قال عمر وقد سمع لهذا النذير: «إذن يقتلك الله!» وأجاب الحباب: «بل إياك يقتل!»
هاتان العبارتان الأخيرتان نذير شر، ولو أن الحباب كانت في جانبه كثرة الأنصار لكان أيسر ما ينشأ عنها أن يضجوا وأن يسرعوا إلى نصرته بالإقبال على مبايعة سعد بن عبادة، وليفعل المهاجرون بعد ذلك ما يشاءون، ولعل طائفة منهم قد تغامزت بذلك أو بشيء يشبهه يكون جوابا لهذا الحوار العنيف بين عمر والحباب، بل لقد ذكر الطبري أن الحباب انتضى سيفه وهو يتكلم، فضرب عمر يده فسقط السيف، فأخذه عمر ثم وثب على سعد بن عبادة، على أن أبا عبيدة بن الجراح تدخل في الأمر وكان قد لزم الصمت إلى تلك اللحظة، فقال موجها حديثه إلى أهل المدينة: «يا معشر الأنصار! كنتم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغير.»
وانتهز بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير من زعماء الخزرج هذه الكلمة الحكيمة من أبي عبيدة فقام بين قومه وقال: «إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ولا نبتغي من الدنيا عرضا؛ فإن الله ولي النعمة علينا بذلك، ألا إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
من قريش وقومه أحق به وأولى، وايم الله لا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبدا، فاتقوا الله ولا تخافوهم ولا تنازعوهم.»
وأجال أبو بكر بصره في الأنصار ليرى ما تركت مقالة بشير من الأثر فيهم، فألفى الأوس وكأنما يهمس بعضهم في أذن بعض، وألفى بني الخزرج يبدو على الكثير منهم أن قول بشير أقنعهم، فأيقن أن الأمر قد استوى وأن اللحظة لحظة الفصل فلا ينبغي أن تترك، وإذ كان جالسا بين عمر وأبي عبيدة فقد أخذ بيد كل منهما، وقال يدعو الأنصار إلى الجماعة ويحذرهم الفرقة ثم أردف: «هذا عمر وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا.»
هنالك كثر اللغط وخيف الاختلاف، أيبايعون عمر وهو على ما هو عليه من شدة، وهو مع ذلك وزير النبي وأبو حفصة أم المؤمنين! أم يبايعون أبا عبيدة ولم يكن له إلى يومئذ في المسلمين ما كان لعمر من كلمة ومقام! لكن عمر لم يدع لهذا الخلاف أن تنبت شجرته؛ فقد نادى بصوته الجهوري: «ابسط يدك يا أبا بكر.» وبسط أبو بكر يده فبايعه عمر وهو يقول: «ألم يأمر النبي بأن تصلي أنت يا أبا بكر بالمسلمين! فأنت خليفة الله، فنحن نبايعك لنبايع خير من أحب رسول الله منا جميعا.»
وبايع أبو عبيدة وهو يقول: «إنك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك!» وإن عمر وأبا عبيدة يبايعان أبا بكر إذ أسرع بشير بن سعد فبايعه.
عند ذلك ناداه الحباب بن المنذر: يا بشير بن سعد، عققت، ما أحوجك إلى ما صنعت! أنفست الإمارة على ابن عمك! (يقصد ابن عبادة).
قال بشير: لا والله! ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم.
Página desconocida