وكلمة الكفاح تعني في النهاية تنبيها وتحميسا وتحريضا، وكل هذه المعاني كانت تستوعبها المقالة، وظهرت مقالات مصطفى كامل الالتهابية في التحميس لتنبيه الشعب إلى ضرورة السعي والجهاد للاستقلال، ومقالات علي يوسف المنطقية ضد الإنجليز، وأخيرا مقالات لطفي السيد في مكافحة الرجعية والدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، وعلى هذه الأقلام نشأ عبد القادر حمزة، فنقل المقالة إلى المناقشة الحزبية.
وأصبحت المقالة من تقاليد الصحف المصرية، لا ينشد صحفي التفوق بدونها، ولا يفكر أحد في البراعة الصحفية عن طريق الخبر الداخلي أو درس السياسة الخارجية. وما زلنا - نحن المسنين - نذكر كيف كانت الأخبار الخارجية أخبار العالم والإنسانية، تهمل إهمالا كبيرا في صحفنا القديمة، اللواء والمؤيد والجريدة، حتى كانت تلغرافات رويتر توجز في نحو عشرين سطرا في عمود ناء خفي من أعمدة الصحيفة.
وظهرت فيما بين الاحتلال الإنجليزي و1930 مدرسة الصحافة المقالية، يكتبها كتاب برعوا في الأسلوب والجدل المنطقي، واستوعبوا مقدار كبيرا من الثقافة العامة التي يجهلها كثير من الصحفيين المحدثين في وقتنا؛ ولذلك كان معظم هؤلاء الكتاب مؤلفين أو كانت مقالاتهم الصحفية من القيمة والخطورة بحيث صارت تجمع وتضم بين دفتي كتاب، وما زال بعضها يقرأ إلى الآن كما نرى مثلا في مقالات لطفي السيد في الجريدة أو غيره من الكتاب القدامى.
وفضل هؤلاء الصحفيين المقاليين أنهم استطاعوا أن يبتدعوا أسلوبا كتابيا سهلا يستطيع أفراد الشعب الذين لم يحصلوا على مقدار كبير من الثقافة أن يفهموه ويسيغوه، وصار لهذا الأسلوب قيمته في إيجاد القراء للصحف، كما أن لغتنا لانت ومرنت بعد ذلك للتأليف الشعبي.
ويمكن أن نصف صحف المقالة بأنها كانت صحفا «شخصية»؛ ذلك لأنها حين أهملت الخبر وعنيت بالمقال أصبح صاحب المقال «بطلا» عند القراء، يشترون الصحيفة من أجله لقراءته وحده ثم يطرحونها بعد ذلك. ثم هو كان - لتوالي مقالاته - عرضة لاضطهاد المستعمرين والمستبدين؛ ولذلك كثيرا ما كان يحبس فيعود شهيدا أمام الجمهور. ولم نكن نشتري اللواء أو المؤيد مثلا فيما بين 1900و1910 إلا لنقرأ مقالات مصطفى كامل أو علي يوسف.
ويجب أن أنبه هنا أيضا إلى أن صحف المقالات سبقت صحف الأخبار لأنها كانت تعاني ضعفا في ممكناتها ومقتنياتها، فلم يكن جمهور القراء كبيرا، وخاصة عندما نذكر أن التعليم كان محدودا، وكانت اللغة الإنجليزية تعلم بدلا من العربية منذ السنة الأولى الابتدائية؛ ولذلك لم يكن دخل الجريدة يمكنها من استخدام عشرات المخبرين الذين تستخدمهم الصحف في وقتنا، كما أن التقدم المطبعي لم يكن قد تحقق ولهذا التقدم قيمته الكبرى في جعل الصحيفة خبرية بدلا من أن تكون مقالية، وفي وصولها إلى أكبر عدد ممكن من القراء للقوة الإغرائية فيها.
ومع أني لا أنكر أن للخبر قيمته في تربية القارئ، وأن الصحيفة العصرية تستطيع بالخبر الدال أن تربي قراءها، فإني مع ذلك آسف على أن صحيفة المقال قد اختفت واختفى معها الكتاب الكبار الذين كانت تجمع مقالاتهم الصحفية كتبا تقرأ وتحفظ، وأمامي هذه اللحظة أربعة مجلدات للطفي السيد هي بعض مقالاته الصحفية في الجريدة، ولي أنا ستة مجلدات عن موضوعات ثقافية مختلفة نشرت جميعها بالصحف اليومية حين كانت صحف مقالات، ثم جمعت كتبا تقرأ وتحفظ لقيمتها الثقافية، وكذلك الشأن مع غيري من الكتاب القدامى.
كنا نكتب للتفسير والتثقيف والتعليم، وكانت بضاعتنا رائجة، ولا أنكر أن الصحف العصرية «الخبرية» لا تزال تقدرنا، ولكني أحس أنها تفعل ذلك تفضلا وليس ضرورة؛ لأنها تستطيع أن تستغني عنا إذا كان الهدف هو الانتشار وعدد ما يطبع من الصحيفة فقط.
ثم إن هناك ذلك الشطط الذي يحيل صحيفة الخبر أحيانا إلى اختيار الخبر المغري لغرابته، وإن لم يكن له أي مغزى أو دلالة؛ وذلك جريا وراء المثل الصحفي المعروف، وهو أن خبر الرجل الذي يعض الكلب خير من خبر الكلب الذي يعض الرجل، وقد شاع هذا الطراز من الأخبار في أيامنا، وكان خبر الجمل الذي فر من المجزر إلى قصر عابدين كي يستغيث بفاروق حتى لا يذبح، بعض هذه الأخبار. •••
وانتقلت الصحافة في مصر من صحافة المقالة إلى صحافة الخبر، وكان هذا تطورا أو انتقالا طبيعيا؛ وذلك أننا منذ الثورة العرابية كنا في كفاح لا ينقطع لأعداء هذه الثورة.
Página desconocida