صفات رب العالمين، لابن المحب الصامت (٧١٢ هـ - ٧٨٩ هـ)
_________
التحقيق: رسائل ماجستير، قسم العقيدة - كلية أصول الدين - جامعة أم القرى بمكة المكرمة
١ - صقر بن حسن الغامدي: من (أول الكتاب) إلى (باب أن الفعل غير المفعول، والخلق غير المخلوق)
٢ - فواز بن فرحان الشمري: من (باب الرزق) إلى (باب نزول الله جلَّ ثناؤه يوم القيامة)
٣ - أمامة بنت محمد المهدي: من (باب ما ذكر في الساعد والذراع والباع والراحة والكتف والصدر) إلى (باب ذكر الصوت)
٤ - جابر بن عقيل العبدلي: لم نقف عليها
٥ - إنعام بنت عبد العزيز المنصور: من (باب قول النبي ﷺ: «قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض» وقول الله تعالى: ﴿وخلق كل شي فقدره تقديرا﴾) إلى (باب الوباء والفناء)
٦ - أميمة بنت عيسى محمد المسملي: من (باب في أهل البدع والأهواء والظنون) إلى (نهاية الكتاب)
Página desconocida
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة أم القرى
كلية الدعوة وأصول الدين
قسم العقيدة
كتاب صفات رب العالمين
لابن المحب الصامت
من أول الكتاب إلى باب خلق الملائكة والجن والحور العين والروح.
(٧١٢ هـ - ٧٨٩ هـ)
رسالة مُقدّمة لاستكمال متطلبات الحصول على درجة الماجستير في العقيدة
دراسة وتحقيق: الطالب: صقر بن حسن الغامدي
الرقم الجامعي: ٤٣٠٨٨٠٨١
إشراف: د. هشام بن إسماعيل الصيني
الأستاذ المشارك بقسم العقيدة
كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
١٤٣٥ هـ - ٢٠١٤ م
1 / 1
- أ -
شكر وتقدير
الحمد للَّه على عظيم إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على نبيه وخيرته من خلقه، أما بعد:
فإني أشكر اللَّه ﷿ أولًا وآخرًا على ما أنعم به علي من اختيار هذا الكتاب العظيم الموسوم بـ (كتاب صفات رب العالمين) وتحقيق جزء منه، ووفقني إلى إنجازه فله الحمد في الأولى والآخرة.
ثم أخص بالشكر الجزيل، والديَّ الكريمين على ما قدماه وبذلاه لي من تربية وإعانة ودعاء وحرص وتعليم فجزاهما اللَّه عني خير الجزاء وأوفاه.
وأثلث بالشكر الجزيل لفضيلة شيخنا -المشرف على هذه الرسالة- الأستاذ الدكتور: هشام بن إسماعيل الصيني حفظه اللَّه ورعاه على ما بذله من علم وتوجيه وفوائد جليلة، والذي كان له الفضل بعد اللَّه تعالى في الإشراف على هذا التحقيق والاهتمام به، وتوجيهي -أحسن اللَّه إليه- بتوجيهاته النافعة وآرائه الصائبة؛ مما كان له أثر كبير في تقويم هذه الرسالة؛ وإخراجها على هذه الصورة، واللَّه تعالى أسأل أن يجزيه خير الجزاء وأوفاه وأن يبارك له في علمه وعمله، إنه سميع مجيب.
كما أشكر كلًا من المناقشين الكريمين؛ لتفضلها بتقويم الرسالة ومناقشتها، مواصلين السعي لإكمال الفائدة منها، تقبل اللَّه ذلك العمل منها، وأثقل به ميزان حسناتهما.
كما أني أتقدم أيضًا بالشكر العاطر لكل من كانت له يد في المساعدة والتوجيه والإرشاد، داعيًا للجميع بالتوفيق والسداد، والهداية إلى سبيل الرشاد.
1 / 2
- ب -
ملخص الرسالة
العنوان: صفات رب العالمين لابن المحب الصامت من أول الكتاب إلى باب خلق الملائكة والجن والحور العين والروح.
الدرجة العلمية: الماجستير.
موضوع الرسالة: صفات رب العالمين.
أقسام الرسالة:
القسم الأول: الدراسة وتشتمل على فصول ومباحث.
تمهيد: الحالة السياسية.
الحالة العلمية.
الحالة الاجتماعية.
المبحث الأول: ترجمة المؤلف.
المبحث الثاني: توثيق نسبة الكتاب لمصنفه.
المبحث الثالث: منهج المؤلف.
المبحث الرابع: دراسة لأهم موضوعات الكتاب.
المبحث الخامس: وصف النسخة الخطية.
القسم الثاني: تحقيق الكتاب.
الفهارس.
* * *
1 / 3
- هـ -
المقدمة
الحمد للَّه رب العالمين، المتصف بصفات الجلال والكمال والجمال، جل عن الشبيه والمثل والنظير، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] وأشهد أن لا إله إِلَّا اللَّه وحده لا شريك له، الملك الحق العليّ الكبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، المرسل إلى الناس كافة بالمحجة البيضاء، والحنيفة السمحة، والهُدي المنير.
وبعد
فإن العقيدة هي أساس الدين، وعليها تُبني جميع تصرفات العبد وأعماله، فبحسب صحتها يكون قبول الأعمال أو ردها؛ لذا فقد عني القرآن الكريم ببناء العقيدة الصحيحة، فلا تكاد تخلو آية منه من شد الإنسان بكليته إلى ربه، وربط كل تصرف منه بهذه العقيدة التي هي مناط الدين وقوامه.
فكان عنوانه هو: (كتاب صفات رب العالمين لابن المحب الصامت من أول الكتاب إلى باب خلق الملائكة والجن والحور العين والروح).
* أهداف التحقيق:
١ - إخراج كتاب صفات رب العالمين لابن المحب الصامت ﵀ من عالم المخطوطات إلى المطبوعات.
٢ - خدمة كتاب صفات رب العالمين لابن المحب الصامت ﵀، تحقيقًا له وإبرازًا لما فيه من دُرر نادرة وفوائد مهمة.
٣ - بيان عقيدة الإمام ابن المحب الصامت ﵀ وجهده في نشر اعتقاد أهل السنة والجماعة، والتأليف فيه.
٤ - الكشف عن حلقة مضيئة من حياة الإمام ابن المحب الصامت ﵀ وما صاحبها من علم وتعليم وبذل وتأليف.
1 / 6
- و-
* أهمية الكتاب:
١ - أن مؤلفه الإمام شمس الدين أبو بكر محمد بن عبد اللَّه بن أحمد بن المحب الصامت المقدسي الحنبلي ﵀ من العلماء الكبار المتقدمين البارزين في علم الحديث والفقه واللغة، وخاصة أنه من تلاميذ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية والحافظ أبي الحجاج المزي رحمها اللَّه تعالى.
٢ - أنه بخط مؤلفه، وقد جعله مسودَّة، يضيف إليه ما يراه من الآيات، والأحاديث والآثار، وأقوال أهل العلم.
٣ - أنه يحتوي على أبواب كثيرة في العقيدة من صفات اللَّه تعالى وأفعاله، وأشراط الساعة، وأحاديث الخوارج، والشفاعة، والصحابة، والفتن، والوعد والوعيد، وغيرها.
٤ - أنه ينقل كثيرًا من كتب أئمة أهل السنة سواءً كانت مفقودة أو ناقصة، كما سيأتي بيانه في منهج المؤلف ﵀.
٥ - إخراج هذا الكتاب؛ لأهميته كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى.
1 / 7
- ز -
* أسباب اختيار الموضوع:
١ - أن هذا المخطوط -بعد البحث- لم يسبق دراسته وتحقيقه ونشره دراسةً وتحقيقًا علميًا أكاديميًا.
٢ - أنه يشتمل على نصوص كثيرة من الأحاديث والآثار، والتي لا توجد إلا فيه.
٣ - أنه ينقل عن كتب أئمة السلف أهل السنة والجماعة، وكثير منها إما مفقود لم يصل إلينا، أو ناقص لم يوجد منه إلا قطعة، وسيأتي بيان بتلك الكتب عند الحديث عن منهج المؤلف إن شاء اللَّه تعالى.
٤ - أنه ينقل عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواطن كثيرة من هذا الكتاب، وهناك نقولات فريدة عنه، كما سيتبين ذلك خلال التحقيق إن شاء اللَّه تعالى.
٥ - أن هذا المخطوط يعتبر مصدرًا مهمًا من كتب أهل السنة في الاعتقاد، لما فيه من الآثار المسندة الكثيرة، والتحقيقات العلمية.
1 / 8
- حـ -
الدراسات السابقة:
عند البحث عن الدراسات الأكاديمية السابقة المتعلقة بالإمام محمد بن أحمد بن المحب الصامت المقدسي الحنبلي رحمه اللَّه تعالى، لم أجد شيئًا يتعلق بهذا الإمام، إلا دراسة واحدة لجزء من كتابه القيم "ترتيب مسند الإمام أحمد" وهذا الجزء هو مسند أبي سعيد الخدري ﵁ تحقيق حسين بن عكاشة بن رمضان.
* الصعوبات التي واجهت الباحث:
هناك عدد من الصعوبات والمشاكل واجهت الباحث أثناء تحقيق هذا المخطوط، ويمكن إيجازها فيما يلي:
١ - أن الكتاب مسودَّة للمؤلف، يضيف إليه بين الحين والآخر ما يراه من الآيات والأحاديث والآثار.
٢ - التداخل في عدد من صفحات الكتاب بين الأسطر مما يجعل الباحث يقف محتارًا في تمييز بعضها عن بعض.
٣ - ما يجده الباحث من صعوبة كبيرة في التوفيق بين عدد كبير من الجُمَل في عدد من لوحات المخطوط؛ وذلك لعدم انتظامها في سطر واحد مرتب متتابع.
٤ - صعوبة خط المؤلف رحمه اللَّه تعالى، وذلك راجع للأسباب التالية:
أ - قلة الإعجام لدرجة يصعب معها قراءة الكلمة، أو الكلمات، لاحتمالها عدة أوجه.
ب - وصل بعض الكلمات مع كلمات أخرى، مما يحصل معه الاشتباه والخطأ عند قراءتها.
٥ - ضعف التصوير في بعض ألواح المخطوط، مما يؤدي إلى اختفاء بعض الكلمات أو عدم وضوحها.
٦ - التشابه في أسماء الرواة الواردة في أسانيد الأحاديث، مما يجعل الباحث يتردد كثيرا في تحديد ذلك الراوي.
٧ - وجود خلل في ترتيب بعض الألواح، مما يجعل الباحث في حيرة طويلة، وتأخر في التحقيق.
٨ - عدم وجود عدد من المصادر التي ينقل عنها المؤلف ﵀ إما بإسناده إليها، أو بنقله عنها، مما ينتج عنه صعوبة المقارنة بينها.
هذه بعض المشاكل التي واجهت الباحث في تحقيق هذا المخطوط، ولكن وللَّه الحمد والمنة، تغلب على كثير منها.
1 / 9
القسم الأول: الدراسة
1 / 10
القسم الأول: الدراسة
وتحته ستة مباحث:
تمهيد:
الحالة السياسية.
الحالة العلمية.
الحالة الاجتماعية.
المبحث الأول: ترجمة المؤلف.
المبحث الثاني: توثيق نسبة الكتاب لمصنفه.
المبحث الثالث: منهج المؤلف.
المبحث الرابع: دراسة لأهم موضوعات الكتاب.
المبحث الخامس: وصف النسخة الخطية.
المبحث السادس: منهج التحقيق.
1 / 11
تمهيد
إن مما لاشك فيه أن هناك تأثيرًا كبيرًا على الإنسان من البيئة التي يعيش فيها؛ لأن الصلة بينهما ثابتة لا يمكن فصلها بأي حال من الأحوال؛ لذلك كان من المهم عند دراسة حال شخص ما أن نتعرف على الزمان والمكان الذي عاش فيه، ومدى تأثره بذلك، وأيضًا مدى تأثيره هو في مجتمعه وعصره، وذلك من خلال الكلام في الحالة السياسية، والعلمية، والاجتماعية.
أولًا: الحالة السياسية.
عاش الإمام شمس الدين أبو بكر محمد بن عبد اللَّه بن أحمد بن المحب الصامت المقدسي الحنبلي في القرن الثامن الهجري (٧١٢ هـ - ٧٨٩ هـ).
وقبل هذا القرن عاشت الأمة الإسلامية وخاصة بلاد ما وراء النهر وخراسان والعراق والشام فترة من أصعب الأوقات التي مر بها العالم الإسلامي، ويمكن أن نلخص تلك المصائب التي وقعت في تلك العصور فيما يلي:
١ - التتار المغول من جهة المشرق.
٢ - الصليبيون الحاقدون من جهة المغرب.
٣ - الفتن الداخلية، والحروب التي تحصل جراء التنافس على الرئاسة والمناصب.
ومن سَلِمَ مِنَ المسلمين من الأولى والثانية، فإنه لم يسلم من الثالثة.
يقول ابن الأثير: "ولقد بُلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم، منها هؤلاء التتر، قبحهم اللَّه، أقبلوا من المشرق، ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، وستراها مشروحة متصلة، إن شاء اللَّه تعالى، ومنها خروج الفرنج، لعنهم اللَّه، من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف اللَّه تعالى ونصره عليهم، وقد ذكرناه سنة ٦١٤ هـ، ومنها أن الذي سلم من هاتين الطائفتين فالسيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة على ساق، وقد ذكرناه أيضًا، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون" (^١).
_________
(^١) انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري (١٠/ ٣٣٥).
1 / 12
١ - أما التتار: فكان لتسلطهم على بلاد المسلمين أسباب كثيرة منها:
أ - ضعف الخلافة العباسية حتى سقوطها.
ب - استقلال كثير من البلدان الإسلامية عن الخلافة العباسية.
ج - ظهور البدع والنفاق والزندقة، والسحر والشعوذة.
أ - أما ضعف الخلافة العباسية:
فإنه بعد قتل الخليفة المتوكل على اللَّه جعفر بن المعتصم باللَّه بن هارون الرشيد (^١)، بدأ الضعف والتفرق والانقسام يظهر في الخلافة العباسية منذ حينئذٍ، فبدأ الأتراك يفرضون إرادتهم على الخلفاء حيث سيطروا على الدولة العباسية ومؤسساتها وبيت المال فيها بعد قتلهم المتوكل وتنصيب ابنه المنتصر باللَّه محمد خليفة (^٢) بعده، وسَخَّروا جميع ذلك لخدمة مصالحهم وأطماعهم، حتى أصبح خلفاء بني العباس ألعوبة بأيديهم، يعزلون ويقتلون من شاءوا ويولون من شاءوا، وكذلك تنافسوا على جمع الأموال والثروات الطائلة، وأخفقت كل محاولات الخلفاء بعد ذلك في استرداد هيبة الخلافة وقوتها، وفي عهد الخليفة المعتمد على اللَّه أحمد بن المتوكل (^٣) رجع للخلافة شيء من قوتها وهيبتها إلى وفاته، لكن سرعان ما سيطر القادة الأتراك على الدولة بعد ذلك، ولم يبق للخلفية من الأمر شيء سوى الاسم والدعاء له على المنابر فقط. حتى أنه في خِلافة المستعين
_________
(^١) جعفر المتوكل على اللَّه أبو الفضل بن المعتصم باللَّه أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد القرشي العباسي البغدادي، الخليفة العباسي العاشر، كان أسمر، مليح العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين، إلى القصر أقرب، وأمه أم ولد، أظهر السنة، وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وإظهار السنة، وبسطها ونصر أهلها، يعني محنة خلق القرآن، توفي سنة ٢٤٦ هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (٥/ ١٠٩٧).
(^٢) محمد بن المتوكل، وقيل: الزبير، ولد سنة ٢٢٢ هـ كان أعين، قصيرًا، أقنى، أسمر، ضخم الهامة، عظيم البطن، جسيما، مليح الوجه، مهيبا، بويع بالخلافة في صبيحة الليلة التي قتل فيها المتوكل، ولم تطل مدته فقد توفي سنة ٢٤٨ هـ. انظر: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي (١١/ ٣٥٣) وما بعدها. تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا. الناشر: دار الكتب العلمية بيروت. الطبعة الأولى ١٤١٢ هـ.
(^٣) أحمد بن المتوكل على اللَّه جعفر بن المعتصم، أبو العباس، المعتمد على اللَّه: خليفة عباسي، ولد بسامراء، وولي الخلافة سنة ٢٥٦ هـ بعد مقتل المهتدي باللَّه بيومين. وطالت أيام ملكه، وكانت مضطربة كثيرة العزل والتولية، بتدبير الموالي وغلبتهم عليه، فقام وليّ عهده أخوه الموفق باللَّه طلحة فضبط الأمور، وصلحت الدولة وانكفَّت يد المعتمد عن الحكم، توفي سنة ٢٧٩ هـ. انظر: الأعلام لخير الدين الزركلي (١/ ١٠٦).
1 / 13
باللَّه أبي العباس أحمد (^١) لم يكن له من الخلافة إلا الاسم، وكان المماليك الأتراك مستولين على المُلْك، وكان الأمر جميعه لكبِيرَي الأتراك وَصِيف (^٢) وبُغَا (^٣) التُّركيِّين حتى قيل في ذلك:
خَلِيفَةٌ فِي قَفَصٍ … بيْنَ وَصيفٍ وبُغَا
يَقُولُ ما قَالَا لهُ … كما تقُولُ البَبَّغا (^٤)
ولما خُلع الخليفة المستعين باللَّه، قال بعض الشعراء أبياتًا يصف ما آلت إليه تلك الأحوال:
خُلعَ الْخَلِيفَةُ أحمدُ بنُ محمدٍ … وسيُقتلُ التَّالي لهُ أو يُخلَعُ
ويزولُ مُلْكُ بني أبيهِ ولا يُرى … أحدٌ تمَلَّكَ مِنهمُ يَستَمْتِعُ
إيهًا بني العباسِ إن سبيلَكُم … في قتلِ أعبُدكم طَريقٌ مَهْيَعُ
رَقَّعتُمُ دُنياكُمُ قتُمزَّقَتْ … بكمُ الحياةُ تَمزُّقًا لا يُرقَعُ (^٥)
ونتيجة لهذه الفوضى قام الخليفة الراضي باللَّه أبو العباس محمد (^٦) بإنشاءِ منصب "أمير الأمراء"؛ وذلك بقصد إنقاذ الخلافة العباسية من التدهور والضعف، وإعادة الهيبة والقوة لها، والحد من تسلط الأتراك، وأعطى صاحب هذا المنصب الصلاحيات الواسعة سواءً كانت إداريةً أو عسكريةً أو ماليةً.
_________
(^١) أحمد بن محمد بن المعتصم باللَّه، وكنيته أبو العباس، ولي إلى أن خلع بسر من رأى بعد دخوله بغداد، وذلك لثلاث عشرة خلت من المحرم سنتين وتسعة أشهر وتسعة أيام، ومات بالقادسية، وكان عمره أربعة وعشرين سنة. انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (٦/ ٢٥٥).
(^٢) وَصيف التركي القائد، من كبار الأمراء، استولى على المعتز واحتجر عليه، واصطفى لنفسه الأموال والذخائر، خرج في طائفة يسيرة إلى الخليفة فوثبوا عليه فقتلوه بالدبابيس، وقطعوا رأسه، ونصبوا الرأس على رمح، قُتل وصيف في سنة ٢٥٣ هـ، قبل بغا بيسير، وكانا الفاتقة والراتقة زمن المتوكل، والمستعين، والمعتز. انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (٦/ ٢٢٦).
(^٣) بُغا الصغير الشّرابيّ، وكان قد تمرّد وطغى، وراح نظيره وصيف، فتفرد واستبد بالأمور، وكان المعتز باللَّه يقول: لا أستلذ بحياة ما بقي بغا، ثم إن بُغا وثب فأخذ من الخزائن مائتي ألف دينار، وتمرد فُقتل بعد ذلك سنة ٢٥٤ هـ. انظر: شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي (٣/ ٢٤٢).
(^٤) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (٦/ ٥٧) والوافي بالوفيات للصفدي (١٠/ ١١٠) وسط النجوم للعصامي (٣/ ٤٧٣).
(^٥) انظر: تاريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري (٩/ ٣٥٠).
(^٦) الراضي باللَّه أبي العباس محمد بن المقتدر، كانت مده خلافته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام، توفي سنة ٣٢١ هـ. انظر: صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي (١١/ ٢٨٤).
1 / 14
لكن الإصلاح عبر هذا المنصب لم يدم إلا اثنتي عشرة سنة، فكان بعد ذلك سببًا لظهور التنافس الشرس من قِبل الأمراء الأتراك على هذا المنصب، فتمكن بعضهم بسببه من الاستيلاء على بغداد وأصبح بيدهم تولية الخليفة وعزله.
وحصل بسببه الاضطراب السياسي، وضعفت نتيجة لذلك كلِّهِ سلطة الخليفة، بحيث أصبح مجردًا من صلاحياته ولم يبق له من الخلافة إلا اسمها.
واستمر هذا الحال إلى خلافة المستكفي باللَّه (^١)، حيث دخل بنو بويه (^٢) بغداد في سنة ٣٣٤ هـ بقيادة أبي الحسين أحمد بن بويه، مع أخَويه أبي الحسن على بن بويه، وأبي على الحسن بن بويه، "ووقف أحمد بن بويه بين يدي الخليفة طويلًا وأخذت عليه البيعة للمستكفي باللَّه واستحلف له بأغلظ الأيمان، ووقعت الشهادة على المستكفي باللَّه وعلى الأمير أبي الحسين، ثم ليس الأمير الخلع ولُقِّبَ بـ "معز الدولة" ولُقِّبَ أخوه أبو الحسن على بن بويه بـ "عماد الدولة" وأخوه أبو علي الحسن بن بويه بـ "ركن الدولة" وأمر أن تُضرب ألقابُهم وكُناهم على الدنانير والدراهم وانصرف بالخلع إلى دار مؤنس، ونزل الديلم والجيل والأتراك دور الناس فلحق الناس من ذلك شدة عظيمة وصار رسمًا عليهم إلى اليوم" (^٣).
لم يدم الأمر طويلًا فلقد قُبض على الخليفة المستكفي باللَّه من على كرسيه واقتيد وخُلع، ومن حينئذ خضعت الخلافة العباسية للبويهيين خضوعًا تامًا مدة مائةٍ وسبعةٍ وعشرين سنة (^٤).
وكان آخر أمرائهم أبو نصر "الملك الرحيم" خسرو فيروز بن عماد الدين مرزبان، حيث خُلع سنة ٤٤٧ هـ، وبعد ذلك سُجن ومات مسجونًا (^٥).
وفي تلك السنة دخل السلاجقة بغداد بقيادة طغرلبك السلجوقي وقضوا على نفوذ البويهيين وأعادوا للخلافة العباسية هيبتها.
_________
(^١) المستكفي عبد اللَّه بن على المكتفي، ويكنى أبا القاسم، وأمه أم ولد رومية تسمى غصن، ولي الخلافة، وسنه يومئذ إحدى وأربعون سنة وسبعة أيام، وكان في سن المنصور يوم ولي، وكانت خلافته سنة واحدة وأربعة أشهر، وسُملت عيناه، وله ثمان، وقيل ثلاث وأربعون سنة وأشهر. انظر: التنبيه والإشراف للمسعودي (١/ ٣٤٥).
(^٢) دولة رافضية أعجمية انتشرت بسببها البدع والمحدثات في بلاد العراق. انظر: صفحة (٤٧) من هذا البحث.
(^٣) انظر: تجارب الأمم وتعاقب الهمم لابن مسكويه (٥/ ٢٧٥) باختصار وتصرف.
(^٤) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (٩/ ٦١٣).
(^٥) انظر: تاريخ ابن الوردي لابن الوردي (١/ ٣٤٤ و٣٥٣).
1 / 15
قال ابن القلانسي:"ولم يزل الأمر على ذلك مستمرًا إلى أن ظهر أمر السلطان ركن الدنيا والدين طغرلبك محمد بن ميكان بن سلجوق (^١) وقويت شوكة الترك وانخفضت الدولة البويهية واضمحلت وانقرضت" (^٢). وكان دخوله بغداد بسبب مكاتبة الخليفة له واستدعاءه لكف شر البويهيين ووزرائهم (^٣).
قال الذهبي: "ومَلَكَ طغرلبك العراق، وقمع الرافضة، وزال به شعارهم، وكان عادلًا في الجملة، حليمًا كريمًا محافظًا على الصلوات، يصوم الاثنين والخميس، ويعمر المساجد" (^٤).
وبهذا يكون قد بدأ عصرٌ جديدٌ من عصور الدولة العباسية حكم فيه السلاجقة العراق وتوسعوا شرقًا وغربًا، واستمرت دولتهم قرنًا ونصف القرن، وسقطت مع سقوط الخلافة العباسية على يد المغول، حيث بدأ اجتياح المغول للبلدان الإسلامية سنة ٦١٧ هـ، فدخلوا بلاد ما وراء النهر خراسان (^٥) فدمروها وأفسدوا فيها، وأحرقوا مساجدها وقتلوا كثيرًا من علمائها وأهلها وأتلفوا الكتب، فلم يسلم إلا القليل من الناس (^٦).
وقال ابن الأثير: "لقد بقيتُ عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيًا منسيًا، إلا أنني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم من خلق اللَّه ﷾ آدم إلى الآن، لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقا، فإن التواريخ
_________
(^١) السلطان طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق السلطان الكبير ركن الدين أبو طالب طغرلبك أول ملوك السلجوقية أصلهم من بر سنجار وهم قوم لهم عدد وقوة كانوا لا يدخلون تحت طاعة السلطان وإذا قصدهم من لا طاقة لهم به دخلوا المفاوز. انظر: الوافي بالوفيات للصفدي (٥/ ٧٠).
(^٢) انظر: تاريخ دمشق لابن القلانسي (ص ٤٤٢).
(^٣) انظر: العِبر في خبر من غبر للذهبي (٢/ ٢٨٩).
(^٤) انظر: المصدر السابق (٢/ ٣٠٤).
(^٥) بلاد واسعة، أول حدودها مما يلي العراق ازاذوار قصبة جوين وبيهق، وآخر حدودها مما يلي الهند طخارستان وغزنة وسجستان وكرمان، وتشتمل على أمهات من البلاد منها نيسابور وهراة ومرو، وهي كانت قصبتها، وبلخ وطالقان ونسا وأبيورد وسرخس وما يتخلل ذلك من المدن التي دون نهر جيحون. معجم البلدان لياقوت بن عبد اللَّه الرومي الحموي (٢/ ٣٥٠).
(^٦) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبري (١/ ٥٨٣).
1 / 16
لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر (^١) ببني إسرائيل من القتل وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس؟ وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا؟ فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج" (^٢).
وفي عام ٦٥٦ هـ احتلوا بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وقتلوا خليفة المسلمين المستعصم باللَّه العباسي (^٣)، واستباحوا بغداد قتلًا وسلبًا ونهبًا.
قال الحافظ ابن كثير في أحداث تلك السنة: "فيها أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة وانقضت دولة بني العباس منها" (^٤).
وقال الذهبي: "ثم دخلت حينئذ التتار بغداد وبذلوا السيف واستمر القتل والسبي نيفًا وثلاثين يومًا، فقَلَّ من نجا، فيقال: إن هولاكو أمر بعد القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف وكسر فعند ذلك نودي بالأمان، واشتد الوباء بالشام ولاسيما بدمشق وحلب لفساد الهواء" (^٥).
وقُتل كثيرٌ من المسلمين، من العلماء والوزراء والعامة، حتى النساء والأطفال لم يسلموا من القتل.
قال ابن كثير: "ومالوا على البلد، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون، وكان الفئام من الناس يجتمعون في الخانات، ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي المكان، فيقتلونهم في الأسطحة، حتى تجري الميازيب من
_________
(^١) اسمه نبوخذ نصَّر بن سنحاريب بن كيحسري، من الفرس الأُوَل قبل النبط وقبل بني ساسان وكان يقال للفرس الأول الأشكنان وللنبط الاردوان. انظر: المحبر لمحمد بن حبيب البغدادي (ص ٣٩٤).
(^٢) انظر: الكامل لابن الأثير (١٠/ ٣٣٣).
(^٣) آخر خلفاء بني العباس ببغداد، وكانت مدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيامًا، وتقدير عمره سبعًا وأربعين سنة، وكان متدينًا متمسكًا بمذهب أهل السنة والجماعة، على ما كان عليه والده وجده رحمهم اللَّه تعالى، ولم يكن على ما كانوا عليه من التيقظ والهمة، بل كان قليل المعرفة والتدبير والتيقظ نازل الهمة، محبًا للمال مهملًا للأمور يتكل فيها على غيره. انظر: الوافي بالوفيات للصفدي (٢/ ٢٣١).
(^٤) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (١٧/ ٣٥٦).
(^٥) انظر: العبر في خبر من غبر للذهبي (٣/ ٢٧٨).
1 / 17
الدماء في الأزقة، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي (^١)، وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم. وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها أحد إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة. . . وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف. وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس. . وقُتل الخطباء والأئمة، وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد. . ولما انقضى أمد الأمر المقدور، وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت البلد من جيفهم، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون" (^٢). وكان دخولهم بغداد في العشرين من محرم (^٣).
قال ابن كثير: "وما زال السيف يقتل أهلها أربعين صباحًا، وكان قتل الخليفة المستعصم باللَّه أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر، وعفا قبره، وكان عمره يومئذ ستًا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام" (^٤). وكانت هذه الفتنة العظيمة التي حلت بالمسلمين بسبب الرافضة الحاقدين، وسعيهم لهدم الخلافة والقضاء على الإسلام والمسلمين.
قال الذهبي: "كان وزير العراق مؤيّد الدين ابن العَلْقمي رافضيًا جَلْدًة خبيثًا داهيةً، والفتن في استعارٍ بين السّنّة والرّافضة حتّى تجالدوا بالسّيوف، وقُتِل جماعة من الرّوافض ونُهِبوا، وشكا أهل باب البصرة إلى
_________
(^١) محمد بن محمد بن علي بن أبي طالب الوزير الكبير، المدير المبير مؤيد الدين ابن العلقمي البغدادي، الشيعي الرافضي، وزير الخليفة الإمام المستعصم باللَّه، ولي وزارة العراق أربع عشرة سنة، فأظهر الرفض قليلًا، وكان في قلبه غل على الإسلام وأهله، فأخذ يكاتب التتار، ويتخذ عندهم يدا ليتمكن من أغراضه الملعونة. وهو الذي جرأ هولاكو وقوي عزمه على المجيء، وقرر معه لنفسه أمورا انعكست عليه، وندم حيث لا ينفعه الندم، وولي الوزارة للتتار على بغداد مشاركا لغيره، ثم مرض ولم تطل مدته، ومات غمها وغبنا، فواغبناه كونه مات موتا حتف أنفه، وما ذاك إلا ليدخر له النكال في الآخرة. انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (٣/ ٨٤١ - ٨٤٣).
(^٢) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (١٧/ ٣٥٩ - ٣٦٢).
(^٣) انظر: المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء الأيوبي (٣/ ١٩٣).
(^٤) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (٣/ ٣٦١).
1 / 18
الأمير رُكْن الدين الدوَيْدار (^١) والأمير أبي بكر ابن الخليفة (^٢) فتقدّما إلى الجند بنهب الكرخ، فهجموه ونهبوا وقتلو، وارتكبوا من الشّيعة العظائم، فحنق الوزير ونوى الشّرّ، وأمر أهل الكَرْخ بالصبْر والكفّ، وكان المستنصر باللَّه قد استكثر من الْجُنْد حتى بلغ عدد عساكره مائة ألف فيما بَلَغَنَا، وكان مع ذلك يصانع التّتار ويُهاديهم ويُرضيهم. فلمّا استخلف المستعصم كان خليّا من الرّأي والتّدبير، فأشير عليه بقطع أكثر الْجُنْد، وأنّ مصانعة التّتار وإكرامهم يحصل بها المقصود، ففعل ذلك، وأمّا ابن العلْقمي فكاتَبَ التّتار وأطمعهم فِي البلاد، وأرسل إليهم غلامه وأخاه، وسهّل عليهم فتْحَ العراق، وطلب أن يكون نائبَهم، فوعدوه بذلك وتأهّبوا لقصد بغداد (^٣). ولكن لم يتم لابن العلقمي الرافضي ما أراد، فلم يَسْلَمْ من القتلِ أهلُ ملتهِ من الرافضة، بل نالتهم السيوف، ولحقت بهم الحتوف.
قال ابن الوردي: "أراد ابن العلقمي نُصْرَة الشيعة فنُصر عَلَيْهِم، وحاول الدّفع عنهُم فدُفع إليهم، وسعى وَلَكِن في فسادهم، وعاضد وَلَكِن على سبي حريمهم وَأَوْلَادهم، وَجَاء بجيوش سلبت عَنهُ النِّعْمَة، ونكبت الإِمَامَ والأمَّة، وسفكت دِمَاء الشِّيعَة وَالسّنة، وخلدت عَلَيْهِ الْعَار واللعنة:
وأتى الخائنُ الْخَبيث بمُغْلٍ … طبقَ الأَرْضَ بَغْيُهُمْ تَطبيقَا
هَكَذَا يَنصُرُ الجَهولُ أَخَاهُ … وَمِنَ البرِّ مَا يكون عُقُوقَا (^٤)
بعد ذلك توجه التتار لغزو الشام، فأرسل هولاكوا عدة رسائل إلى سلاطين المماليك بالشام يطلب منهم الاستسلام ويتهددهم ويتوعدهم (^٥).
وبدأ تحركهم نحو الشام "ففي جمادى الأولى من سنة سبع وخمسين وستمائة نزل حرّان (^٦) واستولى عليها وملك بلاد الجزيرة (^٧)، ثمّ سيّر ولده أشموط بن هولاكو إلى الشام وأمره بقطع الفرات وأخذ البلاد الشاميّة،
_________
(^١) الملك، مقدم جيش العراق، مجاهد الدين أيبك الدويدار الصغير أحد الأبطال المذكورين والشجعان الموصوفين الذي كان يقول: لو مكنني أمير المؤمنين المستعصم، لقهرت التتار، ولشغلت هولاكو بنفسه. انظر: السير للذهبي (٢٣/ ٣٧١).
(^٢) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (١٧/ ٣٦١).
(^٣) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (١٤/ ٦٧٠).
(^٤) انظر: تاريخ ابن الوردي (٢/ ١٩٠).
(^٥) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (١٤/ ٦٧٠ - ٦٧٧).
(^٦) مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة أقور، وهي على طريق الموصل والشام والروم. انظر: معجم البلدان لياقوت (٢/ ٢٣٥).
(^٧) بلاد يحيط بها من جهاتها الأربع نهر دجلة والفرات. انظر: حدود العالم من المشرق إلى المغرب (١/ ١٦٢).
1 / 19
وسيّره في جمع كثيف من التّتار، فوصل إلى نهر الجوز (^١) وتلّ باشر (^٢)، وأخذوا حلب (^٣) في ثاني صفر من سنة ثمان وخمسين وستمائة وحاصروها حتّى استولوا عليها في تاسع صفر بالأمان، فلمّا ملكوها غدروا بأهل حلب وقتلوا ونهبوا وسبوا وفعلوا تلك الأفعال القبيحة على عادة فعلهم.
وكان رسل التّتار بقرية حَرَسْتَاء (^٤) فدخلوا دمشق ليلة الاثنين سابع عشر صفر، وقرئ بعد صلاة الظهر فرمان -أعني مرسوما- جاء من عند ملك التّتار يتضمن الأمان لأهل دمشق وما حولها، وشرع الأكابر في تدبير أمرهم. ثم وصلت التّتار إلى دمشق في سابع عشر شهر ربيع الأوّل، فلقيهم أعيان البلد أحسن ملتقى وقرئ ما معهم من الفرمان المتضمّن الأمان، ووصلت عساكرهم من جهة الغوطة (^٥) مارّين من وراء الضّياع إلى جهة الكُسْوة (^٦)، وأهلكوا في ممّرهم جماعة كانوا قد تجمّعوا وتحزّبوا، فقتلوا الرجال وسَبَوا النساء والصّبيان، واستاقوا من الأسرى والأبقار والأغنام والمواشي شيئًا كثيرًا" (^٧).
عزم التتار بعد ذلك على التوجه إلى مصر لاحتلالها كما احتلوا قبلها العراق ثم الشام، وكان سلطان دمشق هو الملك الناصر (^٨)، وسلطان مصر الملك المظفر قطز (^٩)، فتوجه الملك المظفر قطز ومعه الملوك والأمراء
_________
(^١) ناحية ذات قرى وبساتين ومياه بين حلب والبيرة التي على الفرات وأهل قراها كلهم أرمن. انظر: معجم البلدان لياقوت (٢/ ١٨٣).
(^٢) قلعة حصينة، وكورة واسعة في شماليّ حلب، بينها وبين حلب يومان. انظر: مراصد الاطلاع لعبد المؤمن القطيعي (١/ ٢٦٩).
(^٣) مدينة عظيمة واسعة كثيرة الخيرات طيبة الهواء صحيحة الأديم والماء. انظر: معجم البلدان لياقوت (٢/ ٢٨٢).
(^٤) قرية كبيرة عامرة وسط بساتين دمشق على طريق حمص، بينها وبين دمشق أكثر من فرسخ. انظر: نفس المصدر (٢/ ٢٤١).
(^٥) هي الكورة التي منها دمشق، كلها أشجار وأنهار متصلة قلّ أن يكون بها مزارع للمستغلّات إلا في مواضع كثيرة، وهي بالإجماع أنزه بلاد اللَّه وأحسنها منظرا، وهي إحدى جنان الأرض الأربع. انظر: معجم البلدان لياقوت (٤/ ٢١٩).
(^٦) ضيعة ومنزل ومنها إلى دمشق اثنا عشر ميلا. انظر: المسالك والممالك الحسن المهلبي العزيزي (١/ ٦٣).
(^٧) انظر: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لأبي المحاسن ابن تغري بردي (٧/ ٧٤ - ٧٩).
(^٨) الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين، ولد سنة ٦٢٧ هـ وسلطنوه بعد أبيه سنة ٦٣٤ هـ، كان حليمًا جوادًا موطأ الأكتاف حسن الأخلاق محببًا إلى الرعية فيه عدل في الجملة وقلة جور وصفح، خُدع وعُمل عليه حتى وقع في قبضة التتار فذهبوا به إلى هلاوو فأكرمه، ثم قتله بعد ذلك سنة ٦٥٩ هـ. انظر: العبر للذهبي (٣/ ٢٩٧).
(^٩) السلطان الشهيد الملك المظفر، سيف الدين المعزي، كان أكبر مماليك الملك المعز أيبك التركماني، وكان بطلًا شجاعًا، مقدامًا، حازمًا، حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير، وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوض اللَّه شبابه بالجنة ورضي عنه، توفي سنة ٦٥٨ هـ. انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (١٤/ ٨٨٧).
1 / 20
والقواد لملاقاة التتار وقتالهم، فالتقوا في عين جالوت (^١)، فهزم اللَّهُ التتار شر هزيمة، وانتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا وذلك في سنة ٦٥٨ هـ.
قال ابن كثير: "واتفق وقوع هذا كله في العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، فما مضت سوى ثلاثة أيام حتى جاءت البشارة بنصرة المسلمين على التتار بعين جالوت وللَّه الحمد، وذلك أن الملك المظفر قطز صاحب الديار المصرية لما بلغه أن التتار قد فعلوا بالشام ما ذكرنا، وقد نهبوا البلاد كلها حتى وصلوا إلى غزة (^٢)، وقد عزموا على الدخول إلى الديار المصرية، وقد عزم الملك الناصر صاحب دمشق على الرحيل إلى مصر، وليته فعل، وكان في صحبته الملك المنصور (^٣) صاحب حماة، وخلق من الأمراء وأبناء الملوك، وقد وصل إلى قَطْيَة (^٤)، وتهيأ الملك المظفر للقائه وأرسل إليه وإلى المنصور مستحثين، وأرسل إليه يقول: تقدم حتى نكون كتفًا واحدًا على التتار. . . والمقصود أن المظفر لما بلغه ما كان من أمر التتار بالشام المحروسة وأنهم عازمون على الدخول إلى الديار المصرية بعد تمهيد مملكتهم بالشام بادرهم هو قبل أن يبادروه، وبرز إليهم، أيده اللَّه تعالى، وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه، فخرج بالعساكر المصرية، وقد اجتمعت الكلمة عليه، حتى انتهى بمن معه من العساكر المنصورة إلى الشام واستيقظ له عسكر المغول، فكان اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، فاقتتلوا قتالًا عظيمًا شديدًا، فكانت النصرة وللَّه الحمد للإسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة. . . واتبعهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع وفي كل مأزق. . . وهرب من بدمشق منهم، وكان هربهم منها يوم الأحد ٢٧ من رمضان صبيحة النصر الذي جاءت فيه البشارة بالنصرة على عين جالوت، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون ويأسرون وينهبون الأموال فيهم، ويفكون الأسارى من أيديهم قهرًا، وللَّه الحمد والمنن على جبره الإسلام، ومعاملته إياهم بلطفه الحسن، وجاءت بذلك البشارة السارة، فجاوبتها البشائر من القلعة المنصورة وفرح المؤمنون يومئذ بنصر اللَّه فرحًا شديدًا، وأيد اللَّه الإسلام
_________
(^١) بليدة بين بيسان ونابلس من فلسطين. انظر: نهر الذهب في تاريخ حلب لكامل بن حسين الغزي (٣/ ١٣٥).
(^٢) مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، وهي من نواحي فلسطين غربي عسقلان. معجم البلدان الياقوت (٤/ ٢٠٢).
(^٣) الملك المنصور، ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي صاحب حماة، وأبو ملوكها، كانت دولته ثلاثين سنة، وقد هزم الفرنج مرتين، جمع في خزانته من الكتب ما لا مزيد عليه، وكان في خدمته ما يناهز مائتي معمم من الفقهاء والأدباء والنحاة والمنجمين والفلاسفة والكتبة، وكان كثير المطالعة والبحث، بنى سورا لحماة ولقلعتها. توفي سنة ٦٨٣ هـ. انظر: السير للذهبي (٢٢/ ١٤٦).
(^٤) قرية في طريق مصر في وسط الرمل قرب الفرما. معجم البلدان لياقوت (٤/ ٣٧٨).
1 / 21