الجبهة الثالثة: - وهنا أدت الجريدة رسالتها الأولى - هي مقاومة الرجعية الاجتماعية.
وكان لطفي السيد رجلا قد صيغ عقله في القالب الفلسفي، يفكر في إحاطة، وينظر النظرة الاستيعابية لشئون مصر. وكثيرا ما كانت كلماته تحريرا للنفوس من ظلام القرون الماضية، وكان مع جراءته معتدلا في لهجته؛ ولذلك وجد الاحترام أكثر مما وجد الغضب من خصومه.
والاحترام هو الكلمة اللائقة لإحساس الجمهور نحوه؛ فإنه لم يجد الحب الذي وجده مصطفى كامل حين كان يخاطب قلوبنا ويثير عواطفنا الحامية، ولكنه - أي لطفي السيد - وجد الاحترام لأنه كان يخاطب عقولنا الباردة.
وليس بين الصحفيين المصريين من جمعت مقالاته بالعناية التي جمعت وطبعت بها مقالات لطفي السيد في الجريدة؛ وذلك لأنها كتبت بلهجة الأديب وتفكير الفيلسوف ورزانة السياسي وحذر المصلح الاجتماعي.
وهأنذا أنقل نماذج من تفكير لطفي السيد وتعبيره عن بعض شئوننا السياسية والاجتماعية، فهو يقول عن عرابي:
ولولا عرابي لم يكن الدستور؛ فالدستور المصري من عمله ومن صنع يده ومن آثار جرأته، طلبه عرابي لا بوصف أنه عسكري ثائر، ولكن بوصف أنه وكيل وكلته الأمة في ذلك، فإن عريضة طلب الدستور كانت ممضاة من آلاف من وجهاء الأمة ومشايخها، فأما كون القوة العسكرية هي التي كانت الآلة لتنفيذ إرادة الأمة في ميدان عابدين، فذلك إن لم يكن مشروعا قانونيا فإنه مشروع بتقاليد الأمم، لأنه هكذا جرى في كل بلد من البلاد، وكان القائد للحركة الدستورية في كل بلد يحمل على الأكتاف ويهتف باسمه في الشوارع والنوادي والمجالس، ويعتبر أكبر بطل من الأبطال، فعرابي حقق آمال الأمة بالدستور ولم يرتكب في ذلك جريمة، ولم يسفك دما؛ بل كانت الحركة في حقيقتها سلاما لابسا كسوة حربية.
ولا يجوز لنا أن نغمط حق الرجال في إنالتنا الدستور، بل يجب علينا أن نردد له شكر آبائنا يوم صدر قانون الانتخاب وقانون مجلس النواب، فإن كانوا بنا لم يستطيعوا حفظ مراكزهم، أو إذا كانت إنجلترا أغلقت المجلس وألغت قانونه يوم دخولها، فمما لا شك أن ذلك ليس من خطأ عرابي ولا من ذنبه، ومع ذلك إذا كان عرابي في أخريات الأمر أو في عهد الثورة لم يحترم استقلال المجلس وضغطه بقوة السيف، فذلك عمل آخر يحسب عليه بعد أن يحسب له الدستور.
وهو يكتب عن المرأة المصرية حوالي 1910 فيقول في شأن الحجاب والزواج:
تخطب السيدة المصونة، والجوهرة المكنونة، على الطريقة التي نعرفها جميعا لعبة في علبة، لا تشترط فيها إلا أن تروي عنها السيدات المكنونات أيضا ما شئن من الجمال الذي لا يعرفن له معنى إلا السمن والبياض، والأدب الذي لا يعرفن له صورة إلا غض الطرف ووضع اليدين بانتظام على الركبتين كتماثيل سقارة، ثم تنقل هذه الشابة التي عقد عقدها إلى بيت زوجها كما تنقل البضاعة التي حصل اتفاق المتعاقدين عليها عقدا عاما، ليس فيه شرط ولا خيار عيب ولا خيار رؤية، وكان الأزواج في هذه الحال عمي يحبون بالسماع، ويختارون بالسماع، ويعولون في سعادتهم الزوجية على السماع، قد تكون الصدفة سعيدة فيحصل كلا الزوجين على ما كان يحب، ولكن الصدفة أبعد جدا من أن تصلح نظاما عمليا للروابط الاجتماعية، فإنها تسعد مرة، وتخبث مرارا.
إن هذه السيدة كانت مكنونة في الحجب في دار أبيها، مكنونة في بيت زوجها، وجهها عورة يجب ستره، وصوتها عورة يجب كتمانه، وملكاتها عورة يجب خنقها تحت الحجاب، واسمها عورة، وكلها كذلك. ثم يطلب منها بعد ذلك أن تكون إنسانا حرا تام الشخصية، عليه للاجتماع أثقل الواجبات، وهو واجب تربية البنين والبنات.
Página desconocida