وتحدث عدي إلى بني طيء يدعوهم ليرجعوا إلى الإسلام، وليكونوا مع أبي بكر صفا، قالوا: «لا نتابع أبا الفصيل أبدا.» وأبو الفصيل كنية أراد خصوم الصديق أن يسخروا بها من كنيته أبي بكر، هنالك قال عدي: «لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم، ولتكننه بالفحل الأكبر، فشأنكم به.» وذكر لهم من عدة المسلمين وعددهم ما روعهم وأفزعهم وأراهم الفصيل فحلا حقا، وأنى لهم أن يرتابوا في حديث عدي وقد هزم أبو بكر عبسا وذبيان ومن ناصرهما حين كانت جيوشه بعيدة عنه على تخوم الروم؟! وفيم يقاتلون أبا بكر وعدي لا يطلب إليهم إلا أن يقيموا على ما كانوا عليه في عهد الرسول؟! وهل تراهم يعرضون أنفسهم وأبناءهم ونساءهم لما عرف عن خالد بن الوليد من شدة وقسوة لغير شيء إلا أن يستبدلوا طليحة بأبي بكر؟!
تحدث بعضهم إلى بعض في هذا، فرأوا أن عديا على الحق، وأنه يخلص لهم الرأي ويصدقهم النصيحة، عند ذلك توجهوا إليه بالقول: «إذن فاستقبل الجيش فنهنهه عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة منا؛ فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم وارتهنهم.» وفرح عدي بما بلغ من إقناعهم، وكر راجعا إلى السنح فاستقبل خالدا وقال له: «يا خالد! أمسك عني ثلاثا يجتمع لك خمسمائة مقاتل لتضرب بهم عدوك، وذلك خير لك من أن تعجلهم إلى النار وتشاغل بهم.» ولم يكن خالد ليخفى عليه، وهو الخبير النابغة في الحرب، أن انسلاخ طيء عن طليحة يضعفه ويفت في عضده، لذلك أمسك ثلاثة أيام عن السير، في حين عاد عدي إلى قومه فألفاهم أرسلوا إلى إخوانهم بالبزاخة أن يأتوهم مددا يعاونهم على جند المسلمين قبل أن يهاجموا طليحة، وراقت هذه الحجة طليحة، فتركهم ينصرفون إلى طيء، فلما تحدثوا إلى قومهم وتحدث إليهم قومهم برأي عدي اقتنعوا وعاد عدي بإسلامهم إلى خالد.
وارتحل خالد نحو الأنسر يريد جديلة، وتعرض له عدي كرة أخرى فقال له: «إن طيئا كالطائر، وإن جديلة أحد جناحي طيء، فأجلني أياما لعل الله أن ينتقذ جديلة كما انتقذ الغوث.» ولم يتردد خالد في إجابته إلى ما طلب، فذهب إلى جديلة، فلم يزل بهم حتى بايعوه، فجاء خالدا بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب، يقول المؤرخون: فكان عدي خير مولود ولد في أرض طيء وأعظمه عليهم بركة.
بلغت أنباء طيء وجديلة طليحة وهو فيمن بقي معه بالبزاخة، ولست في حاجة إلى أن أذكر ما وهنت هذه الأنباء من عزمه وأضعفت من قوته، لكنه أصر مع ذلك على موقف المقاومة إذا هوجم، وما كان له أن يفعل غير ذلك وإلى جانبه عيينة بن حصن على رأس سبعمائة من فزارة، وهو أشد الناس حنقا على أبي بكر وحرصا على توهين سلطان المسلمين، فعيينة هو الذي كان على رأس فزارة في غزوة الأحزاب: وكان صاحب كتيبة من الكتائب الثلاث التي حاولت مهاجمة المدينة بعد اتفاق الأحزاب مع بني قريظة، ثم إنه هو الذي أراد الإغارة على المدينة بعد قليل من هزيمة الأحزاب فصده رسول الله، وحمله على الفرار في غزاة ذي قرد، فإن يكن قد أسلم بعد مواقفه تلك، فإنما أسلم مذعنا للقوة التي لا تغلب، أما وقد قبض الله رسوله إليه فلن يرضى عن سلطان أبي بكر. لن يستطيع طليحة إذن أن يرجع عن نبوته بعد أن غادرته طيء وجديلة وهو يعلم أن رجوعه يقلب عليه عيينة ويثير عليه كل من حوله، ويعرض حياته للخطر، فليقم حيث هو، ولينتظر خالد بن الوليد ومن معه، ثم ليكن الأمر بعد ذلك ما يكون.
وآن لخالد أن يتحرك لمقاتلة المرتدين، فأرسل طليعة له عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم الأنصاري، وكانا من سادات العرب وأبطالها ذوي الشوكة، ولقي عكاشة وثابت جبالا أخا طليحة
1
فقتلاه، فلما بلغ مقتله طليحة خرج مع أخيه الآخر سلمة ينظران ويسألان، ولم يمهل سلمة ثابتا حين رآه أن قتله، وثبت عكاشة لطليحة، فاستعان بأخيه سلمة وقتلا عكاشة ثم رجعا أدراجهما.
وأقبل خالد بن الوليد بالناس، فلما رأوا صاحبيهم قتيلين جزعوا وقالوا: سيدان من سادات المسلمين وفارسان من فرسانهم! ورأى خالد ما بأصحابه من الجزع فآثر ألا يواجه بهم عدوهم حتى تطمئن نفوسهم، لذلك انحرف إلى طيء، واستنفر بمعونة عدي كل من استطاع أن يستنفره من رجالها، ورأى المسلمون عددهم يزداد وقوتهم تتضاعف بهذا العدد، فطابت بالحرب نفوسهم، فسار بهم خالد إلى بزاخة ليقضي على طليحة غير وان ولا متردد.
وكانت قيس وبنو أسد متجهزين حول طليحة للقتال، قال قوم من الطائيين الذين انضموا إلى جنود خالد: سألنا خالدا أن نكفيه قيسا فإن بني أسد حلفاؤنا، فقال: والله ما قيس بأوهن الشوكتين، اصمدوا إلى أي القبيلتين أحببتم، فقال عدي: لو ترك هذا الدين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي لجاهدتهم عليه، أفأنا أمتنع عن جهاد بني أسد لحلفهم! لا لعمر الله لا أفعل! فقال له خالد: إن جهاد الفريقين جميعا جهاد، لا تخالف رأي أصحابك، امض إلى أحد الفريقين، وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط، وكذلك قاتلت طيء قيسا، وقاتل سائر المسلمين بني أسد.
وكان عيينة بن حصن هو الذي يقود المعركة في جانب طليحة في حين كان طليحة يقيم في بيت من الشعر ملتفا في كساء له يتنبأ للناس، فلما حمي وطيس الحرب ورأي عيينة قوة خالد والمسلمين كر على طليحة يسأله: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: لا. فرجع عيينة فقاتل، حتى إذا ازداد وطيس الحرب ضراما كر راجعا إلى طليحة يقول: لا أبا لك! أجاءك جبريل بعد؟ قال: لا والله، قال عيينة: حتى متى! والله لقد بلغ منا، ثم إنه رجع إلى الوطيس فرأى خيل خالد تكاد تحيط به وبأصحابه، فرجع إلى طليحة فزعا يكرر: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: نعم. قال: فماذا قال لك؟ قال طليحة: إنه قال لي: «إن لك رحا كرحاه، وحديثا لا تنساه.» ولم يتمالك عيينة حين سمع الهذر أن صاح: قد علم الله أن سيكون حديث لا تنساه. ثم نادى في قومه: انصرفوا يا بني فزارة فإنه كذاب!
Página desconocida