وأما نشؤه الطاهر فهاكم ما ينور البصائر: نشأ رضي الله عنه على الطهارة في حجور الصالحين والصالحات، وتربى في رياض الباقيات الصالحات، وتمنى على ترجيع كتاب الله العزيز والآيات، ودب ودرج في حدائق كتب الهدايات فأولد أحمد محمدا وهو الكبير وبعده مريم وبعدها إبراهيم، وكان أبوهم من الفضلاء الزاهدين، ومن حملة الكتاب المبين، ومن ذوي البصيرة والعبادة والزهادة، وأمهم كذلك، ولها كلام وفعال في الإيثار للضيف والمساكين على أطفالها ما يخرجنا إلى البسط، وأخوه محمد رضي الله عنهما من الصالحين العظماء، والحكماء الكرماء، وغير ملتفت إلى الدنيا، زاهد أصلي، وطبع ليس بتكلف؛ لأنها عنده كلا شيء يذكر، وأما أخته مريم رحمها الله تعالى فهي رابعة زمانها، وشعوانة دهرها، بلغت من الزهد الغاية، ومن العبادات النهاية، بكت حتى عمست، وصلت حتى أقعدت، وصامت حتى نحلت، وخالطها الخوف حتى الموت لما عجزت عن القيام، كانت تقول:يا إبراهيم، طوبى لمن قام ليلة قبل الموت، ولها كرامات تطول، وحكايات يرويها ذوو العقول، وصلح على يدها(1) رجال ونساء [كثير](2)، وسنت في هذه معبر سنن في وظائف العبادة إلى الآن، ولا تزال -إن شاء الله تعالى- وكان القاضي العلامة محمد راشد السحامي يقرأ عليها في القرآن، وهو رجل من أعلم أهل زمانه، وأزهدهم وأورعهم، وأفضلهم، حكى لي رحمه الله تعالى، قال: أتيتها يوما بكتب من الأخبار والصلوات المرغبات، والأدعية للأوقات، قالت: يا إبراهيم، هذه من المفرحات(3)، ونحن إلى التأديب أحوج[هذا معناها](4)، ولكن اجتهد لي في الأنطاكي وغيره، فأمرت بنسخ (الأنطاكي) وكتاب: (جلاء الأبصار) وصل من مكة بسببها. والله أعلم. وكتاب (الوافد والعالم)(5) . وحكى لي رحمه الله، قال: قضيت لصاحب لي حاجة من السوق، وربما قد دخل أول الوقت، فقالت: ما شغلك عن فضيلة المواظبة على أول الوقت يا إبراهيم؟ فقلت: اشتريت لصاحب لي حاجة من السوق وعول علي، فقالت: وهل هذا صاحب يشغلك عن طاعة مولاك في وقتها؟ بئس الصاحب.
إشارة في بعض الصحف: (من شغل مشغولا بالله عن الله أدركه المقت في ساعته).
وحكى لي رحمه الله تعالى، قال: ما كانت أختي مريم تقبض شيئا [إلا ما يواري عورتها، كان لها دولة من خشن الصوف لعبادتها وما تقبض من الدنيا شيئا](1) إلا ما تواريه إلى فيها، وقد ربما يوما ما تكون القفوعة (وهي خبزة غليظة) في تلك الناحية بين(2) أيدينا ساعة كل يتحرج من فصعها؛ لأنه لا يصير إلى واحد منا إلا بعضها، وقد ربما تقوم وهي على حالها.
وحكي لي بعض الأصحاب: أنهم في ابتداء أمرهم ما يدخل بيتهم شيء من الزكاة بل كان لهم ثور يحرثون عليه لسداد هم من شدة ورعهم.
وحكي لي رحمه الله تعالى عن وقت صغره قال: كان لنا دون عشر من الغنم، فسرحتها في بعض الأيام إلى الراعي فندت علي شاة أكلت من ورق جوز(3) غصب على قوم فأصابني أمر عظيم، وخطب جسيم، وأخذت(4) حجرين بيدي، وعالجت خروج الورق من فم الشاة خشية أن أقبض الورق بيدي جهلا مني بذلك، وعمري في ذلك اليوم العشر أو التسع. والله أعلم.
[وهذا](5) أمارة المورد العذب لمن ظمي، وعن طرق رشاده عمي، ولمع البارق يدلك على النو المطير.
Página 64