ولعل هذا النفاق هو أصغر رذائل الصغار، وأكبر رذائل الكبار؛ لأن للحاجة في أولئك شرعة ومنهاجا، وللضرورة أحكاما وقانونا، فالعامي حين ينافق لكبير من العظماء، وينخضع له، إنما يوازن بين ما يعرفه في ذات نفسه من الصغار والضعة، وبين ما يتوهم في صاحبه من الغلبة والقهر؛ فهو يترقى إليه ليدنو منه، أو يترقى إلى خديعته
6
ليناله، أو يترقى إلى كبريائه ليأمنه، ثم هو في كل ذلك نازل على حكم الحاجة والضرورة، ولو اعتبرت الرجلين على الحقيقة، ووزنتهما في ميزان الأسباب، لرأيت المنافق منهما من لم ينافق؛ لأن ما لا يخاض إليه إلا في الوحل، لا سبيل إليه إلا من الوحل، وذلك العظيم رجل بناه النفاق؛ فجعل باب نفسه عند قدميه، فإذا أردت مفتاح هذا الباب فاخفض رأسك، ما من ذلك بد، غير أن نفاق الكبار للكبار شيء أكبر من النفاق في نفسه، وإنما سمي به تسامحا وتجوزا، أو لأن اللغة تنافق هي أيضا ... وإلا فنفاقهم إن كان صدقا فأكبر فضيلته الكذب، وإن كان حقيقة فأعظم أدلتها الوهم، وإن كان علما فأكبر شرفه الجهل، وهو التخشع ينقلب ضربا من العبادة، وهو الوصف المزور يرجع نوعا من الخلق الذي لم يخلقه الله، ثم هم طبقات، ولكل نفاقها، ولا تدري أعلاها أسفلها، أم أسفلها الأعلى، ولكن الشر دائما بالجملة، وهم في الجملة يتخلقون، ويتصنعون بما نعرف وما لا نعرف، والكبراء هم موضع الفصل والوصل في بلاغة الاجتماع، وكل رأس منهم فهو كرأس الشارع: لا بد لك أن تلتوي، أو تنحرف إذا أنت بلغته، فإما أرسلك في طريق خير أو شر، وإذا كان هذا فإن كل واحد من كبار المنافقين، ومنافقي الكبار هو على التحقيق نقطة انقلاب في أخلاق من حوله من الناس.
إن مادة حوادث التاريخ هم أولئك العظماء، فإنك لتجد الرجل العظيم في أخلاقه العالية، وسجاياه الكريمة، وفي تأثير هذه الأخلاق والسجايا على الناس - أشبه بالفتح التاريخي المبين، وبالنصر القوي العزيز، ويكون الرجل إنسانا، ولكنه تاريخ، وتجد إلى جانبه المنافق العظيم ... في أخلاقه السيئة، وطباعه اللئيمة، وفي تأثير هذه الأخلاق والطباع على الناس - أشبه بتاريخ ضربة من ضربات الله،
7
أو مجزرة من مجازر الحروب، ويكون إنسانا، ولكنه على ذلك تاريخ!
ولا أعلم في هذه الدنيا شيئا لا يستطيع أن يوجد شيئا آخر؛ إذ الموجودات كلها مبنية على التحاليل والتركيب، وهذا النفاق في أصله مبني على الكذب السافل، فإذا خرج منه شيء خرج منه الكذب العالي ... فترى السياسي يبالغ في النفاق، ويزعم أنه يتكلم بلسان المستقبل، وينافق الأديب، فيقال زخرف من القول، ومبالغة في البلاغة، ونفاق ذي السلطة تواضع، والنفاق من العالم مسلك من دقائق علم النفس، ومن الغني مال يجذب مالا، ومن السفيه اللئيم شر يطلب خيرا، فإن هو كان من امرأة قيل حب، أو من طفل قيل تحبب ... وكما ترد المركبات كلها إلى أجزائها المفردة، فإن نفاق أهل الأرض جميعا يرجع إلى الطفل الصغير كما ينبثق النهر العظيم على مد مجراه من المنبع، وينتهي إلى مصبه، وقد جمع من أقذار طريقه على طول ما يمتد! فنفاق الطفل يكون في أصله مكافأة عن محبة أهله وذويه، ثم يكبر فيصبح توددا إليهم، ثم يعظم فينقلب حيلة يحتالها العقل الصغير ليخضع بها العقل الكبير لهناته وهيناته؛ ثم لا تزال تداخله بعد ذلك الأهواء والشهوات حتى ينعصر نفاقا؛ فإذا هو ما هو.
بيد أن ما يكون من نفس الطفل يكون معفوا عنه في الأغلب، كأنه ليس من نفس، أو كأن هؤلاء الأطفال حين يتواثبون ويقفزون في اللعب واللهو يقفزون كذلك من حدود الشرائع ... فللرجل من كل قاعدة حد محدود ليس وراءه إذا هو تخطاه، وتعمد مجاوزته إلا حائط من السجن، أو حائط من اللعبة، أو حائط من جهنم، ولكن الطفل يتخطى ذلك الحد وثبا، ويكون قد وثب على السجن وجهنم بطبقاتها السبع، ولا يقع في واحدة منها؛ فمهما نافق الصغير فهو ذكي خبيث، ولكن نفاقه ينتهي بقبلة على خديه أو لطمة ...
لا الصغار في منازل العمر من الأطفال، ولا الصغار في مراتب العمران من العامة، يصلحون أن يقوم بهم النفاق؛ لأنهم جميعا ينسحبون على أصل واحد من الطبيعة، وهو صغر النفس، وانصرافها إلى معاني الجسم دون معاني العقل: فلو أنك رأيت طفلا ينافق لطفل مثله، أو شهدت عاميا من الناس يصانع رجلا من قياسه المنطقي ... لرأيت في ذينك نوعا من الضحك الساكت، وفي هذين ضربا من الوقار الذي يضحك منه ... إن عظمة النفاق هي نفسها في عظمة أهله الكبراء، وكل شيء قد يصلح موضعا للبحث والنظر والجدال، إلا ما يعتقد الرجل العظيم أنه عظيم به، وهنا موضع التأله الذي شرع من أجله سجود النفاق، وركوعه، وتهليله، وتسبيحه، فصغار العظماء كأنهم في حاجة إلى النفاق؛ لأن فيهم شيئا عاليا لا يظهر حد علوه إلا إذا قيس من نقطة سافلة ... فإذا أنت عرضت لهم على شرطهم، فنافقت واستخذيت ونزلت عن كرامتك، رأوك مع ذلك منافقا عند نفسك فقط، واحتجت بعد كل هذا إلى ضروب أخرى من العنت الشاق على النفس، حتى يعرفوا بعد أن يجهدك النفاق أنك منافق، فلا تبلغ إليهم رذيلتك إلا وقد صرت في جملتك مجموعة من الرذائل! •••
وإني لأحسب أن النفاق هو بقية ما وقر في النفوس الجاهلة من عهدها الأول، عهد التعبد لكل ما يضر، أو يتوهم فيه الضرر، والتقديس لكل ما ينفع، أو يظن فيه النفع، وتكون أرواح الأصنام، والأوثان، والعجول، والبقر، والحشرات، والعواصف، والصواعق - وغيرها مما كان يخص بالعبادة قديما - هي بأعيانها ما تتمثل فيه أرواح أولئك السادة الكبراء الذين يثقل ظلهم على الروح ثقل الضباب، ويتراكم على القلب تراكم السحاب، ولا يرضون بابا من النفاق إلا أن يفضي إلى باب ... ثم تكون أفعال المنافقين في دهانهم، ومصانعتهم، وما تتروح به أرواحهم، هي في ذاتها بقايا تلك الرعدة، والفزع، والضراعة، وتمريغ الوجوه، والتمسح، وما إليها مما صغرت به أحلام لتكبر أوهام، وكان عبادة أجسام لأرواح، فصار عبادة أرواح لأجسام!
Página desconocida