وطبع الشاعر «رباعيات الخيام »، وأنفق على طبعها مالا كان يحتاجه لقوته وقوت أسرته، طبع منها مائتي نسخة كما أوصاه الوراق، وكان الوراق عند وعده للشاعر - وإنه لوعد سخي كريم - وهو أن يعرض له كتابه الصغير بين ما يعرض من كتب!
عرضت «الرباعيات» وكتب عليها الثمن بما يساوي خمسة وعشرين قرشا، فدخل الزبائن إلى دكان الوراق وخرجوا من دكان الوراق، ثم دخلوا وخرجوا ألف ألف مرة، والرباعيات ملقاة على النضد تضرع إلى كف كريمة تسخو لها مرة واحدة بخمسة وعشرين قرشا! وعلى هذا النحو مرت سنون!
وكان الشاعر يخجله أن يسأل صديقه الوراق: كم بعت من الكتاب لكثرة ما سأل السؤال، ولكثرة ما أجابه الوراق بالجواب: لم أبع منه نسخة واحدة يا صديقي الشاعر. فكتب الشاعر للوراق رسالة صغيرة ذات يوم يهدي إليه الرباعيات بنسخها المائتين جميعا، فما لبث التاجر اليائس من تصريف بضاعته الكاسدة أن أنزل الثمن إلى نصف ما كان، ثم إلى نصف النصف، وهكذا، ولم يجد الكتاب شاريا!
وكان في ركن من أركان الدكان صندوق كبير ألقيت فيه أكداس من كتب قديمة منوعة، وكتب على الصندوق: «الكتاب من هذا الصندوق بنصف قرش.» وفي هذه الحاوية ألقى الرجل بآية الشاعر، بل بآية الشاعرين، وتركها للتراب وعفر جبهتها بما يشاء أن يعفر.
ولكل فولة كيال - كما يقولون - جاء إلى دكان الوراق شاعر مفلس ليس في جيبه إلا بضعة قروش، كما أرادت الأيام للشعراء والأدباء أن يكونوا، لا فرق في ذلك بين كبيرهم وصغيرهم! لكن الشاعر المفلس يريد أن يقرأ كما يريد ذلك سائر عباد الله، بل هو في ذلك أكثر من سائر عباد الله، إذن فليستبضع لنفسه كتابا أو كتابين من ذوات نصف القرش الملقاة في جوف الصندوق. وشاء القدر أو قل شاءت ربات الفنون أن يدلي الشاعر بيده في الصندوق؛ ليخرج بين أناملها كتابا من «الرباعيات» وقرأ الرباعية الأولى، فقطب جبينه في اهتمام ودهشة، وجعل يقرأ، فإذا الرباعيات كلها سحر وفتنة، وعز عليه أن يشتري نسخة واحدة من هذه الآية العصماء؛ فدفع للتاجر ثمن أربع، وأخذ من الكتاب أربعا!
كان هذا الشاعر المفتون بما قرأ من رباعيات الخيام، هو «روزتي». ذهب إلى داره فلم يستقر له على كرسي قرار، فقصد إلى شاعر صديق على غير موعد. - أي صديق «سونبرن»، خذ، يا صاح، فاقرأ!
وقرأ الشاعر «سونبرن»، ولمعت عيناه من عجب وإعجاب: أنى لك هذا الكتيب يا روزتي؟ - ابتعته من مكتبة هناك في ركن الطريق، ورأيته ملقى في صندوق هناك في ركن المكان! واشتريته بنصف قرش للكتاب الواحد؛ فاشتريت أربعة.
وهم «سونبرن» بالخروج ليشتري لنفسه كتابا، وأخرج مكنون جيوبه كلها سترة وسراويل؛ فلم يجد فيها نصف قرش؛ ذلك لأنه شاعر! فنادى الخادمة واستقرضها قليلا من قروش ومضى.
وأخذ الشاعران يتحدثان في الحلقات الأدبية عن هذا الكشف الأدبي العجيب، والعلم به يزداد انتشارا ويتسع نطاقا.
ودارت دورة الأعوام، وانقضى بعدئذ نصف قرن من الزمان، ومات الشاعر المترجم «فتزجرولد» كما مات من قبله الشاعر المبدع «عمر الخيام». وعندئذ أرسل محب للرباعيات خطابا إلى دكان الوراق، وكان يقوم عليه حفيد الوراق القديم، قال فيه: «ابعث إلي بنسخة كلما طبعت من رباعيات الخيام طبعة جديدة.»
Página desconocida