صادقته أيام الدراسة وما يزال أصدق الأصدقاء. لم تغيره أحداث الزمن مدى ربع قرن كامل؛ فهو وديع متواضع، تشيع في محياه معاني السكينة والسلام والاستسلام والرضا، وتلمع عيناه دائما ببريق فيه لمعة من البشر، ولمحة من عمق النظر. فما أعرف في الدنيا أحدا يجاريه أو يدانيه في اجتماع الذكاء النادر والخلق القويم؛ فقد أجد من معارفي الذكي الملتوي، وقد أجد منهم صاحب الخلق القويم الذي حرمه الله نعمة الذكاء النافذ. أما أن يجتمع الجانبان معا في شخص واحد؛ فأندر النوادر، وصاحبي هذا من الفئة القليلة النادرة.
في شخصه سحر عجيب يجذب إليه القلوب في غير مشقة ولا عسر؛ فما إن تهيئ لك الظروف اتصالا به بضع ساعات؛ حتى تهفو نفسك للقائه دائما. وإنك لتعجب أن ترى بين أصدقائه الموظف الصغير والمهندس والضابط والطبيب والمدرس، والمصري والأجنبي، والمثقف والجاهل، والمتفرنج والبلدي، والكهل والشاب. فإذا هو مع كل هؤلاء صديق وفي حبيب، لا يتكلف أبدا في حضرة أحد من هؤلاء جميعا، كأنما ركب طبعه من طباع مختلفات، يبدي منها أيا شاء في أي وقت أراد. ولعل السر في سحره العجيب هو البساطة الجميلة التي تطبعه من الألف إلى الياء، فلا تأفف ولا تكلف، ولا تأنق ولا تصنع، ولا عجرفة ولا تكبر، ولا تصغير لكبير ولا تكبير لصغير، كأنما خلق هذا الرجل ميزانا حساسا دقيقا للمواقف والرجال، يزن كل شيء بمثقاله؛ فلا حيف هنا ولا إسراف هناك.
كل شيء يبدو طبيعيا فيه، فإذا بدا في عينيك عظيما فلأنه عظيم، وإذا بدا صغيرا فلأنه متواضع متسامح كريم، صادق القول وصادق الطبع، لا زيف ولا خداع فيما يقول أو يفعل. وقد تضطره ظروف الحياة أن يخفي عن الناس أمرا من أمره. فعندئذ تراه يؤثر الاختفاء عن الناس حينا؛ حتى لا يتورط في كذب لا يتفق وطبيعته.
هو جاد إن أردت الجد، وهو هازل إن أردت الهزل، فليس فيمن أعرف من الناس أكثر منه جدا، وليس فيهم أكثر منه هزلا ومزاحا، متفائل دائما مستبشر دائما، ينظر إلى الجانب اللامع من كل شيء. فلو نظر الناس إلى كوب مليء إلى نصفه بشراب الليمون، وقال بعضهم متشائما: إن الكوب فارغ إلى نصفه، وقال بعضهم متفائلا: إن الكوب مليء إلى نصفه، كان هو في طليعة هذا الفريق الثاني. فهو سعيد بحياته سعادة الرجل القوي السليم المعافى الذي رزقه الله جهازا عصبيا أسلاكه من الصلب الصليب، لا تهزه العواصف القواصف؛ فقد تنزل الفوادح، وإذا هي على هذا الجهاز العصبي السليم توافه لا تلبث أن تمر وتمضي.
خرج صديقي هذا على بساطة طبعه مرة، أراد منها التفكه والمزاح، وذلك حين التقت جماعة الأصدقاء منذ قريب، كما تلتقي يوما من كل أسبوع، فإذا صاحبنا يخرج «سيجارا» ضخما طويلا، أشعله وراح يدخن، فضحكنا جميعا، وضحك هو مع الضاحكين. وسأله سائل: ما هذا؟ فأجابه ساخرا من الدنيا، أو إن شئت فقل أجابه فرحا بالدنيا: أفعل ما يفعل العظماء ...
ومضت بعد ذلك أيام، وجلست مع صديقتي، وأخذنا نفرع الحديث بيننا ونشققه، ثم سادت لحظة من صمت، طافت خلالها برأسي صورة صاحبي وسيجاره؛ فضحكت.
قالت: فيم تضحك؟
قلت: فلان وسيجاره.
ثم مضيت معها في الحديث حول هذا: لماذا نضحك من رجل إذا دخن السيجار، ولا نضحك من رجل آخر إذا فعل؟ وها هنا طاب لي أن أقسم الناس طبقات، جاعلا أساس التقسيم استعدادهم أو عدم استعدادهم لتدخين «السيجار».
قسمت الناس على هذا الأساس طوائف أربعا: طائفة يستحيل عليها أن تفكر في تدخين السيجار، بغض النظر عما لها من قدرة مالية. وطائفة ثانية تدخن السيجار فتزيد هيبة السيجار من هيبة وجوههم. وطائفة ثالثة تدخن السيجار فيذهب وقار السيجار بشيء في وجوههم. وطائفة رابعة تدخن السيجار، فإذا الوجه والسيجار متلائمان. لا يزيد الواحد من قدر زميله، كأنما خلق كل منهما للآخر.
Página desconocida