قالت: ولماذا لم تتحول عن ذلك الموضع إلى سواه؟
قلت: إنه يا صديقتي أمر عجب، أن يدرك الإنسان مدى إخفاقه في موضعه، ثم يستحيل عليه أن يتحول عنه إلى غيره، كأنما قد أصابه الشلل فلا يقوى على الحركة! وأعجب من ذلك أني إلى اليوم لا أقصد إلا إلى ذلك المورد من البحر كلما أردت صيده، أطرح الشبكة نفسها في المكان نفسه وأعود مثل ما عدت به من الصيد في كل مرة!
لكني فيما مضى كنت ألقي التبعة على الحظ الأنكد، كأنما هذا الحظ رجل من لحم ودم يضطرب معنا في سبل الحياة، فيعين هذا ويعرقل الطريق لذاك. فلما كبرت وازددت خبرة ودقة، أدركت أن تبعة الصيد الهزيل واقعة لا محالة على الصياد. فالشبكة من نسج يديه، وموضع الصيد من اختياره، إن هذا «الحظ» المسكين الذي نلطخه بأوحالنا، ونفرغ على رأسه قمامتنا، مظلوم مغبون. إنه بريء إلا بمقدار ضئيل جدا مما يصيبنا. ليتني أعرف أين يسكن هذا الذي ظلمه الناس وقسوا عليه؛ لأبعث إليه بقطعة من الحلوى اليوم، يوم ميلادي؛ تكفيرا عما ألقيته في فمه من حنظل مر في سالف الأعوام.
ثم ابتسمت لصديقتي وسألتها: ترى أين يكون موضعك أنت من هذه الأنواع المختلفة من الشباك والصيد؟
فقالت ضاحكة: نحن النساء لنا شباك أخرى وصيد آخر.
المئذنة والهرم
على مقربة من داري مسجد، مررت به ألوف المرات، ولم أصعد بصري إلى مئذنته مرة، حتى كان الأمس ... فقد كنت ماشيا أمامه ساعة العصر في طريق إلى غايتي، مطرق الرأس، مفكرا في هموم دنياي. وإن همومي لمن الصغائر الحقائر، وإن دنياي بأسرها لمن التوافه. وإذا بصوت المؤذن ينبثق من شرفة المئذنة صارخا: «الله أكبر.»
علوت ببصري إلى المؤذن عن غير عمد، لكني بعدئذ أمهلت الخطى عامدا. وأخذت أصعد نظري في المئذنة وأصوبه، وأدور به مع بنيانها حيث يدور. وأحاول جاهدا - ما استطاع بصري الضعيف الكليل - أن أرى ما ازدانت به المئذنة من زخارف ونقوش؛ لأنها في جملتها قطعة فنية جميلة، تراها قائمة كأنها العروس ازينت من رأسها إلى القدمين .
مضيت في طريقي، ولم تزل المئذنة ماثلة نصب عيني، ثم أخذت تتلاحق في ذهني خواطر تمت إلى المئذنة من قريب أو بعيد. وحمدت الله أن صرف عني بهذه المئذنة ما كان يضطرب به رأسي من وساوس وهموم.
كان طبيعيا أن تذكرني المئذنة بالإسلام، ثم بالعرب في فورتهم الجامحة. وذكرت فتح العرب لمصرنا فتحا جاءها كالموجة الكاسحة، فانتزع من أفواه الناس لغة قديمة ليجري مكانها لغة جديدة، واجتث من قلوب الناس ديانة ليبث فيها ديانة أخرى وليدة. وفي غمرة هذه الخواطر المنسابة سألت نفسي: ماذا لو لم تغزنا هذه الموجة العربية الثائرة الفائرة القوية العارمة؟ ولم ألبث أن همست لنفسي في دخيلة نفسي مجيبا: جاءنا الفتح العربي بالمئذنة ... وكان لدينا الهرم! فانظر ما تنطوي عليه المئذنة، وما ينطوي عليه الهرم؛ تر الانتقال من حال إلى حال كيف كان.
Página desconocida