140

Siddiq Abu Bakr

الصديق أبو بكر

Géneros

ذكرت في تقديم هذا الكتاب أن عهد أبي بكر له ذاتيته الخاصة وتكوينه التام، وأنه ينطوي على عظمة نفسية تثير الدهشة، بل الإعجاب والإجلال، ولعل القارئ الذي بلغ من تلاوة الكتاب هذه الخاتمة، ووقف على ما تم خلال هذا العصر القصير من جليل الأعمال، يرى رأيي فيما ذكرت، ويقف لذلك معي مليا يستخلص من هذا العهد عبرته البالغة، ليرى كيف تنتقل حضارة الأمم من حال إلى حال بتفاعل عناصر الاجتماع خلال الأجيال والعصور، فإذا جاء الأجل الذي خطه القدر في لوحه لم يكن من هذا الانتقال بد، ولم تستطع قوة في العالم أن تقف في سبيله أو تحول دونه.

إمبراطوريتان عظيمتان تمثل إحداهما حضارة الغرب ومقوماتها من عقائد ونظم ومن فن وعلم وتفكير، وتمثل الأخرى حضارة الشرق ومقوماتها من عقائد ونظم ومن فن وعلم وتفكير، يمثل الروم حضارة اللاتين واليونان والفينيقيين والفراعنة، وتمثل فارس حضارة إيران والهند ومذاهب الشرق الأقصى مجتمعة، تمتد الأولى من أواسط أوربا بل من غربها الأقصى إلى شرق بحر الروم، ثم تتخطاه لتقف عند بادية الشام، وتمتد الأخرى من أواسط آسيا، بل من شرقها الأقصى إلى حوض دجلة والفرات، ثم تتخطاه لتقف عند بادية الشام، وهذه البادية التي تلتقي عندها الحضارتان تمتد بينهما جدباء إلا من قبائل نزحت من شبه جزيرة العرب، تنتقل في أرجائها ثم تأوي إلى الروم أو إلى الفرس حيثما يطيب لها المرعى. والإمبراطوريتان تقتتلان فتبهران الأنظار بقوتهما وعظمتهما، لا يسكن تعاقب القرون من حدتهما، ولا تجدان في غير الحروب وسيلة لإرواء ظمئهما إلى المجد، واستكمال حظهما من الترف والنعيم.

أفأعوزت إحداهما أسباب العيش فكان ذلك سبب ما اتصل بينهما من حروب أفنت كلتاهما فيها على القرون ما لا يحصى من مهج، وبيعت فيها الأرواح بيع السماح؟ كلا! بل كانت الإمبراطوريتان مترعتين بخيرات البلاد التي تحكمانها، كانت الروم تنعم بما تغل مصر وسائر ممتلكات قيصر من زراعة وما تنتج من صناعة، ومما كان لمصر وسائر بلاد الإمبراطورية من تراث ضخم في العلم والأدب والفن، وكانت فارس تنعم بخيرات البلاد الخاضعة لكسرى، والتي كانت تمدها بكل ثمراته، لكن كل واحدة من الدولتين كانت تزعم لنفسها حقا في المتاع من نعم الحياة بما لا ينعم به غيرها، ولا ترى لذلك بأسا بأن تغصب غيرها ما في يده من أسباب هذا المتاع، أليست لها القوة وفي متناولها أسباب البطش؟! وحق القوة بعض ما آمنت وتؤمن به الإنسانية أمما وأفرادا، ألا يرى أحدنا مواد الترف حاجات ماسة لا غنى له عنها، ثم لا يغير من رأيه هذا ألا يجد جاره الكفاف لنفسه ولذويه! والقوانين تشرع دفاعا عن حق القوة، ذلك بأن القوة هي قوام القانون تنفذه وتلزم الناس احترامه، فباسم القانون ينال القوي ما يراه حاجة ماسة لحياته، وباسم القانون وباسم الحضارة تثير الدول الحروب لتبلغ من أسباب الترف ما يكفل المستوى الذي تراه لائقا لمكانتها بين سائر الأمم.

لهذا ظلت الإمبراطوريتان تقتتلان سبعة قرون متوالية، فتبهران العالم بقوة بأسهما وسمو حضارتهما، يحالف النصر إحداهما تارة، ويحالف الثانية تارة أخرى، فلا تنهنه الهزيمة من هيبة أيهما؛ لأن الأمم الصغيرة من حولها كانت ترى دورة الدوائر بينهما، وترى مغلوب اليوم منهما غالبا غدا، فتحسب أن القدر فرضهما على الوجود فرضا، وأنها من القوى الثابتة في دورة الكون كالشمس والقمر والكواكب سواء.

وبينما لا تعرف الأمم إلا اسميهما، ولا تتحدث إلا بفعالهما، إذا أمة تنهض من حيث لم يكن أحد يتوقع أن تنهض، وأنى لشبه جزيرة العرب ببواديها الماحلة وصحاريها الجرداء أن تبعث أمة أو تنشئ دولة! وأنى لقبائل هذه البادية، وكل ما تعتمد عليه في حياتها الغزو والسلب، أن تفكر في حضارة، بله أن تقيمها؟! لقد كان كسرى فارس يسميهم رعاة الإبل والغنم، وكان قيصر الروم يصفهم بالحفاة العراة الجياع، أفمن هؤلاء الرعاة الحفاة تنهض أمة يعبأ بها الروم أو يهتم لها الفرس؟!

مع ذلك نهضت هذه الأمة، فواجهت الأسدين فارس والروم، وحاربتهما وتغلبت عليهما، وقد رأيت من خلال هذا الكتاب أن العرب لم يتغلبوا على الأسدين بتفوق في العدة أو في العدد، وإنما تغلبوا بالعقيدة الثابتة والإيمان الذي لا يتزعزع، وبهذا الغلب نشأت الإمبراطورية الإسلامية التي حملت عبء الحضارة في العالم عشرة قرون تباعا، والتي نشرت الإسلام في أنحاء الإمبراطوريتين وفيما وراءهما: في الهند والصين والتركستان وغيرها من ممالك آسيا، وفي مصر وما وراءها إلى المحيط الأطلنطي من بلاد إفريقية، وفي عاصمة قسطنطين، وفي روسيا وإسبانيا وغيرها من أمم أوربا.

كيف حدثت هذه المعجزة؟! كيف تغلب العرب مع قلة عددهم، وضعف حضارتهم، وتأخر علومهم وفنونهم، على الفرس وعلى الروم ولهم من العدد ومن الحضارة ومن العلوم والفنون ما لا يزال التاريخ يحدث عنه في إكبار أي إكبار؟! أهي المصادفة التي لا تفسير لها من سنن الكون؟! كلا! فلو أن ما حدث في عهد أبي بكر أثمرته المصادفة لما كتب له أن يبقى وأن يتصل على الزمان، ولوقف الفرس والروم في وجه العرب فردوهم على أعقابهم، لكن ما حدث في عهد عمر وعثمان من توغل العرب في أراضي الإمبراطوريتين العظيمتين والقضاء عليهما، لا يدع مجالا للريب في أن ما حدث كان حتما قضت به سنن الكون، ولذلك اطرد فكانت الحضارة الإسلامية ثمرته، وما كانت المصادفة لتتمخض عن مثل هذه الحضارة التي ازدهرت في ظل لوائها كل مقومات الحضارة، فقد اجتمع للحضارة الإسلامية من العلم والأدب والفن وسائر ألوان الثقافة ما حل في العالم محل الثقافة اليونانية بعلمها وأدبها وفنها وتفكيرها، وذلك بعد أن كانت اليونان وارثة مصر وآشور والحضارة الإنسانية الأولى جميعا. لا مفر لنا إذن من أن نلتمس لهذه الظاهرة الكونية العظيمة تفسيرا من سنن الكون يكشف لنا عن السر في قيام هذه الحضارة، وامتداد سلطانها في العالم، واستقرارها فيه دهرا طويلا.

ومن سنن الكون أن الأمم والحضارات يصيبها الهرم على نحو ما يصيب الأفراد، فإذا هرمت وشاخت دب الفساد إلى كيانها، فأدى إلى انحلالها، وإلى قيام أمة شابة وحضارة شابة مقامها.

أشرت غير مرة في غضون هذا الكتاب إلى عوامل الفساد والاضطراب التي كانت تظهر الحين بعد الحين في فارس وفي الروم، وقد استفحلت هذه العوامل في القرن السادس المسيحي واشتد خطرها، فكان من أثرها في فارس أن اضطرب بلاطها، وانتشرت الدسائس في جوها، وتنازع الطاعون في عرشها، واتخذ بعضهم الغدر سلاحه لتولي أمورها، بذلك فسد الرأس، فامتد الفساد منه إلى ما دونه، فكثرت مذاهبها وأحزابها، وتبلبلت عقائد الناس فيها، فانكمشوا يتوفرون على رزقهم يكثرونه، ويلتمسون النيل والجاه عن طريقه، هذا إلى أن الطوائف في فارس كانت كثيرة العدد كثيرة المطامع؛ تريد الحكم تستذل به رقاب السواد، وتبلغ باستغلاله كل ما تصبو إليه من أسباب النعمة والمتاع، لذلك انحلت العصبية القومية في الفرس، وانهارت القوة المعنوية في نفوسهم، وتدهور مثلهم الأعلى إلى حيث لا يعدو متع الحياة ولينها، طبيعي وذلك شأنها أن يتداعى ركنها، وأن تضعف مقاومتها، وبخاصة إذا واجهتها قوة تسمو على الحياة وتتخذ المثل الأعلى شعارها.

ولم يكن أثر هذه العوامل في الإمبراطورية الرومية دونه في فارس، فقد نجمت الثورات فيها لأسباب تتصل بالنزاع بين الفرق المسيحية حينا، وبالنزاع على العرش حينا آخر، فكان ذلك سبب تدهورها وانحلالها، ومع أن جستنيان استطاع أن يرد إليهم أعظم الاعتبار في نظر العالم يومئذ، بجلال حكمته ونزاهة عدله وقوة بأسه، لقد كانت عوامل الانحلال أعمق أثرا من أن يتلافاها خلفاؤه ولم يكونوا في مثل حكمته وبأسه، فلما كان أول القرن السابع المسيحي تولى فوكاس عرش الإمبراطورية وساسها بيد من حديد، عند ذلك قام هرقل حاكم إفريقية الرومية بالثورة عليه، ثم انتهى به الأمر إلى الظفر به وقتله واعتلاء العرش مكانه، وكان الفرس قد غلبوا الروم في نهاية عهد فوكاس وبدء عهد هرقل، فلما حانت الفرصة أخذ هرقل بالثأر منهم، فحاربهم وغلبهم ووطد بذلك سلطانه في الإمبراطورية، حتى لقد خيل إلى الناس جميعا أن عهد جستنيان عائد لا محالة، ثم إنه حاول أن يزيد سلطانه تثبيتا بالقضاء على أسباب الضعف الناشئة عن اختلاف الفرق الدينية في أرجاء ملكه، وذلك بتوحيد المذهب المسيحي وفرضه على الناس في جميع أنحاء الإمبراطورية، وليتم غرضه بطش بخصوم المذهب الرسمي في مصر وفي غير مصر؛ فكان ذلك سببا في قيام الثورات واندلاع لهيبها، ثم كان سببا في ازدياد الضعيف الذي حاول هرقل أن يخلص الإمبراطورية منه.

Página desconocida