحب الأنبياء وكان معهم، ومن أبغض طالب العلم فقد أبغض الأنبياء فجزاؤه جهنم، وأن لطالب العلم شفاعة كشفاعة الأنبياء، وله في جنة الفردوس ألف قصر من ذهب، وفي جنة الخلد مائة ألف مدينة من نور، وفي جنة المأوى ثمانون درجة من ياقوتة حمراء، وله بكل درهم أنفقه في طلب العلم جوار بعدد النجوم وبعدد الملائكة، ومن صافح طالب العلم حرم الله جسده على النار، ومن أعان طالب العلم إذا مات غفر الله له ولمن حضر الجنازة. قالوا لمالك بن دينار: يا أبا يحيى رب طالب علم للدنيا! فقال: ويحكم ليس له يقال طالب العلم يقال له طالب الدنيا (1). وهذا موافق لقوله عليه السلام: ولئن تطلب الدنيا بأقبح ما يطلب به خير من أن يطلب بأحسن ما يطلب به الآخرة (2). وقال عليه السلام من آذى طالب العلم لعنته الملائكة وأتى يوم القيامة وهو عليه غضبان (3)، ومن أهان فقيها مسلما لقي الله وهو عليه غضبان (4).
الرابعة الفقهاء أفضل الناس بعد المعصومين إذا عملوا بمقتضى علمهم واستعملوا الورع في أفعالهم وكفوا ألسنتهم عن الغيبة لأنها آفتهم، فإن الرجيم اللعين قد علم أنهم أشد الخليفة عليه لأنه إنما طلب النظرة لإغواء النوع وهم هداة الطريقة، ولهذا ورد أن فقيها واحدا أشد على إبليس من ألف عابد (5) فامتحنهم بحب
Página 24
السمعة وبالغيبة، لأن الأولى علامة المرائي، والرياء يصير الطاعات معاصي، والثانية تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وقد ورد فيها ما لا يحصى. ومنه عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام الغيبة أدام كلاب النار (1). وعنه أيضا:
كذب من زعم أنه ولد من الحلال ويأكل لحوم الناس (2). وزين أيضا لهم ما وجب عليه التنزه عنه من أعمال الحيل والشبه في الدين ليسقط أمانتهم عند الله ومحلهم عند قلوب الأتقياء، فإن تميز المقتدي أنما يكون بما ينفرد به عن أبناء النوع، فكيف إذا فعل ما يتعفف عنه أكثر أفرادهم؟ لا جرم يسقط محله فلا يركن إليه في الدين لأنه ظالم لنفسه فيدخل تحت عموم قوله تعالى " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالك من دون الله من أولياء ثم لا ينصرون " (3).
الخامسة الحيل الشرعية على أقسام: منها ما لا ينافي الأمانة، ومنها ما ينافيها ولهما ضابط هو أن ما أخل بالمطلوب الشرعي الناشئ عن حكمة ربانية بها يتم صلاح النوع وأحوال معاشهم فلا شك في كونه منافيا للأمانة، وما ليس كذلك لا ينافيها لكن منه ما يكون التنزه عنه أولى، ومنه ما لا يوصف بذلك، ولنفرض صورا يتضح للناظر بها جلية الحال.
الأولى: إذا باع الإنسان موزونا أو مكيلا بمثله جنسا متفاضلا فهو ربا، فجاز أن يتحيل بما يخرجه عن الربا إما بضم غير الجنس إليه أو غير ذلك من الصور المذكورة شرعا، وهذا غير مناف للحكمة بل موافق لها وليس تركه أولى، وذلك لأن تحريم الربا أمر تعبدي لا يتعلق بمصلحة المتعاوضين أصلا بل مصلحتهما نظرا إلى عمل المعاش في جعل التعاوض تابعا لتراضيهما، ومن ثم أجاب تعالى
Página 25
المنكرين حيث قال حكاية عنهم: " ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا " (1) بقوله: " وأحل الله البيع وحرم الربا " (2) فغرض الشارع يتم بالتخلص منه بأي وجه اتفق، إذا لا غرض له منوطا إلا بعدم التفاضل مع التساوي، ومثل هذه الحيلة لإسقاط الشفعة فإن الأمثل أن نزع المال من المالك لا يكون إلا عن رضاه خرج منه ما كلف به الشارع عند وقوع البيع دون سائر العقود في الأراضي التي يمكن قسمتها من ثبوت حق الشريك وهو الأخذ بالشفعة، وليس بلازم على المشتري أن يوقع البيع ليشفع منه بل له أن يوقع الصلح ليسلم من التكليف بالحكم الشرعي، والحق تعالى إنما أوجب حكم الشفعة مع البيع ولم يوجب البيع.
الثانية: إذا دفع إلى فقيه مالا ليصرفه على المحاويج ويأخذ منه لنفسه إن كان محتاجا وهو غير محتاج فملك ماله من يثق به كولده وزوجته ليكون محتاجا وأخرجه على نفسه ثم استعاد ماله كان ذلك من الحيل المنافية للأمانة لمنافاته حكمة طلب إخراج الزكاة لأن الغرض مساواة الفقراء ودفع ضروراتهم بدفع الحق المفروض لهم وقد ورد استحباب نقلها إلى الفقهاء لأنهم أعلم بمواقعها، وربما قيل بالوجوب، فإذا فعل الفقيه ذلك كان خائنا لأمانته غير موثوق بديانته وهو ممن نصب للدين فخا يصطاد به، ومثل هذا من أتى إلى مال مسلم يده عليه فتسلط باليد الغابة حتى أخافه، وعلم منه أنه إن لم يوافقه اضطره إلى ما هو أبلغ مما يلتمس منه، ثم طلب منه أن يبيعه نصف نخيله وبساتينه التي يكون قيمة الواحد منها ألف دينار وهي خمسون مثلا بدينار ليتملك نصف ذلك ويأخذه منه، وذلك لأنه مناف لمطلوب الشارع من عدم أكل المال بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض، الناشئ عن حكمة تسلط المسلمين على أموالهم إلا عن طيب من
Página 26
أنفسهم ليتم نظامهم ويتوفر دواعيهم إلى حاجاتهم المتفرعة عن غناهم، ونحو ذلك من أمره ظالم بمال على عامل لا يستحق عنده شيئا كعشار مثلا فأخذ رطل إبريسم مثلا فباعه عليه بإثني عشر تومانا وقيمة الرطل أضعافه والمأمور عليه لا يقدر أن يمتنع لخوف من الظالم فإن ذلك خيانة وإعانة على منكر وهو أمر الظالم على المظلوم بما لا يستحق وعدم انزجار العامل عن عمله، فانظر أيها العاقل اللبيب كم بين الصورتين اللتين في المسألة من ألف ألف جريب، وبعض قاصري النظر عادمي الفكر يتسلط على جواز الصور بورودها في مثل دفع الربا والشفعة، وليس إلا من غلبة حب الدنيا المقتضي لعدم البصيرة، ونعوذ بالله من ذلك.
الثالثة: إذا كان على فقير من السادة أو العوام دين لرجل وعلى الآخر حق من الخمس أو الزكاة، وعلم كل منهما أن المدين لا يتمكن من أداء الدين لإعساره، فصالح ذو الحق - صاحب الدين على ما في ذمته الفقير بشئ نذر رضي به صاحب الدين لعلمه بعدم تمكنه من الاستيفاء، ثم احتسب ذو الحق ما يستحقه في ذمة الفقير من حق الله تعالى عليه فإنه يصح ولا ينافي الحكمة، لكن احتساب قدر ما دفع وإبراء الفقير أو إنظاره بالباقي ودفع باقي ما في ذمته من الحق إلى الفقراء أولى. ولهذا ورد في الشرع المطهر كراهة صرف الصدقات الواجبة إلى من يعتاد صلته من الإخوان (1)، وربما كان من هذا الباب الصور الشرعية في دفع القرض بزيادة عليه، وحكى لي من أثق بدينه إن الشهيد ابن مكي تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوحة جنته سئل لما قدم المدينة حاجا عن المائة يزاد عليها عشرون فقال ربا والله ربا والله، فقالوا له: ليس كما تذهب لكن نحن نقرض المائة ونستوهب عشرين منها ثم نقرض العشرين، فقال: حيلة حيلة لا أدري.
فانظر إلى تورع هذا الفقيه واحتياطه في عدم الحيلة المحتملة، وما نال الفقهاء
Página 27
المرتبة عند الله تعالى والزلفة لديه إلا بالورع، وما حكاه السعيد عن والده في طبخ الزبيب فيه كفاية لكل لبيب أريب، وحيث أتينا على ما أوردناه من المقدمات فلنرجع إلى المقصود بالذات.
قوله: حيث إنا لزمنا الإقامة ببلاد العراق وتعذر علينا الانتشار في الآفاق لم نجد بدا من التعلق بالغربة لدفع الأمور الضرورية من لوازم مهمات (1) المعيشة (2).
أقول: لا يخفى على كل ناظر أن هذا العذر لا ينهض على مخالفة الشرع القويم والطريق المستقيم، فالتعلق بالغربة إما أن يكون مشروعا خاليا عما يدنس غرض أهل الشريعة أو لا يكون، فإن كان الأول لم يفتقر إلى توطية العذر بما ذكر على وجه هو إظهار عدم حب الزيادة وطبيعة بعض المكلفين مشعوفة بها كما لا يخفى، وإن كان الثاني فالعذر غير مقبول، فكيف يستجير من ادعى الارتقاء في العلم أن يتكلم بنحو هذا بعد سماعه قوله تعالى " إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " (3). وبعد قوله عليه السلام: من طلب العلم يكفل له برزقه (4). وقوله عليه السلام: الرزق كالموت يأتيك وإن هربت منه (5). وغير ذلك من الآثار، على أن الناظر بعين البصيرة يرى ما قاله غير واضح، فإن إقامته في العراق لم تكن لازمة خصوصا حينئذ وعدم وجدانه بدا من التعلق غير واقع، فإنه لم يقم فيها وفي مثلها إلا ريب ما يطرح الإعياء، ثم أخذت منه وهو مستقيم في الحالين ولا تفاوت عليه
Página 28
فيهما، فالعذر إذن مزيف إلا على من ران على قلبه مما كسب.
قوله: مقتفين في ذلك أثر كثير من العلماء وجم غفير من الكبراء الأتقياء (1).
أقول: لم يرض هذا المعتذر أن يرتكب ما ارتكب إلا بأن ينسب مثل فعله إلى الأتقياء على قاعدة قوله تعالى وقوله رسوله المعلومين لأهل العلم وتركنا ذكره بعينه حذرا من خبط الجهال في المثال. وليت شعري أي تقي ارتكب ما ارتكبه من أخذ قرية يتسلط فيها بالسلطان من غير سبق العياء ولا غيره من الأسباب المملكة، فإن كان وهمه يذهب إلى مثل العلامة جمال الملة والدين الحسن بن يوسف بن المطهر قدس الله سره - فهذا من الذي يجب عنه الاستغفار ويطهر القسم بتكراره بعد المضمضة، فإن الذي كان له من القرى حفر أنهارها بنفسه وأحياها بماله لم يكن لأحد فيها من الناس تعلق أبدا، وهذا مشهور بين الناس، ويدل عليه ونزيده بيانا أنه وقف أكثر قراه في حياته وقفا مؤبدا، ورأيت خطه عليه وخط الفقهاء المعاصرين له من الشيعة والسنة، ومنه إلى الآن ما هو في يد ينسب إليه بقبضه بسبب الوقف الصحيح، وفي صدر سجل الوقف أنه أحياها وكانت مواتا، والوقف الذي عليه خطه وخط الفقهاء موجود الآن ومع ذلك فالظن بمثله لما علم من تقواه وتورعه يجب أن يكون حسنا مع أنه يتمكن من الأمور على ما في نفسه، ولو لم يكن من تقواه، إلا أن أهل زمانه فيه بين معتقد فيه ما لا يذكر وآخر يعتقد فيه الأمر المنكر ويبالغون في نقضه ويعملون بنقل الميت دون قوله كما صرح به هو عن نفسه وهو في أعلى مراتب القدرة عليهم، ولم يتعرض لغير الاشتغال باكتساب الفضائل العلمية والأحكام النبوية وإحياء دارس الشريعة المحمدية لكان كافيا في كمال ورعه وجمال سيرته، ونحو ذلك يقال في مثل علم الهدى وأخيه رضوان الله عليهما - على أن الذي يجب على هذا المستشهد
Página 29
نظرا إلى طريقة العلم وآدابه واقتفاء آثار المستشهدين أنه ينقل عنهم ولو بخبر واحد أنهم أخذوا القرية الفلانية أو قرية ما لغيرهم تعلقوا بها لأمر السلطان لهم بذلك حتى ثبت استشهاده، أما مجرد أن يكون لهم قرى وأموال ونحو ذلك لا يدل على أنهم فعلوا كمثل فعله ليصح استشهاده، فهذا أيضا مزيف، وحسن أن يتمثل له بقول الشاعر:
وأفحش عيب المرء أن يدفع الفتى * توى النقص عنه بانتقاص الأفاضل قوله: اعتمادا على ما ثبت بطريق أهل البيت عليهم السلام من أن أرض أهل العراق ونحوها مما فتح عنوة بالسيف لا يملكها مالك مخصوص بل هي للمسلمين قاطبة يؤخذ منها الخراج أو المقاسمة ويصرف في مصارفه.. الخ (1).
أقول: سيأتي الجواب إن شاء الله تعالى عن هذا في محله مفصلا، بحيث يكشف عن غمام التباسه ويعرف المستضئ بنور الحق موضع اقتباسه.
قوله: وفي حال غيبته عليه السلام قد أذن أئمتنا عليهم السلام لشيعتهم في تناول ذلك من سلاطين الجور (2).
أقول: الذي أذن أئمتنا عليهم السلام لشيعتهم في زمن الغيبة المناكح وفي وجه قوي له شاهد من الأثر المساكن والمتاجر وهو في الأرضين مختص بما كان حقهم عليهم السلام كالأنفال، أما الأرض المفتوحة عنوة فهي للمسلمين قاطبة، فتصرفهم فيها جائز مع عدم ظهور الإمام، ويدل عليه ما يأتي من الأحاديث ما أشار إليه بعض الأصحاب كالشيخ في التهذيب (3) وغيره، والظاهر سقوط الخراج زمن الغيبة عن الشيعة لظاهر الأخبار. ويؤيده أنه لم ينقل عن السلف منهم والخلف عزل قسط من شئ من الأراضي وإن لم يؤخذ منهم الخراج مع اعتنائهم
Página 30
بالتقوى والتحرز عن الاشتغال بالحقوق. وقد يستدل على سقوط الخراج عن المسلمين كافة مع عدم ظهور الإمام بظاهر بعض الأحاديث، وسيأتي. نعم الظاهر أنه يستقر الضمان على غير الشيعة لظاهر حديث عمر بن يزيد (1). إذا عرفت هذا فقوله " وفي حال غيبته عليه السلام قد أذن أئمتنا عليهم السلام لشيعتهم في تناول ذلك من سلاطين الجور " (2) إن أراد به أنهم إذ أذنوا في تناول الأراضي فهو ممنوع، ولا نعرف قائلا به ولا أثرا من الحديث يدل عليه، وهو قد سلم ذلك في رسالته حيث اعتراض بعد ذكر الحديث التي تدل في زعمه على إباحة الخراج باعتراضين.
أحدهما: أن الأحاديث في الابتياع فلا يجوز غيره.
والثاني: أنها في التناول لما يأخذه الجائر فلا يتسلط على الأخذ من دون أخذه سابقا، لأنه غير مدلول الأحاديث وقصاراه في الجواب عن الثاني المساواة، وعن الأول المساواة مع التنبيه الدال على الأولوية. وستسمعها مع ما عليهما مفصلا إن شاء الله تعالى.
وإن أراد أنهم أذنوا في ابتياع ما يأخذه الجائر فليس مخصوصا بالخراج فإنهم أذنوا في ابتياع ما يأخذه من زكاة من أسلم طوعا من الأراضي بل و من الأنعام ولا بالشيعة، ومع أنه لا يدل على ما هو فيه من حل القرية بشئ من الدلالات وستسمعه عن قريب إن شاء الله تعالى.
قوله: فلهذا تداوله العلماء (3).. الخ.
أقول: إن أراد بما تناولوه ما أجازه الأئمة عليهم السلام لشيعتهم من حل الثلاثة أو ابتياع ما يأخذه السلطان فقد بينا أنه لا دلالة فيه على مطلوبه، وإن أراد أنهم تداول أخذ قرى المسلمين ووضع يديهم عليها فنحن لا نسلم فعل واحد
Página 31
منهم له أو إشارته إلى إباحته فضلا عن تداولهم له، وعلى طريق آداب البحث على المدعي هنا تصحيح النقل بما ثبت به شرعا ولو بخبر واحد أنهم تداولوا ذلك، أما الدعوى المجردة فلا تقبل في مواضع النزاع. هذا وقد يمنع دلالة التداول ما لم يتحقق إجماع أو ما يقوم مقامه من الأدلة التي يصح الاعتماد عليها.
قال السيد التقي الورع ابن طاووس الحسني مجيبا لمن أورد عليه لما ترك التقدم والنقابة الاعتراض بفعل المرتضى علم الهدى وأخيه بعد أن قال: إن أولئك قد يتملكون في زمانهم مما لا نقدر عليه (1) - ما معناه: إني قلت بذلك على سبيل التأدب معهما وإلا فلست براض عليهما ولا على فعلهما وليسا معصومين حتى يكون فعلهما حجة، فهما داخلان تحت من يرد عليه مثل هذه الأفعال.
قوله: مع أني لم اقتصر فيما أشرت إليه على مجرد ما نبهت عليه بل أضفت إلى ذلك من الأسباب التي يثمر الملك ويفيد الحل ما لا يشوبه شك ولا يلحقه ليس من شراء حصة من الأشجار والاختصاص بمقدار معين من البذر فقد ذكر أصحابنا طرقا للتخلص من الربا (2).
أقول: هذا لا يحتاج إلى بيان طائل بعد ما حققناه في المقدمة، وذلك لأنه إن بني الحل على الملك فالصورة حيلة تنافي الأمانة بل غير جائزة لأن أهلها مقهورون مخافون، ولهذا لما أخذت القرية منه لم يمكنه أن يدعي عليهم ولا أن يطالبهم بما ابتاعه منهم لأنهم يجيبوه بأنا إنما فعلنا ذلك خوفا ولو كان عن رضى وإيثار لاستقر ملكه عليه كسائر الأملاك المبتاعة، وإن لم يبن عليه فوجوده كعدمه بل عدمه أولى، ومن هنا علم أن الاحتياط لا بد فيه من المعرفة والتقوى والورع. ومن العجب أن الخراج عنده ليس من الشبهات ولا من المشتبهات، وظاهره أن القرية * (1) كشف المحجة / ص 112 نقلا بالمضمون.
(2) راجع خراجيته (ره)، ص 38.
Página 32
مساوية للخراج، والاحتياط إنما بكون المقتضي من الخلاف والشبهة وهذا خلف، على أن الصورة التي عليها مقتضى دخوله تحت الملاك والزراريع الذين يلزمهم الخراج، فظاهره كما استشهد به آخر رسالته إن كتم الخراج وسرقته والحيلة عليه لا يجوز. وحينئذ يلزمه الخراج لدخوله تحت أهله هذا خلف فرجع ما عمله على أصله بالإبطال.
قوله: المقدمة الأولى في أقسام الأرضين وهي في الأصل على قسمين:
أحدهما: أرض بلاد الإسلام، وهي عامر وموات، فالعامر ملك لأهله لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن مالكه، والموات إن لم يجر عليه ملك مسلم فهو لإمام المسلمين يفعل به ما يشاء، وليس هذا القسم من محل البحث المقصود.
القسم الثاني: ما ليس كذلك وهو أربعة أقسام:
أحدهما: ما يملك بالاستغناء.. إلخ.
وثانيهما: أرض من أسلم أهلها عليها طوعا.. الخ، ومنه قوله: إذا عرفت هذا فاعلم أن العلامة في المختلف احتج بهاتين الروايتين (1) قلت: يعني ما يذكره عن قريب على مختار الشيخ والجماعة، وهما في الدلالة على مختار ابن حمزة وابن البراج أظهر ثم احتج لهما برواية لا يدل على مطلوبهما بل ولا يلتئم مع مقالتهما .. الخ. (2) أقول: لا يخفى على ممن عرف الشريعة بأعلى مراتب المعرفة أو وسطها أو أدناها أن هذا كلام من لا يحقق شيئا ومن ليس له اطلاع على هذا الفن ولا على اصطلاح أهله، وذلك لأن أصحابنا في باب إحياء الموات يقسمون الأراضي إلى قسمين: أرض بلاد الإسلام ولا يخرج عنها ويقابلها أرض بلاد الشرك، وفي
Página 33
باب الجهاد يذكرون للأراضي أقساما أربعة: المفتوحة عنوة، وأرض الصلح، والتي أسلم أهلها عليها طوعا، والأنفال، فقسمته هنا الأراضي في الأصل على قسمين: أحدهما أرض بلاد الإسلام، وثانيهما ما ليس كذلك، وهو أربعة عن التحقيق بمعزل، فإن أرض الإسلام لا يخلو إما أن يكون ما أسلم أهلها عليها طوعا أو ما قابل بلاد الشرك، وما قابل بلاد الشرك ينقسم إلى المفتوح عنوة وما أسلم أهلها عليها طوعا وغيرهما. وليت شعري كيف جعل أرض بلاد الإسلام قسما يقابل الأربعة؟ وكيف حصر ما ليس أرض بلاد الإسلام في الأربعة المذكورة؟
ثم ليت شعري كيف جعل القسم الذي هو أرض بلاد الإسلام ليس من محل البحث المقصود؟ فليت شعري ما المقصود بالبحث حتى لا يكون منه؟ ومن أي وجه اختص ما سواء بأنه المقصود بالبحث بحيث لا يشاركه فيه فيساويه؟ ويمكن الجواب بأن هذا من. مخترعات اجتهاده ومعناه في نفسه ويظهر بعد السؤال عنه، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
تنبيه وإيقاظ: إن كنت في شك مما أشرنا إليك فاستمع لما يتلى عليك :
قال الشيخ رحمه الله في المبسوط: (1) فصل: في حكم أراضي الزكاة وغيرها، الأرضون على أربعة أقسام حسب ما ذكرناه في النهاية، (2) فضرب منها يسلم أهلها عليها.. إلخ، والضرب الآخر من الأرضين ما أخذ عنوة بالسيف، والضرب الثالث كل أرض صالح أهلها عليها وهي أرض الجزية.. إلخ، والضرب الرابع كل أرض انجلى أهلها أو كانت مواتا.. إلخ. وإنما لم نذكر تتمة كلامه في الأرضين لعدم تعلق غرضنا به، ولأن نحوه آت في كلام التحرير (3)
Página 34
الذي نقشه المؤلف فلا فائدة في تكراره.
وقال في كتاب إحياء الموات: (1) والبلاد على ضربين: بلاد الإسلام وبلاد الشرك، فبلاد الإسلام على ضربين: عامر وغامر، فالعامر ملك لأهله لا يجوز لأحد الشروع فيه والتصرف فيه إلا بإذن صاحبه.. الخ، وأما الغامر على ضربين: غامر لم يجر عليه ملك مسلم، وغامر جرى عليه ملك مسلم.. إلخ. وأما بلاد الشرك فعلى ضربين: عامر وغامر، فالعامر ملك لأهله، وكذلك كل مكان به صلاح العامر من الغامر، فإن صاحب الغامر أحق به كما قلنا في العامر في بلاد المسلمين، ولا فرق بينهما أكثر من أن العامر في بلاد الإسلام لا يملك بالقهر والغلبة، وأما الغامر فعلى ضربين.
وقال ابن إدريس في السرائر: (2) باب أحكام الأرضين وما يصح التصرف فيه بالبيع والشراء وما لا يصح. الأرضون على أربعة أقسام: ضرب منها أسلم أهلها عليها طوعا.. إلخ، والضرب الثاني من الأرضين ما أخذ عنوة بالسيف، والضرب الثالث كل أرض صالح أهلها وهي أرض الجزية.. إلخ، والضرب الرابع كل أرض انجلى أهلها.. إلخ ثم قاله: والبلاد على ضربين.. وساق البحث على نحو ما ذكر الشيخ في المبسوط.
وقال العلامة في الإرشاد: (3) المطلب الرابع في الأرضين وهي أربعة.. إلخ ثم قال سياقة: لا يجوز إحياء الغامر ولا ما به صلاح العامر كالشرب والطريق في بلاد الإسلام والشرك إلا أن ما في بلاد الشرك نعيم بالغلبة، ونحو ذلك قال في القواعد (4) وقال المحقق في الشرائع (5) وغير ذلك من كتب الأصحاب من أرادها
Página 35
وقف عليها فلا حاجة إلى سطرها مفصلة وفيما ذكرناه كفاية.
قوله: القسم الثاني.. إلخ. (1) أقول: هذه الأقسام التي ذكرها هو كلام العلامة في تحريره (2) إلا ما شذ، فليس الكلام منسوبا إليه لتكون الجناية فيه إن كانت عليه إلا ما أشار إليه من الدليل فإنه كلام المختلف، وأنا الآن أذكر كلام التحرير بعينه ليعرف الناظر أنه أخذه منه نقشا من غير تغيير، وأذكر كلام العلامة في المختلف.
(3) وأشار إلى ما ينبغي الإشارة إليه.
قال العلامة في تحريره: (4) الثالث في الأرضين وفيه ثمانية مباحث: الأول:
الأرضون على أربعة أقسام (أحدها) ما يملك بالاستغنام ويؤخذ قهرا بالسيف فإنها للمسلمين قاطبة لا يختص بها المقاتلة ولا يفضلون على غيرهم، ولا يتخير الإمام بين قسمتها ووقفها وتقرير أهلها بالخراج، ويقبلها الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث وعلى المتقبل إخراج مال القبالة وحق الرقبة وفيما يفضل في يده إذا كان نصابا العشر أو نصف العشر، ولا يصح التصرف في هذه الأرض بالبيع والشراء والوقف وغير ذلك، وللإمام أن ينقله من متقبل إلى غيره إذا انقضت مدة القبالة، وله التصرف فيه بحسب ما يراه من مصلحة المسلمين، وارتفاع هذه الأرض تنصرف إلى المسلمين بأجمعهم، وليس للمقاتلة فيها إلا مثل ما لغير هم من النصيب في الارتفاع. (الثاني) أرض من أسلم أهلها عليها طوعا من قبل نفوسهم من غير قتال فتترك في أيديهم ملكا لهم
Página 36
يصح لهم التصرف فيها بالبيع والشراء والوقف وسائر أنواع التصرف إذا عمروها وقاموا بعمارتها، ويؤخذ منهم العشر أو نصف العشر زكاة إذا بلغ النصاب، فإن تركوا عمارتها وتركوها خرابا كانت للمسلمين قاطبة، وجاز للإمام أن يقبلها ممن يعمرها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع، وكان على المتقبل بعد إخراج حق القبالة ومؤونة الأرض إذا بقي معه النصاب العشر، وعلى الإمام أن يعطي أربابها حق الرقبة. (الثالث) أرض الصلح وهي كل أرض صالح أهلها عليها، وهي أرض الجزية، يلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه من نصف أو ثلث أو ربع أو غير ذلك ، وليس عليهم غير ذلك، وإذا أسلم أربابها كان حكم أرضهم حكم أرض من أسلم طوعا ابتداء، ويسقط عنهم الصلح لأنه جزية، ويصح لأربابها التصرف فيها بالبيع والشراء والهبة وغير ذلك، وللإمام أن يزيد وينقص ما يصالحهم عليه بعد انقضاء مدة الصلح بحسب ما يراه من زيادة الجزية ونقصانها، ولو باعها المالك من مسلم صح وانتقل ما عليها إلى رقبة البائع، هذا إذا صولحوا على أن الأرض لهم، أما لو صولحوا على أن الأرض للمسلمين وعلى أعناقهم الجزية كان حكمها حكم الأرض المفتوحة عنوة عامرها للمسلمين ومواتها للإمام.
(الرابع) أرض الأنفال وهي كل أرض انجلى أهلها عنها وتركوها، أو كانت مواتا لغير مالك فأحييت، أو كانت آجاما وغيرها مما لا يزرع فاستحدثت مزارع فإنها كلها للإمام خاصة لا نصيب لأحد معه فيها، وله التصرف فيها بالقبض والهبة والبيع والشراء بحسب ما يراه، وكان له أن يقبلها بما يراه من نصف أو ثلث أو ربع، ويجوز له نزعها من يد متقبلها إذا انقضت مدة الزمان إلا ما أحييت بعد موتها، فإن من أحياها أولى بالتصرف فيها إذا تقبلها بما يقبلها غيره، فإن أبى كان للإمام نزعها من يده وتقبيلها لمن يراه، وعلى المتقبل بعد إخراج مال القبالة فيما يحصل في حصة العشر أو نصف العشر الثاني، قال الشيخ: كل موضع أوجبنا فيه العشر أو نصف العشر من أقسام الأرضين إذا أخرج
Página 37
الإنسان مؤونته ومؤونة عياله لسنته وجب عليه فيما بقي بعد ذلك الخمس لأهله.
أقول: إلى هنا كلام التحرير وهو قريب من عبارة الشيخ في المبسوط التي ذكرها في آخر فصول كتاب الزكاة (1). ولا يخفى أن المؤلف قد أخذها بعينها ويتعلق بها فوائد:
(منها) أن الشيخ والعلامة اقتصرا على قول وللإمام أن ينقلها من متقبل إلى آخر إذا انقضت مدة القبالة، وزاد المؤلف " أو اقتضت المصلحة ذلك " وظاهره أن اقتضاء المصلحة يتخير النقل قبل انقضاء المدة وهو غلط، لأن الإمام يجب عليه إلا الوفاء بما عاقد عليه إذا كان مصلحة حينئذ وهو لا ينقل إلا ذلك.
(ومنها) قول العلامة رحمه الله: (2) ولو باعها المالك من مسلم صح وانتقل ما عليها إلى رقبة البائع. قلت: خالف في ذلك التقي محتجا بأنه قد ثبت في الأرض فإذا بيت فلا ضمان. وأجاب العلامة بأنها جزية على المالك متعلقة بشئ من ماله فإذا خرج منه المال استقرت في ذمته كالدين الذي عليه رهن. والمشهور ما قاله العلامة.
(ومنها) قول الشيخ (3) وتبعه العلامة (4) أو كانت مواتا لغير مالك فأحييت أو كانت آجاما مما لا يزرع فاستحدثت مزارع. قلت: هذا القيد أعني الإحياء والاستحداث - ليس بشئ لأن الموات التي لا مالك لها والآجام للإمام أحييت واستحدثت أم لا، بل القيد لا يخلو من نظر لأن الإحياء والاستحداث إن كان للإمام فهو ليس بشرط لأنه مالك قبله، وإن كان من غيره أمكن القول بأن ذلك الغير يملكها لأن الموات يملكها المحيي على وجه، وقد يحمل على الإحياء مع
Página 38