مرض أبو بكر ووفاته
قضى أبو بكر على ردة العرب وعلى الثورة التي اندلعت إثر وفاة الرسول بسبب هذه الردة فأشعلت شبه الجزيرة نارا، ثم إنه فتح العراق وأوشكت جيوشه أن تدخل المدائن عاصمة فارس، كما تقدم في فتح الشام وساير النصر أعلامه فيها إلى دمشق، وبينما تبهر هذه الانتصارات أنظار العالم إذا أبو بكر يقيم الحكم في البلاد العربية المتحدة على أساس الشورى، وإذا هو يجمع كتاب الله، فيقر له الجميع بأنه أعظم المسلمين أجرا في جمعه بين اللوحين، هذه الأعمال ضخمة عظيمة أقرت الدين الحنيف في منزل الوحي، ومهدت لإقامة الإمبراطورية الإسلامية ولانتشار هذا الدين الحنيف فيها، وليقام الحكم بين أهلها على أساس متين من الإنصاف والعدل، وكان ذلك كله في سنتين وثلاثة أشهر.
أليست هذه بعض معجزات التاريخ؟! في سنتين وثلاثة أشهر تطمئن أمم ثائرة وتصبح أمة متحدة قوية مرهوبة الكلمة عزيزة الجانب، حتى لتغزو الإمبراطوريتين العظيمتين اللتين تحكمان العالم وتوجهان حضارته، لتنهض بعبء الحضارة في العالم قرونا بعد ذلك، هذا أمر لم يسجل التاريخ مثله، فلا عجب أن يقتضي من أبي بكر مجهودا تنوء به العصبة أولو القوة، أما وقد تخطى أبو بكر الستين يوم بويع، فطبيعي أن يهيض هذا المجهود قوته وأن يعجل به إلى لقاء ربه.
ولعلك بعد الذي تلوته من تفصيل هذه الأعمال الجسام أن تقدر هذا المجهود وما كان له من أثر، بل لعلك قد رأيت أن هذا المجهود لا يمكن أن ينهض به رجل إلا إذا أوتي من توفيق الله ومعونته ما لا يؤتاه إلا الصديقون، هذا ما آمن به أبو بكر، ولهذا نقش على خاتمه: «نعم القادر الله.»
عجلت عظمة المجهود وتقدم السن وفاة الخليفة الأول، وإن جرت رواية في تعليل وفاته بأن اليهود دسوا له السم في طعام تناول منه عتاب بن أسيد معه، كما تناول منه الحارث بن كلدة لقيمات ثم كف، وأن هذا السم كان بطيء الأثر يقتل بعد عام من تناوله، ولذلك مات عتاب بمكة في اليوم الذي قبض فيه أبو بكر بالمدينة، وهذه الرواية لم تؤيد بسند جدير بالثقة. ومما يزيد من تهافتها أن أبا بكر لم يكن بينه وبين اليهود في خلافته نزاع، وأن اليهود جلوا منذ عهد رسول الله عن المدينة.
والرواية الراجحة في مرض أبي بكر ووفاته تسند إلى ابنته أم المؤمنين عائشة وإلى ابنه عبد الرحمن، قالا: كان أول ما بدأ مرض أبي بكر أنه اغتسل في يوم بارد فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الصلاة؛ وكان يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس.
على أن أبا بكر لم يفتأ في الأسبوعين اللذين قضاهما في مرضه إلى وفاته دائم التفكير في شئون المسلمين، دائم الحساب لنفسه عما قدم مذ تولى أمرهم، فقد كان قوي الشعور منذ مرض بأن أجله جاء، وأنه ملاق ربه، وقد كان مغتبطا لذلك مطمئنا له؛ لأنه كان في السن التي اختار فيها رسول الله الرفيق الأعلى، ولأنه كان يشعر بأنه أدى لله حقه، قيل له يوما: لو أرسلت إلى الطبيب! فكان جوابه: قد رآني. قيل: فما قال لك؟ قال: إني أفعل ما أشاء. يشير إلى أنه وكل الأمر لله، وأنه سعيد بقضاء الله، وأن أكبر همه أن يضمه الله إليه.
وأكثر ما شغل به أبو بكر أثناء مرضه إشفاقه من مصير المسلمين بعده، لقد ذكر اختلاف المهاجرين والأنصار بسقيفة بني ساعدة حين مات النبي، وذكر ما كان يوشك أن يحدث بين القوم لولا أن جمع الله كلمتهم على بيعته، ولئن اختلفوا حين وفاته ليكونن اختلافهم أجسم خطرا، فلم يبق الأمر دائرا بين المهاجرين والأنصار دون سائر العرب، بل لقد جاهد العرب جميعا ولا يزالون يجاهدون في العراق والشام، يواجهون فارس والروم، فإذا قبض واختلفوا لم يقف خلافهم في حدود سقيفة بني ساعدة، بل يتخطاها إلى مكة والطائف، وقد ينتقل إلى اليمن، وعند ذلك تعود الثورة تتلظى في بلاد العرب، وهي إن عادت لم يكن مدارها ركنا من أركان الدين، بل السلطان وولاية الأمر. واختلاف الناس على أمور الدنيا أشد إثارة للشر وإطارة لنار الفتنة، وما أجسم الخطر من ذلك على الإسلام والمسلمين في وقت يواجهون فيه الأسدين فارس والروم! فكيف يتلافى أبو بكر هذا الخطر، وكيف يجنب المسلمين ما ينشأ عن الفتنة من شر مستطير؟
فكر في هذا أثناء مرضه وطال فيه تفكيره، وألهمه الله الرأي وعزم له فلم يتردد، لا سبيل إلى ملافاة ما يشفق منه إلا أن يستخلف من يقوم بالأمر من بعده، وأن يجمع كلمة المسلمين عليه، هذا أمر لم يصنعه رسول الله؛ فقد قبض ولم يستخلف، لكن ذلك كانت فيه لله حكمة، وحكمته ألا يظن الناس أن من استخلفه رسول الله قد استمد الأمر على المسلمين من عند الله، فأصبح خليفة الله، وقد أراد الله من فضله أن يجمع كلمة المسلمين من بعد على أبي بكر وأن يهيئ له من التوفيق ما رأيت، فأما إن استخلف أبو بكر فإنما يستخلف برأيه، وبإرادة المسلمين، ولن يكون لخليفته على المسلمين إلا ما كان لأبي بكر، ولن تكون حكومته إلا كما كانت حكومة أبي بكر.
من ذا تراه يستخلف؟ لقد عجم عيدان من حوله من أولي الرأي جميعا في عهد النبي، ولقد عجم عيدانهم مدة خلافته، وهو اليوم أشد ثقة بأن عمر بن الخطاب خير من يخلفه، لكنه إن فرض ذلك على المسلمين فقد يثقل أمره عليهم، وقد يبرمون به، لذلك دعا عبد الرحمن بن عوف وقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب. قال عبد الرحمن: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلمنا به. قال أبو بكر: وإن. قال عبد الرحمن: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة . قال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، ويا أبا محمد، قد رمقته فرأيته إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه. وسكت هنية ثم قال: لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئا.
Página desconocida