بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وفضله على جميع الحيوان، بنطق اللسان، وخلق كل شيء فقدره تقديرًا، وجعله سميعًا بصيرًا، ثم هداه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا، كور الليل على النهار، وكور النهار على الليل، وخلق الخلق أطوار، وجعل الثقلين فريقين، فله الحكم والتدبير، فريق في الجنة وفريق في السعير. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون، وأما الذين شقوا فمأواهم النار جزاء بما كانوا يعملون.
1 / 25
أحمد حمدًا يوافي نعمه، وأسأله المزيد من رفده (وإن مِن شَيءٍ إلاّ يُسَبِحُ بِحَمدِهِ) ثم الصلاة على سيدنا محمد رسوله وعبده.
أما بعد: وفقنا الله وإياك للصواب، وفتح لنا ولك من الخير أحسن باب، فتدبر ما حوى هذا الكتاب، من صفات أولي الألباب، وأضدادهم الحائدين عن الصواب.
أعلم بأن الذوق السليم نتيجة الذكاء المفرط، والذكاء المفرط نتيجة العقل الزائد، والعقل الزائد سر أسكنه الله في أحب الخلق إليه، وأحب الخلق إليه الأنبياء، وخلاصة الأنبياء نبينا محمد ﷺ، فهو ﵇ أكمل الناس عقلًا، وأرضاهم خلقًا، وأكثرهم فضلًا، فمن وصفه ﷺ ما قاله القاضي عياض في (الشفا) عن عائشة ﵂ أنها قالت: (كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقًا) .
وعن علي ﵁ قال: سألت رسول الله ﷺ عن ستة،
1 / 26
فقال: (المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر زادي، والرضى غنيمتي، والفقر فخري، والصدقة شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني الصلاة) .
ومما أفيض من بركته ﷺ على علماء هذه الأمة وعقلائها وفصاحتها، فمن ذلك صاحب الذوق السليم ومن ذلك صاحب الذكاء المفرط ومن ذلك صاحب العقل الزائد.
وضدهم من الأشرار في الدرك الأسفل من النار.
صاحب الذوق السليم: مزاجه مستقيم، طبعه وزان، وفيه أنواع الإنسان، يتخذ التواضع سنة، والعطاء من غير منة، والعفو عند المقدرة، والتغفل عن المعيرة، لا يزدري فقير، ولا يتعاظم بأمير، لا ينهر سائل، ولا هو عما لا يعنيه سائل، كريم طروب، قليل العيوب، كثير المزاح، جميع خصائله ملاح، منادمته آلف من الراح، صاحب الأصحاب، حبيب الأحباب، ليس بكثيف، مكمل الذات، مليح الصفات ليس بقتات، يواسيك ويسليك، ويتوجع إليك، ويعظك ويتحفك بعلمه وماله، ولا يحوجك إلى سؤاله، ينظر إلى المضطر بعين الفراسه، ويواسيه بكياسة، رجل همام والسلام.
1 / 27
صاحب الذكاء المفرط: جوابه مسكت، يشارك العلماء من غير اشتغال، ولا يتكلم بمحال على كل حال، تخيله صحيح وتكلمه مليح فصيح، لا يحتاج إلى المنطق ولا إلى الألفية، وتلك المعالم من نفسه سجية، يرتب الألغاز والأحجيات، ولا يحتاج إلى العروض في تلك الأبيات، يصنف مثاتيل وخزعبلات، رجل دهقان، صاحب ذكاء ملسان، يصنف مثل الألفية، وله في تلك العلوم غية، يهندس ويرتب ويفصل، ويديون، ويحصل، صاحب حساب وديونة، وفراسة وعنونة، يركب أطعمة وشرابات، ومعاجين وعلوكات، يعرف الطب والجراح، وأياديه في كل صنعة ملاح.
صاحب العقل الزائد: خيره متزايد، شره متباعد، رضي الخلق حليم، عفيف النفس كريم، ليس بكذاب ولا لئيم، لا يفرح بالمصيبة لأعدائه، مشتغل بأدوائه، لا يقصد إلا رضى الله، راش بما قسم الله، ينظر إلى المضطر بعين الفراسة، ويواسيه بكياسة، لا يحسد الأمير لإمارته، ولا التاجر على تجارته، مشتغل بالله فهو عبد الله، كثير الصمت والسكون، جعل الله لقلبه عيون، فهو ضد المجنون، لا يتكلم بغيبة، ولا يفرح بمصيبة، كيس ليس بزاعج، وهو للأرواح
1 / 28
ممازج، يبذل المجهود في رضى الأصحاب، وهو من أولي الألباب، يفتح لكل خير باب، عارف بطريق الصواب، يكرم الفقراء، ولا يجالس كثيف، ولا يمل كل لطيف، رجل همام والسلام.
وضد ذلك من الأشرار في الدرك الأسفل من النار، وهو المنافق، لغير دين الله موافق، كلب أجرب، للقلب خرب، ثوب جثمانه من النفاق مضرب، فهو للشيطان أقرب، بالدينين يلعب زنديق مذبذب، لا يأكل لحم الأضاحي ولا يبات ليلة في رمضان صاحي، إن عبر كنيسة اليهود قاموا له بالجلود، وإن عبر كنيسة النصارى وقع في الخسارى، صلاته عوجاء، لا وضوء ولا استنجاء، لا يعبر جامع المسلمين، إلا أن يكون يتفرج على القناديل، خوان ليس بأمين، يشهد بالزور في كل الأمور، إن خوصم فجر، وإن شهد قهر، وإن استؤمن خان، في كل زمان، في كل الملل حيران، فهو من أهل النيران.
الثاني: المسلوب الذوق الأحمق، عقله ممزق وعيناه تتبحلق، يعيط ويبقبق، ساحله مزحلق، من كثرة حمقه يزملق، ولزوجته
1 / 29
يطلق، لا يهتدي لصواب، ولا يتأمل رد جواب، إن مدحته ازدراك، وإن تركته عاداك وهجاك، ما لعلته دواء، والخير والشر عنده سواء، لو فرشت خدك بالأرض، ظن إن ذلك عليك فرض، إذا لبس الشيء الحديد، يظن الناس كلهم له عبيد، في نفسه غلطان، ويظن أنه سلطان، هيولى مطلق، سالبه كلية فهو من لبلية.
وَمِن البَليَّةِ عَذلُ مَن لا يرعوي ... عن جَهلِه وخِطابُ مَن لا يَفهَم
فهو من أنكاد الدهر، والخلق جميعًا منه في قهر، رجل مطلاق، سيىء الأخلاق، سبحان الملك الخلاق.
لِكُلِ داء يَستَطِبُ بِه ... إلاّ الحَماقَة أعيت مَن يُداوِيها
قيل للسيد المسيح صلوات الله وسلامه عليه، أنت تبرىء الأكمة والأبرص، وتحيى الموتى بإذن الله تعالى ولا تداوي الأحمق؟ فقال: هذا الداء أعياني.
الثالث: النذل من الرجال، قليل الوفاء، مصفوح القفا، قليل الغيرة، مع كل خيل مغيرة، قليل الأدب، كثير الضحك بلا عجب، كثير النوم، قليل الهمة بين القوم، لا يقضي حاجة، كثير اللجاجة، يأكل الكد الكثير، ولا يرى لذلك تأثير، ولو خربت الشام وسائر
1 / 30
الثغور، تراه من غير فكره في البجاقات يدور، يلتذ بالكفاح كما يلتذ غيره بالنكاح، يغوى الخصال القباح، ويترك الخصائل الملاح، كثير العيوب، وهو من الذوق مسلوب، وفيه أحسن من قال:
يَدَعُ الذُبابُ جَميع جِسمِك سالمًِا ... وتَراهُ لا يأوِي لِغيرِ جَرِيحةِ
كالنَذلِ يَعدِلُ عن جَميلِ صَديقِهِ ... وتَراهُ لا يأتِي لِغيرِ قَبيحةِ
رحم الله من تأمل هذه الخصال، وجعل بينه وبينها انفصال.
فصل
صاحب الذوق السليم من الملوك
قد سلك في المملكة أحسن سلوك، أقامه الله لمصالح العباد، بذلك أجاد وساد، وعاد إلى الخير وصار بذلك لأولد الملوك أستاذ، يعدل في الرعية ولا يجعل عسكره سوية، بل ينزل الناس منازلهم، ولا يقطع عوائدهم، يستن السنة الحسنة، ويعلم إن (عدل ساعة خير من عبادة ألف سنة)، كريم سيوس،
1 / 31
لا يعجل في إتلاف النفوس، يجير الخائف، ويغيث الملهوف، حامي دين الله بحد السيوف، مجاهد مرابط، فهو لدين الله ضابط، يملك سائر الثغور، مؤيد منصور، ناصر طاهر، كامل وافر، رأيه سعيد، فعله رشيد ورأيه سديد، إذا وعد وفا، قليل الجفاء، لا يقرب السفهاء ولا الفساق، خشية من سخط الخلاق، قليل الخطاء، كثير العطاء، تاج الملوك، مليح السلوك، فهو لله مملوك، كثير التواضع والسماح، خصائله كلها ملاح، وقد وهبه الله النصرة والنجاح والعفة والصلاح.
وضد ذلك المسلوب الذوق الأحمق من الملوك
لا يفهم للملكة سلوك، يتبع خطوات الشيطان، يستعمل أظلم العمال، لأجل جمع المال، فيخرب البلاد، ويهلك العباد، وتصير بذلك أمراؤه جائعين ومماليكه ضائعين، فما بال حال البائس الفقير المسكين، تعطلت صناعته، وكسدت بضاعته، فلا أمير فرحان بإمارته، ولا تاجر يربح في تجارته. يؤمر اللؤماء على الكرماء، ويهين الفقراء ويزدري العلماء، أيامه ظلام، على جميع الأنام، فيصير القدر مهان، وكأن الخلق في زمن عبد الملك بن مروان، إذ ولى الحجاج، كم لها من هاج، في ذلك المنهاج، لما فعله بالمسلمين، (ألا لَعنَةُ اللهِ عَلى الظالِمِين) . جبار عنيد، كأنه الوليد، وأعظم من ذلك في الظلم
1 / 32
يزيد، إن وعد أخلف، وإن أصلح أتلف، ما لمملكته رتبة، وأجلابه أنحس جلبة، لا يغيث ملهوف ولا له مع رافد معروف، ولا يكشف كربة، ولا يطلب عن الله قربة، كأنه الشيخ عقبة، يقتدي بآراء الفساق، أحمق سيىء الأخلاق، سبحان الخلاق؛ يعجل في إتلاف النفوس برأيه المعكوس، لا يتأمل كلام من كذب عنده ولا من صدق، والدعوى عنده لمن سبق، لا ينظر من كذب في أحوال العباد، كأنه من قوم عاد، يريد أن يكون ل بالصلاح سمعًا، وهو كما قال الله تعالى: (وَهُم يَحسَبون أنَّهُم يُحسِنون صُنعًا) .
صاحب الذوق السليم من الأمراء
يميل الميمنة على الميسرة في الحرب، ويكشف عن الجيوش الكرب، سيفه قاطع ودرعه مانع، وهو للمسلمين أنفع نافع، يوهب المماليك، ويتفقد الأرامل والصعاليك، فارس الخيل كرمه كالسيل، جوامك غلمانه مغلقة، مكثر الشفقة، كثير الخير والصدقة، رماح مليح، واعتماده في النشاب مليح، يضرب بالسيف ما عنده جور ولا حيف، معاملته جيدة، وحركاته مؤيدة، يخالف الشيطان، وهو طوع الإنسان، ما عنده لا كير ولا نفاق، بشوش طيب الأخلاق، لا ينهمك على الأقداح، بل ينهمك على الصلاح، ذو حشمة وهمة، وهيبة ولمة،
1 / 33
يملك الأمرا، أشجع من تسور على أفراسه للعدى، كثير الاحتمال، عارف بمواقع الرجال في الحرب والنزال، يأكل السلطان حلال، واقف بباب الفقير كالأسير، فهو نعم الأمير.
وضده المسلوب الذوق من الأمراء
في الأصل جندي خرا مسخرة، بيته مسكرة، عيشه مكدرة، جوامك غلمانه منكسرة، قليل الدين، يظلم المساكين ومماليكه ضائعين، لا جامكية ولا عليق، فهم يخطفون العمائم ويقطعون الطريق، ما يؤدي حقًا من الحقوق، لا لله ولا لمخلوق، فهو شيخ الفسوق، بيته من الخير ناشف، ما يخدمه عارف، إن خدمه أستادار وقع في النار، كذلك المهتار والفراش والطشتدار، قليل الهمة، ما يطلع لخدمة، في نفسه غلطان، وفي ظنه يبقى سلطان، منتن الذقن خسيس، أنحس من إبليس، ظالم غاشم، ما يخشى المآثم.
1 / 34
صاحب الذوق السليم من الأجناد
قليل العناد منفعة للعباد، لا يتلفظ بستكم ولا بقواد، في رمي النشاب، وضرب السيف ولعب الرمح أستاذ، طيب الكلام، ما يلعب بلكام، مواظب الخمس، ما عنده لا حيف ولا ميل، كميت الحرب فارس الشرق والغرب، قد عرف مواقع الرجال، كثير الاحتمال والنزال سلامه مليح، وإيمانه صحيح، يتجنب القول القبيح، لسانه فصيح، من أحسن الجيوش، عاقل سيوس، ما يستخدم غلام منحوس، ما يحاسب عائلته على شيء من الفلوس.
وضده المسلوب الذوق من الأجناد
كثير العناد، مرصد لظلم العباد، يقال له يا سيدي، يقول عله ستكم قواد، خرباطي عتيق، يخطف العمائم ويقطع الطريق، زنديق حليق، ما له صاحب ولا صديق، شرابه الأمراق وصرمه مخرق من الأطباق علق زقاقي، لا يصلح منه تبع ولا وشاقي،
1 / 35
ما يقدر على عليق الفرس، وفي قلوب الحكام منه غصص، ما له دين، يظلم المساكين، لا هو عاقل مع العقال، ولا مجنون مع المجانين.
صاحب الذوق السليم من الأتراك
كبير ظريف، عفيف شريف مشتغل بكمال نفسه، وملاعبة زوجته ويعلم فرسه، وإصلاح قوسه، فذلك أحب المباحات إلى الله، يبتغي بذلك وجه الله، سيفه قاطع ودرعه مانع، ثابت الجنان ليس بجبان، ولا باخل ولا منان، كثير الإحسان، باليد واللسان، لكل إنسان، يحب الكريم من أهل الهمم، يترك الكثافة ويقوي اللطافة، لا يعاشر كودن، ويتخذ من كل شيء الأحسن، من العجب والكبرياء مجرد، فهو في أبناء جنسه مفرد، كلام أهل العلم عنده مقبول، عارف بالأصول، فهو مليح وتخيله صحيح.
ضد ذلك المسلوب الذوق من أبناء الترك
كثير العلاك، تحدثه بالعربي، يحدثك بالتركي، ولا يعرف
1 / 36
الآماجي من اليلكي، لا يعرف رمح ولا نشاب، يفتح للشر أبواب، لعبه لكام، ويخبط في الكلام، يغير هيئته بالزنظ والمنشفة، وغيته القمار بالكنجفة، يتلعبط ويتلبك، ويغير إسم أحمد بإسم بردبك، يقطع الطريق ولا له صاحب ولا صديق، مضارب مخانق لوالديه عائق، يشرب شخاخ النصارى، ويضارب كل من في الحارى.
صاحب الذوق السليم من الغلمان
الخيل معه في آمان يخرز العنان، ويحيط الشليته والتعبان، فهو للخيل بلان، نظيف العرض والثياب، يحرز العقوبات والألباب، مطلوع في الصواب، لا يشتغل بخدمه، شاطر صاحب همة، لا يدمدم
1 / 37
لانقطاع الجامكية، يخدم الضيوف ولو كانوا ميه، ويقضي الحاجة ولو كانت بإسكندرية، وله في الغلمان غية، يداوي الوقرة واليرقان، ويقطع الجلد ويداوي السرطان، رجل همام، فهو نعم الغلام.
ضد ذلك المسلوب الذوق من الغلمان
يسرق عليق الفرس، في قلب الجندي منه غصص، حرفوش ما يملك قنشار، ما يصحو من المزر لا ليل ولا نهار، يخدم الأجلاب، لأجل الخناق والضراب، والخويلات معه ضائعة، وبطونهم جائعة، تجده في قلب الأربعانية بفرد طاق، وأطواقه مقطعة من الضراب والخناق، يخطف العمائم ويقطع الطريق، مفلس لا له صاحب ولا صديق، كثير العياط والشياط، جمعة في المحلة وجمعة
1 / 38
في دمياط، يرهن العرقيه والدبوس، مقامر لص منحوس.
صاحب الذوق السليم من القضاة
لا يقبل الرشوة، ويترفق في الدعوة، لا يسعى في وظيفة، ويتأمل ما كان عليه أبو حنيفة، ينظر في حال المسكين ويحصل له عليه من المشقة كمن ذبح بغير سكين، رضي الخلق سيوس، ضاحك غير عبوس، يساوي بين الخصمين، وينظر في حقيقة الدين، لا يميز صاحب ألف دينار على من لا يملك أن يقول حكمت ورب قائل يقول ظلمت، لا يراعي في الحكم جار، ويخشى أن يحرق بالنار، له
1 / 39
معان وبيان، وفقه وتصريف بإمكان، فهو خير إنسان، نطقه وخيره يزيد، وقد أقامه الله تعالى لمصالح العبيد، لا يحكم بإغراء من الأمراء، لما سلك طريق العلماء، وعزة الفقراء، ولا يحكم بأغراض الملوك وقد سلك بهذه الطريقة أحسن سلوك، يعلم أن كل ملك لله مملوك، فهو خائف من الله متوكل على الله، لا يحكم إلا بحكم الله، لا يقبل شهادة الزور، ولو كان على وزن الخردلة في كل الأمور، فهو القاضي، لأنه تميز عن القاضيين.
فرحم الله تعالى من تأمل هذه الخصال، وجعل بينه وبينها إتصال.
ضد ذلك المسلوب الذوق من القضاة
البغلة والكوديان، والفرجيه والطيلسان، قد فتح له بهم دكان، لا فقه ولا معاني ولا بيان، عاري من نوع الإنسان كأنه حيوان، ألكن اللسان، لا يسوي بين الخصمين، ويقبل الرشوة ولو كانت فلسين، إذا غضب يقول: حكمت، ولا يفكر فيمن يقول: ظلمت، يحكم بأغراض الأمراء، ولا يرافق العلماء، ويزدري الفقراء، عبد
1 / 40
الجاه، رجل وجاه، قد أفلح من هجاه، لا يكشف كربة، عامله كبة، هيولى مطلقة، سالبه كلية، فهو من البلية، لا يستشير لأحد بشأن، كثير الشقشقى ملسان يعرض عن الحق عيان، فهو أحد القاضيين، قد حرم الجنان، يقبل شهادة الزور، لا ينظر في عواقب الأمور، كأنه لا يؤمن بالبعث والنشور، ولا يرى في التنقل من القصور إلى القبو، فهو رجل مغرور أو مسحور، فلا يفيق من الغفلة، كأنه أخذ زمانًا من المهلة، فهو أضعف من نملة، فقد قيل في هذا المعنى:
فلا تُؤذِ نملًا إن أرَدتَ كمالكا ... فإنَّ لها نفسًا تَطيبُ كما لَكا
ليس هو أهل الوظيفة، ولا يتأمل ما قال أبو حنيفة، الذي دون الفقه ﵁ فالله تعالى راض عنه، ولا رضي يقبل القضاء بعدما جرى له من الأمور ما جرى، فهو في الآخرة مسرور، ممتع في القصور بالحور، وقد رضي عنه الرحمن وأسكنه فسيح الجنان، فرحم الله من اتبع النعمان وأعرض عن القضاء في هذا الزمان.
صاحب الذوق السليم من الموقعين
لكاتب السر معين، على أسرار الملوك أمين، قد قرا ودرا، وفهم مكاتبات الملوك والأمراء، والمباشرين والوزراء، ومكاتبات النياب،
1 / 41
ومراسلات الأحباب والأصحاب، رأيه صواب، يفتح لكل خير باب، يعرف علم الإنشاء علم الكلام، رجل همام على الملوك مقدام، صاحب معرفة وآداب، ذكاؤه مفرط عجب، عارف بمقام أهل الرتب، صاحب منظوم ومنثور، وتدبير في جميع الأمور، خطبه مليح، ولسانه فصيح، يعجز الفصحاء من الكتاب، بسرعة قراءة الكتاب ورد الجواب، عرف مصطلح الأتراك والأعجام، والتكرور والأروام، تركي عربي، ويحل العقيلي والمغربي، والفهلوي والسرياني، والمغلق الصعب الديواني، له مشاركة في جميع العلوم، ليزيل بذلك من قلوب الملوك الغموم، لا متكبر ولا رقيع، قد اتقن صناعة التوقيع، رجل همام والسلام.
ضد ذلم المسلوب الذوق من الموقعين
أدلع الدلعين، لا كاتب ولا معين ولا هو لأسرار الملوك بأمين، لا قرا ولا درا، ولا يعرف مصطلح الملوك ولا الأمراء، ولا المباشرين ولا الوزراء، إن كاتب النواب، أوقع الشر والضراب، وأعظم ما تراه غلطان، إذا كتب مرسوم السلطان، اشترى الوظيفة بالفلوس، برأيه
1 / 42
المعكوس، وأخذ له فرس يا ليته اشتغل بكتابة القصص، في قلوب طائفة الموقعين منه غصص، كيلون علكي، والخاتمة يتحدث بالتركي، لا يعرف علم الإنشاء ولا علم الكلام، رجل مهمل والسلام، ينصب على بابه دكة، وبيته عبرة وهتكة، عاوز ألفين صكة أحمق رقيع، أيش بلاه بصناعة التوقيع، ما يحسن قراءة كتاب، ولا يفهم رد جواب، ولا يعرف مراسلة الأصحاب والأحباب، مسلوب الذوق والخاتمة يعمل له طوق، لا تاريخ ولا أدب، وهو في الحماقة عجب، جبان غير مقدام، ولا يفهم شيئًا من الكلام والسلام.
صاحب الذوق السليم من الخطباء
علي الرتبة، قصير الخطبة، معانيه منتخبة، ألطف من نسيم الصبا، يعظ نفسه قبل أن يعظ الناس، عوذته برب الفلق والناس، يخفف الركعتين، والجلسة بين الخطبتين، يعرف ولا يعرف، يبشر ولا ينفر، لا يقنط ولا يبعد الآمل، ولا يبالغ في الرجوة خوفًا من
1 / 43
إبطال العمل، بل يعرفهم طريق الإسلام، ويرغبهم في الجنة بصفاتها، ويحذرهم من النار وآفاتها، يردع المتكبرين، ويبشر الفقراء والمساكين بأن الجنة لهم فضلًا منه ومنة، يعرف لكل شيء خطبة، وذلك لمعرفته بطريق الرتبة، ويبالغ في نعت الصحابة أجمعين، والخلفاء الراشدين، يبتدي بأبي بكر وخصائله الملاح، ويختم بأبي عبيدة ابن الجراح، خطبته لها رونق وسمعة، وتؤثر في القلوب، موعظته من الجمعة إلى الجمعة، إنسان مليح، لسانه فصيح، لا يحتاج في إنشاء الخطبة إلى مساعدة، كأنه قس ابن ساعدة، يبتدي بالحمد لله، ويختم بالصلاة، والسلام على رسول الله، ﷺ، وشرف وكرمن له في الدين تمكين، هذا خطيب المسلمين.
ضد ذلك المسلوب الذوق من الخطباء
لا يراعي القوافي، وحسه من فوق المنبر خافي، لا يعرف الناس من العجلة ما يقول، كأنه بهلول، يتلف التصنيف، ويروي الحديث الطعيف، كأنه من فقهاء الريف، يجعل الخطبة باجمعها وعيد، ويذكر العذاب الشديد، لا يعرف تأليف الخطبة، وليس له رتبة،
1 / 44