لقد تصور اليونان آلهتهم - أول الأمر - ذوي نزعات ومنازعات كالتي تحدث للبشر؛ فهي تلهو وتعبث وتغضب وتعبس وتعترك وتشتجر، وتحب وتكره وتنتقم. فلما نضج العقل اليوناني أبى أن يمضي في عبادة هذه الآلهة التي لا ترتفع عن مستوى البشر في دوافعها وأطماعها، واختاروا لأنفسهم بديلا لها، إلها عاقلا حكيما خيرا يدبر أمره تدبيرا محكما في إرادة صامتة؛ فلا ثرثرة ولا قهقهة ولا ولولة ولا بكاء. كذلك فعلت مع أصنامي التي عبدتها حينا، ثم حطمتها لما بدا أمام عيني صغارها.
ولم أتم بعد عملية التحطيم، لكني أخذت أتنفس الصعداء وأتنسم الهواء بقدر ما تم من تحطيم. لقد طالت عبوديتي وعبادتي حتى احلولكت نفسي بسواد سحيم، وها أنا ذا أرى شعاعا من ضياء يشرق في جنبات صدري بالقدر الذي خلصت فيه نفسي من ركام الأوهام.
حياتك - أيها القارئ - وحياتي مليئة بالأصنام نعبدها، عن وعي مرة، وغير وعي ألف مرة. إنها تحيط بك وبي، فهي عن أيماننا وشمائلنا وأمامنا ووراءنا، هي معنا في المنازل التي نسكنها، وفي المكاتب التي نعمل فيها، بل هي في رءوسنا نحملها أينما سرنا، كالذي يقال عن بعض رجال الجاهلية من أن الواحد منهم كان يحمل معه صنمه في ترحاله مصنوعا من عجوة البلح، حتى إذا ما استقر في مكان أكله. فاحمل فأسك - كما حملت فأسي - وابحث في رأسك، وانظر من حولك، وحطم الأصنام لا تخش بأسها؛ لأنها أضعف جدا مما ظننت بها؛ تذق لحرية نفسك واستقلالها طعما لذيذا.
الببغاء والقفص
أهديها إلى رجال المعارف بمناسبة موسم الامتحان. ***
قال الراوي:
وكان عارف باشا سمينا بدينا، انتفخ جفناه، وتهدل شارباه، وتورم صدغاه، انتشر أمامه بطن كبير، وامتدت وراءه أعجاز. إذا تكلم لا يبين لأنه يأكل أواخر الكلمات.
ولكن عارف باشا لم يكن كريها ولا ذميما، تنظر إليه فتبتسم ولا تدري لماذا تبتسم، ولعلها ابتسامة الحب الذي يخلو من كل تقدير وإعجاب. والحق أن عارف باشا جدير بحبك؛ لأنه طيب القلب إلى حد بعيد، تحفزه طيبة قلبه أن يعمل الخير، ثم يعينه على فعل الخير ثراؤه الضخم، وجاهه العريض، ونفوذه الشامل، لكنه ما أكثر ما يخطئ وما أقل ما يصيب.
جيء له يوما بطائر جميل الريش، رائع الألوان، سريع اللفتات، رشيق الحركات. وقيل له: هذا ببغاء يفصح البيان إذا ما تعلم نطق الكلام. فنظر عارف باشا ذات اليمين وذات اليسار وهو يفتر بثغره الواسع عن ابتسامة الدهشة والعجب، وقال: لأعلمنه نطق الكلام؛ لأرى كيف يفصح البيان! كم يكلفني هذا؟ وما سبيلي إليه؟
فأجابه من جاءه بالببغاء: أما التكاليف فلا يسأل عنها من كان في مثل ثرائك يا مولاي، وأما السبيل فلك أن تسأل عنها العلماء الراسخين، وإنهم بحمد الله لكثيرون.
Página desconocida