1
وفي نحو هذا الموعد من السنة، جاءني خطاب ينبئ بقبولي عضوا في لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان اليوم يوم أربعاء - فيما أذكر - وكنت ما أزال مترع الرأس بالأحلام، عامر القلب بالآمال الضخام في مستقبل تجيء أيامه مثقلات بالثمر!
قضيت عصر ذلك اليوم قلقا، أرقب غروب الشمس أو ما بعده بقليل؛ لأذهب إلى دار لم أكن قد رأيتها أبدا من قبل. 9 شارع الكرداسي، لجنة التأليف والترجمة والنشر التي أصبحت يومئذ واحدا من أبنائها! ترى كيف تكون هذه الدار التي تسكنها آلهة الأولمب؟ وكيف يمكن أن أكون واحدا من هؤلاء الجبابرة الذين يقبضون على ناصية الحركة الأدبية في هذا البلد؟ غدا ستذكر في المحافل كما يذكرون، وستعرف في الأوساط الأدبية كما يعرفون. أما والله إنه لحظ موات سعيد أن أجلس حيث يجلسون، وأبادلهم الحديث ويبادلون، سيعرفني أئمة الأدب وأنا بهذه المعرفة مجدود ...
قم الآن واذهب في ضوء النهار، لماذا ترقب ظلمة المساء؟ ... لا، بل اصبر هذه الساعات القلائل، لاتكن خفيفا أرعن. إنك اليوم عضو في هيئة من أعضائها فلان وفلان وفلان. وأمثال هؤلاء لا يتحركون من دورهم قبل غروب الشمس، من تظنهم يكونون؟ أتظنهم من أمثالك لا يعرفون في يومهم فرقا بين ظهر وعصر ومساء؟
وصبرت على جمرات من القلق حتى مضت ساعة بعد الغروب، وارتديت أحسن ما عندي من ثياب، وذهبت إلى 9 شارع الكرداسي ... كان الليل قد أظلم، وأنا أعلم من الوصف أن الطريق إلى دار اللجنة يبدأ قبالة قسم عابدين. فألفيتني هنالك أنحدر في طريق هابط مظلم. وبعد خطوات قليلة، رأيت بوابة ضخمة لا تبشر وراءها بعمران! فتثاقلت خطاي. أيكون هذا الفناء المظلم - يا رباه! - مهبط الوحي لأرباب الفنون؟! كلا، هذا محال، امض قليلا وسترى بناء يلمع بالضوء، ضوء المصابيح وضوء العلم على السواء، وسيكون ذلك هو 9 شارع الكرداسي، لكني ما مضيت عشرين خطوة حتى وجدتني محاطا بسيارات ضخمة قديمة بعضها كامل البناء، وبعضها منثور الأجزاء!
اللهم إني أعوذ بك من أشباح الشياطين! ماذا عسى هذا المكان أن يكون؟ ولم أكد أرى صورة رجل تنبثق من وراء كومة من العدد القديمة الملقاة حتى بلعت ريقا جافا، ونطقت بالشهادتين سرا، ثم حييت: السلام عليكم. - وعليكم السلام. - أين أجد لجنة التأليف والترجمة والنشر؟ - لجنة ماذا؟ - لجنة التأليف والترجمة والنشر، أما سمعت بها؟ - لا والله يا سيدي، لا تؤاخذني. - إنها 9 شارع الكرداسي. - آه، شارع الكرداسي! اخرج من هذه البوابة التي دخلت منها، ومل إلى يسارك.
وفعلت كما أشار. وأنظر إلى شارع الكرداسي، فإذا هو «حارة» تجمعت فيها ألوان كثيرة من الحياة البلدية، وأنقل بصري في لمحة من أول الشارع إلى آخره، فلا أجد بناء واحدا يلمع بشيء يمكن أن يكون ضوءا جديرا بأبناء الآلهة، جبابرة الأدب.
وبلغت 9 شارع الكرداسي، فإذا الواقع يصدم الخيال صدمة عنيفة قوية، أهاهنا إذن يقيمون؟ قل الحمد لله رب العالمين؛ لأن ذلك معناه تواضع فيهم. ابلع ريقك الآن رطبا طريا، واصعد الدرج، تجد من تجده منهم مستعدا للقاء العضو الجديد في ترحيب كريم، فلا يمكن لساكن هذه الدار أن يأخذه شيء من كبرياء، خصوصا إذا كان يستقبل زميلا جديدا.
وأخذت أصعد السلم، فمر بي رجل يهبطه، إنه لم يسأل من ذا أكون؛ لأنه بالطبع يعلم أنني الزميل الجديد، صعدت ودخلت مكتبا مقابلا. وحييت وجلست، ولم يكن في الغرفة إلا رجل يجلس إلى المكتب ووجهه إلى ورق أمامه، لم ينطق كلانا بكلمة مدى نصف ساعة أو نحوها، ولا دخل الغرفة في هذه الفترة إنسان. فاستجمعت قواي وسألت: أليس في اللجنة أحد من أعضائها؟ - لا، لكنهم قد يأتون غدا، الخميس، من ذا تريد؟ - لا أريد أحدا بذاته، أنا عضو في اللجنة جديد، أنا فلان. - تعال غدا، وقد تجد بعض الأعضاء. •••
ومنذ ذلك الحين، لبثت ما يقرب من سبعة عشر عاما أتردد إلى هذا البناء، 9 شارع الكرداسي ... ولست أريد أن أفيض القول هاهنا كيف وجدت الزمالة عسيرة الأسباب . إن آلهة الأولمب لا يهبطون من قمتهم الشامخة بما ظننت من يسر، إنهم أعضاء أسرة واحدة، لكنهم كجزر الأرخبيل، تقوم كل جزيرة وحدها ويحيط بها الماء من أقطارها جميعا. كلا لم أجد ما أوهمني الخيال عصر ذلك اليوم بأني واجده، لم أبادل الأرباب حديثا ولم يبادلوا، وجلست معهم لا كما يجلس الزميل مع الزميل. فكما اصطدم الخيال بالواقع صدمة عنيفة حين رأيت مهبط الوحي لأول مرة: أين هو وكيف يبدو، كذلك اصطدم الخيال بالواقع صدمة أشد عنفا لما تبينت أن الأرباب أشد من سواد الناس حرصا على أن يظل الأمر بينهم درجات، فلا يصغر الكبير من أجل الصغير، ولا يكبر الصغير ليستوي مع الكبير. وأوشك كل أن يضرب حول نفسه نطاقا من حراس وحجاب، حتى لا يظن ظان أن الملتقى سهل يسير.
Página desconocida