فالإسلام لم ينتشر ولم يستقر في الأصقاع النائية عن مكة والمدينة من شبه الجزيرة إلا بعد فتح مكة وغزاة حنين وحصار الطائف، أما إلى ذلك العهد فقد ظل نشاط رسول الله محصورا في المنطقة المحيطة بالمدينتين المقدستين، لم يخرج الإسلام عن حدود مكة إلا قبيل الهجرة إلى يثرب، ومن بعد الهجرة ظلت جهود النبي سنوات متعاقبة موجهة إلى كفالة الحرية للدعوة الإسلامية في موطنها الجديد، فلما قضى المسلمون على سلطان اليهود بيثرب، ثم لما فتحوا مكة، بدأ العرب يدينون بدين الحق، وأقبلت الوفود تترى من أنحاء شبه الجزيرة تعلن إسلامها، وجعل النبي يبعث إليهم عماله يفقهونهم في الدين ويجبون منهم الصدقات.
طبيعي ألا يتأصل الدين في نفوس هذه القبائل ما تأصل في نفوس أهل مكة والمدينة، وفي نفوس العرب القريبين منهما، لقد اقتضى استقرار الإسلام في منبته عشرين سنة كاملة، جاهده خصومه أثناءها أشد الجهاد، وناصبوه عداوة اتصلت على السنين، ثم كان من أثرها أن انتصر على خصومه، وأن ثبتت تعاليمه في نفوس العرب الذين اتصلوا برسول الله وبأصحابه من أهل مكة والطائف والمدينة وما جاورها من البلاد والقبائل، أما من نأى عن هذه البقعة التي شهدت نشاط محمد سنوات تباعا، داعيا إلى الله وإلى دين الله، فلم يتأثر بتعاليم هذا الدين الجديد ما تأثرت؛ ولذلك انتفض على الدين وعلى أهله، وحاول الرجوع إلى استقلاله السياسي وإلى استقلاله الديني.
ولم تكن العوامل الأجنبية أقل أثرا في هذا الانتقاض من العامل الجغرافي، لقد كانت مكة والمدينة وما جاورهما من القبائل بعيدة عن الإذعان لنير الفرس والروم المتحكمين يومذاك في شئون العالم، أما شمال شبه الجزيرة المتصل بالشام، وجنوب شبه الجزيرة المتصل بالفرس والقريب من الحبشة، فكانا متأثرين بسلطان هاتين الإمبراطوريتين، بل كانت فيهما مناطق نفوذ لهما، وإمارات تابعة لحكمهما، فلا عجب إذن أن يحاول أصحاب هذا النفوذ وهذا حكم مناوأة الدين الجديد بشتى الأساليب؛ بالدعاية السياسية للاستقلال الذاتي، وبالدعاية الدينية للمسيحية تارة، ولليهودية ثانية، وللوثنية العربية تارة ثالثة.
كان نشاط هذه العوامل كلها واضح الأثر لأول ما انتشر الخبر بوفاة النبي؛ وكان هذا النشاط باديا في شيء من الحذر قبل وفاته، وسترى من أثر ذلك في غضون هذا الكتاب ما لا يدع لديك مجالا للشك فيه، وقد أقامت هذه العوامل الجغرافية والأجنبية لنفسها منطقا يغري بالتصديق بها والانضواء تحت لوائها، وهذا المنطق الذي أذاعه الدعاة بين مختلف القبائل هو الذي دعاهم للانتقاض وللفتنة.
قال الذين أبوا أداء الزكاة فيما بينهم: إذا كان المهاجرون والأنصار قد اختلفوا في ولاية الأمر، وكان رسول الله قد قبض ولم يوص بمن يخلفه، فخليق بنا أن نحتفظ باستقلالنا احتفاظنا بالإسلام دينا، وأن يكون لنا ما جعله المهاجرون والأنصار لأنفسهم من حق في اختيار من يقوم مقام رسول الله فينا، أما أن نذعن لأبي بكر أو لغير أبي بكر فليس ذلك من الدين ولا من كتاب الله في شيء، وإنما تجب الطاعة علينا لمن نوليه نحن أمورنا.
ولعل الذين حدثتهم أنفسهم بمثل ذلك أن يكون لهم من العذر عنه أن رسول الله أقر لمدن العرب ولقبائلها حظا من الاستقلال الذاتي طوع لأهلها أن يفكروا في استرداد هذا الاستقلال كاملا بعد وفاته، فهو قد أبقى بدهان عامل الفرس على أرض اليمن في ملكه حين أعلن بدهان إسلامه وألقى نير المجوس، وهو قد ترك لسائر الأمراء، في البحرين وفي حضرموت وفي غيرهما، ما كان لهم من سلطان بعد أن آمنوا بالله ورسوله، وكان أمره أن توزع الزكاة التي تجبى من بعض هذه الأنحاء على الفقراء من أهلها، ولم يفرض الإسلام الجزية إلا على أهل الكتاب، والعرب مسلمون كأهل المدينة، فما لهم يؤدون الزكاة لصاحب السلطان في المدينة!! وما لهم لا تبقى صلتهم بالمدينة صلة وحدة في الدين لا شأن لها بسياسة الحكم!! وإذا كان لأهل المدينة من السابقة في الإسلام ما يجعلهم أدرى بفروضه وتعاليمه، فحسبهم أن يبعثوا إلى سائر البلاد والقبائل من يفقههم في الدين على ما كان يصنع رسول الله، وأن يكونوا وإياهم أشبه شيء بعصبة أمم إسلامية، لا تبغي إحداها على الأخرى، ولا تلتمس الوسيلة للاعتداء على استقلالها.
دار هذا التفكير بخواطر بعض القبائل القريبة من المدينة ومكة والطائف، أما أهل اليمن وما حاذاها من جنوب شبه الجزيرة، وأما سائر الأصقاع البعيدة عن منزل الإسلام، فإنما أسلم الكثير من أهلها إكبارا لسلطان محمد الذي امتد في سنوات قليلة حتى جاور الروم والفرس في ملكيهما، فكان امتداده السريع معجزة بهرت الأنظار، وأخذت بالألباب، وجعلت الوفود من كل القبائل تقبل إلى المدينة تترى معلنة إلى النبي إسلامها وإسلام القبائل التي تنتمي إليها، أما وقد ذاع فيها النبأ بوفاة النبي فلا عجب أن يتزلزل إيمانها وأن ترتد عن دين طرأ عليها، بل لا عجب أن تثور بهذا الدين وأن تتابع الذين يذكون فيها نار الفتنة باسم العصبية والنعرة العربية.
ولقد خدع هؤلاء أول ما قام فيهم من يدعي النبوة منهم ويزعم أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد، خدعوا عن الإسلام بعد قليل من إقبالهم عليه؛ بل خدع بعضهم عنه والنبي ما يزال بين أظهر العرب لم يختر جوار ربه. سمع كثير من بني أسد لطليحة حين ادعى النبوة، وأيد زعمه بالتنبؤ بموقع الماء في يوم كان قومه فيه يسيرون ويكاد الظمأ يقتلهم. وسمع كثير من بني حنيفة لمسيلمة حين بعث اثنين من رجاله إلى محمد يبلغانه أن مسيلمة نبي مثله، وأنه له نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشا لا يعدلون، وسمع أهل اليمن للأسود العنسي ذي الخمار حين تولى أمر اليمن وطرد منها عمال النبي، على أن رسول الله لم يعر هؤلاء المدعين كثيرا من عنايته، ثقة منه بأن قوة الحق في دين الله كفيلة بإظهار كذبهم، وبأن إيمان المؤمنين بالله كفيل بالقضاء عليهم.
وكان هؤلاء المدعون للنبوة يشعرون بموقفهم ذاك من رسول الله، فلم يثر به أحد منهم ثورة الأسود العنسي ذي الخمار، فقد قيل إنه تنبأ وظهر أمره وقتل في عهد الرسول، على أن جماعة من المؤرخين يذكرون أنه سلك مسلك زميليه فصبر حتى قبض النبي، ثم قام بالثورة على الإسلام، يقول اليعقوبي في تاريخه: «أما الأسود بن عنزة العنسي فقد كان تنبأ على عهد رسول الله، فلما بويع أبو بكر ظهر أمره واتبعه على ذلك قوم، فقتله قيس بن مكشوح المرادي وفيروز الديلمي، دخلا عليه منزله وهو سكران فقتلاه.» ويقول الطبري في إحدى الروايات: «فأول حرب كانت في الردة بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
Página desconocida