وواضح أن هذا الإحساس بالخطر من مهنة الصحافة كان يعود في الأكثر إلى القوانين الغاشمة التي ذكرناها والتي كانت تحمل الصحفي على أن يبحث عن عمل آخر، أو يقتني ما يكفل له العيش من مرتزق آخر، وخاصة إذا كانت صحيفته من تلك الصحف المكافحة، وليست من تلك الصحف المتفرجة؛ أي تلك الصحف التي وضعت نصب عينها مكافحة الاستعمار ومكافحة الاستبداد، فإن موقفها كثيرا ما كان يقضي عليها بالإلغاء، أي الموت أو الحبس المؤذي المهين، أو الغرامة الفادحة.
ويمكن أن نعد الصحف المصرية التي ظهرت ثم ماتت لموقف الكفاح هذا بالمئات منذ عرفت مصر الصحافة، وهي لم تمت إلا بعد أن بعثت في قرائها روح الكفاح، وبعد أن نادت وأطلقت صرخاتها من أجل الحرية والاستقلال ونزاهة الحكم؛ ولذلك لن ننسى فضلها. •••
كانت الصحافة مهنة محتقرة، كما كانت أيضا خطرة ولكنها كانت أيضا فقيرة.
وكان مرجع فقرها إلى أنها كانت مهددة بالإفلاس في كل وقت، فلم تكن تؤدي من الأجور والمرتبات للذين يعملون فيها إلا أخس المبالغ، ثم كان موقف العداء الدائم الذي كانت تقفه منها الحكومات الاستبدادية يحرم المشتغلين فيها أي ضمان من الإقالة أو حرمان المكافأة.
وكان هناك من أصحاب الصحف استغلاليون، دخلوا في هذه الحرفة بنفس الروح التي يقدم بها التاجر على تجارة ما، لا يبغي سوى الربح؛ ولذلك كانوا يرهقون عمالهم من المحررين إلى الطباعين بالعمل الشاق الذي كثيرا ما أودى بصحتهم.
وجميع الصحفيين يعرفون كيف أن إحدى الدور الصحفية القديمة في القاهرة كانت ترهق محرريها بالعمل حتى كانوا يخرجون منها وهم في انهيار نفسي، لو أنه طالت مدته لكان قد حملهم على الانتحار أو قضى عليهم بالجنون، وكيف أن كثيرا من عمال الجمع والطبع أصيبوا بالسل لمشقة العمل، زد على هذا أنه لم تكن هناك مكافآت للصحفي عن سني عمله إذا استقال، وقد عملت أنا سبع سنوات في دار صحفية مشهورة، وخرجت دون أن أحصل على مليم واحد مكافأة.
وكانت خسة الأجور والمرتبات من دواعي الاحتقار عند الشعب للصحفي؛ فإننا نعيش في نظام ثرائي اقتنائي يحسب فيه مقام الفرد بمقدار ثروته وما يقتني من عقار وما يحصل عليه من دخل.
الفصل الثالث
الصحافة تلقى عنتا وتعسفا
بعض ما أكتب في هذا الفصل قد أشرت إليه في مواضع أخرى موجزا عابرا، ولكني أحتاج هنا إلى الإيضاح والتركيز.
Página desconocida