وبعد أن قال الملك لبالادان: أنت حر، وهبه قصرا يسكن فيه، وأعطاه من الملابس أفخرها، ومنحه لقبا عاليا، ثم جعله من المقربين. - إني يا بالادان أكبر الشجاعة وأجل الإخلاص، وقد أظهرت في حبك لزبيبة منتهى الفضيلتين، فاخدم مولاك بما أحببت معشوقتك.
ثم قال: ستتناول الطعام معي هذا المساء، وستجلس إلى يميني، وسيقدم لك وزيري تفلاط الخمر بيده؛ وذلك مني جزاء وفائك ومروءتك.
ومع أن هذا التعطف الملكي الكبير أثار في قلوب الوزراء البغض لبالادان والحسد منه، فقد تكهنوا في غرض الملك الخفي، وقالوا بين بعضهم: «سيسمه ولا شك، وقد تفاوض وتفلاط في هذا الأمر ... نعم، نعم سيكون لغضب مليكنا نهاية مخيفة مرعبة؛ لننظر ولنصبر.»
وكان الوزراء من الصابرين، ولكنهم سقط في أيديهم، فلا تمت النبوءة ولا تحققت الآمال.
جلس بالادان تلك الليلة إلى المائدة الملكية فأكل وشرب وقام سالما، بل هناك ما هو أعجب من ذلك، فقد قررت الإنعامات عليه فأصبح في اليسير من الأيام نديم نبوخذنصر ورفيقه المحبوب. قلت: إن هذا الشاب كان فلاحا حقيرا، وقد كان كذلك يتيما فقيرا، فتبناه أحد علماء آشور ولقنه مبادئ العلوم، وهذبه في الفضائل المدنية، فصار في مقدمة أولئك الذين يتذوقون الآداب ويتأنقون في أسباب العيش.
وكان الملك بعد أن يعود من الصيد يجلس كعادته على المضجع المفروش بالطنافس الهندية وجلود الأنمار، ويطلب إلى بالادان أن يقرأ على مسمعه أشعار الأولين، فقرأ عليه ذات يوم قصيدة لشاعر آشوري يمدح فيها الملك أزوبار، الصياد العظيم، الذي فقد في آخر أيامه صديقه الحميم هياني، وفيها يصف الشاعر شدة تأثر الملك ويقول: إنه كان يصلي إلى الآلهة، ويبتهل ويضرع على الدوام من أجل صديقه، فاستجابت الآلهة طلبته، وأجارت نفس الحكيم من النار.
وبينما هو يقرأ ذات يوم على عادته ونبوخذنصر يسمع مصغيا، ضعف صوته ثم انقطع دفعة واحدة، فنظر إلى الملك نظرة العظيم الحائر وقد اصفر وجهه وذهب النور من ناظريه. فسأله الملك قائلا: «لماذا لا تكمل القراءة؟» فأجاب بالادان مرتجفا لا متكلما، وقد حاول التكلم ثانية فكان صوته يصل إلى حنجرته ويموت هناك.
دعا الملك إذ ذاك وزيره تفلاط فحضر في الحال، وتبادل الاثنان نظرة فيها علم وفيها ارتياح، ثم قال الملك لبالادان: إنه محزون جدا لما أصيب به، وإنه سيبحث عما فيه الشفاء.
وكان الخدم يروحون لبالادان وهو مضطجع على الحشايا الدمقسية وبينها، فسأل أحدهم أن يجيئه بأدوات الكتابة، فأخذ القلم وكتب على الورق: لا تحزن أيها الملك العظيم على الحقيرين مثلي؛ أنا لا أخشى الموت ولا أخشى الحياة، قد قتلت خطيبتي خوفا من ظلمك، وقد كنت أيها الملك العظيم جميلا في حلمك فغفرت ذنبي، فلا تحزن إذن علي، بل عجل بالموت إذا كنت حقا ممن يرحمون.
وبعد هنيهة عادت إلى بالادان قواه فنهض عن المضجع مستبشرا، وطفق يتمشى في القاعة، أما الملك فبعد أن قرأ مبتسما ما كتبه بالادان خاطب الوزير قائلا: لقد أحسنت؛ فإن الشاب لا يخشى الموت ولا يخشى الحياة، فاقتل فيه الحواس، هذا الذي يسرني؛ لنروعه إذا كان لا يروعه الموت. وماذا يجيء بعد الخرس؟ العمى؟ ... - العمى يا مولاي، إن شاءت الآلهة. - الآلهة يا تفلاط؟ وما دخل الآلهة في تركيباتك الكيماوية الخفية؟ - إن للآلهة يا مولاي العلم والقوة كل القوة.
Página desconocida