Memorias de los Mártires de la Ciencia y el Exilio
ذكرى شهداء العلم والغربة
Géneros
كتاب ذكرى شهداء العلم والغربة
تمهيد
تواريخ حياة الشهداء
بعد وقوع الفاجعة
عناية الوفد المصري بالشهداء
قصائد مشاهير الشعراء في رثاء الشهداء
كلمات الكتاب في رثاء الشهداء
كتاب ذكرى شهداء العلم والغربة
تمهيد
تواريخ حياة الشهداء
Página desconocida
بعد وقوع الفاجعة
عناية الوفد المصري بالشهداء
قصائد مشاهير الشعراء في رثاء الشهداء
كلمات الكتاب في رثاء الشهداء
ذكرى شهداء العلم والغربة
ذكرى شهداء العلم والغربة
تأليف
فرج سليمان فؤاد
كتاب ذكرى شهداء العلم والغربة
أول كتاب من نوعه
Página desconocida
ما كدنا ننشر كلمتنا في الصحف العربية عن كتابنا شهداء العلم والغربة، حتى ورد إلينا من سائر جهات المدن والأقاليم ومن طلبة العلم في أوروبا الخطابات العديدة، التي تشف عن الإخلاص والحب لهؤلاء الشهداء، وتعرب عما تكنه قلوبهم من الأسى والحزن لفقد إخوانهم، الذين استشهدوا في سبيل العلم بصدمة القطار بين حدود إيطاليا والنمسا عند بلدة «مونتبا». وكل هذه الرسائل ملأى بتحبيذ عملنا تنشيطا لنا لقيامنا بوضع هذا الأثر الخالد لشهداء العلم الذين استشهدوا في سبيله.
وإن ما يراه القارئ الكريم هنا من كد القريحة، وسهر الليل، وما كابدناه في هذا السبيل لا نعده في نظرنا شيئا مذكورا بجانب واجب خدمة الوطن المفدى، عملا بالمبدأ الشريف «لا شكر على واجب ولا ثناء على إخلاص»، ما دام غرض العامل الجهاد في سبيل حب الوطن. وإنا نعتذر لحضراتهم لعدم نشر رسائلهم الخاصة بالثناء علينا، تقديسا للمبدأ الذي اتخذناه لأنفسنا دستورا، ونكتفي بذكر كلمتين لفاضلين من محبي الأدب على سبيل التحبيذ لهذا العمل والتشجيع الأدبي.
فقد أرسل إلينا حضرة الأستاذ الشيخ أحمد عبد الماجد، المدرس بمدرسة معلمات الإسكندرية، في 23 مايو 1920 خطابا صدره بهذه الأبيات:
يا جامعا شيم العليا وحافظها
أشبهت في جمعها الفتح بن خاقان
فذاك جامعها في أرض أندلس
وأنت تجمعها في أرض هامان
جاءت (قلائده) في الدهر واضحة
كأنها البدر في حسن وتبيان «والكنز» أنفس قدرا من قلائده
فكم به جوهر يهدى وعقيان «كنز ثمين» لنا قد صاغه «فرج»
Página desconocida
الوارث الفضل فينا عن «سليمان»
حاشاي أجعل في مكنونه خرزا
أو أن أشين لآليه بمرجان
وبعث إلينا حضرة الأستاذ الشيخ علي إبراهيم عيد الجيزاوي من خريجي الأزهر الشريف والتاجر بقنا بتاريخ 31 مايو سنة 1920:
أجل قمت ترعى الواجبات وليتها
فرائض فرد بل فرائض أمة
فحزت فخارا أنت أولى الورى به
وأنت خليق بالعلا والمبرة
وكيف وهذي مصر تهديك شكرها
وذا نيلها الميمون يثني بهمة
Página desconocida
يقولان حقا إنه «فرج» لنا
أمنا به دهرنا كل نكبة
جزيت عن الشبان خيرا ولا رأى
فؤادك مكروها فدم في مسرة
ومنه أيضا:
بلغت مكانا فوق ما يتصور
وأنت وايم الله لا شك أجدر
وجددت ذكرى سالفي عظمائنا
ومن هم على قيد الحياة يعمروا
وضعت لنا «كنزا ثمينا» نجله
Página desconocida
ويحفظ في طي القلوب ويؤثر
وبرهنت للأقوام أنك حاذق
وأن بمصر ناهضين يوقروا
علوا وتساموا في الحياة وجاهدوا
وحلوا محل النيرات فنوروا
وما هي إلا بكرة أو عشية
تمر بنا حتى نسود ونكبر
تمهيد
تمر بالأمم فترات من سبات عميق، لا تلبث بعدها أن تهز أعصابها يقظة عامة، تملأ جسمها نشاطا وحياة، وتدفع بها في سبيل الرقي. فهذه أمة اليابان المجيدة نهضت بعد طول خمودها، واشتعلت جذوة همة أبنائها بلهب من حرارة الوطنية الصادقة، فأدهشت العالم باستعدادها وقوتها ومنافستها التجارية، وغيرت فراسة الغرب في أمم الشرق. ولم يبعث فيها تلك الهمة وينفخ في جسدها تلك الروح غير رجل من رجالها العقلاء وحكيم من حكمائها النبهاء هو الإمبراطور موتسهيتو، الذي لو أتيح لكل أمة من أمم الشرق رجل مثله لكان العالم على غير ما هو عليه اليوم.
وفي خلال القرون يبعث الله الأمم أمة فأمة، كما بعث بولونيا من رمسها وأسلمها تاجها وصولجانها، فقامت وهي فتية وحديثة العهد بإعادة التكوين تريد أن تقهر حكومة سوفيت روسيا، وما ذلك إلا بدافع ما في نفوس أبنائها من الوطنية الصادقة والإخلاص المحض لبلادهم المحبوبة.
Página desconocida
ومن الأمم التي أراد الله لها النهوض في القرن العشرين أمتنا المصرية، فقد اندفعت في سبيل نهضتها الحديثة، تترنم بأناشيد الحياة، وتتطلع إلى تراث آبائها وأجدادها بروح ملؤها الإقدام والهمة. ولم تجد عدة لجهادها السلمي في سبيل حياتها خيرا من انتجاع موارد العلم الصحيح، وإرسال البعثات تلو البعثات تترى إلى منابعها في أوروبا، متتبعة في ذلك سنة منهض مصر العظيم المغفور له محمد علي باشا الكبير، الذي أزهرت رياض التعليم في عصره، وأينعت ثمارها بفضل يقظته وإقدامه، وبذله بسخاء على الإرساليات التي كان يوجهها إلى الغرب، وبفضل التعليم الإجباري المجاني الذي كان يساق إليه أبناء مصر من كل فج فيقبسون من نوره ليرشد بلادهم إلى طريق الحياة. وقد أثمرت مجهوداته تلك فكانت القوة والمنعة، والثروة التي لا تزال مصر راتعة في بحبوحتها إلى اليوم، وصارت في أيامه غنية بمصنوعاتها ومواردها. ولم يكن يعوزها شيء سوى أن تبعث بالطلبة ليرتشفوا من منهل كل فن وعلم، حتى إذا ما عادوا سلمت إليهم مقاليد الأمور، فكانوا من أشد العوامل على رقي الأمة.
وكنت ترى في البلاد كل شيء يسير في طريق النمو، فكان لمصر مدارس تفيض أنوار علومها، ومعامل تخرج منسوجاتها وعدة جيشها، وأسطولا يصون شواطئها، وجيشا يحمي ذمارها، فكان في البلاد حاجتها من الأطباء والمهندسين والمشرعين، بيد أن صعوبة المواصلات في ذلك العهد كانت سببا لعدم استمتاع سائر أنحاء القطر بما تتمتع به القاهرة والإسكندرية. وكان للوجه القبلي نصيب ضئيل من التعليم، ولم يكن يفد على القاهرة منه غير بعض الطلبة الذين كانوا يقبلون على المراكب النيلية إلى الأزهر الشريف للتزود من العلوم الدينية التي كان قاصرا عليها.
وظلت الحالة العلمية في البلاد تسير ببطء بعد عهد المغفور له إسماعيل باشا الخديو، الذي أسس مدرسة الأنجال التي كان التعليم فيها وقفا على أبناء الذوات والأعيان، ولم يكن لأبناء الفقراء غير الحسرة على حرمانهم من ذلك المورد العذب.
وانحطت حالة التعليم بعد ذلك انحطاطا مريعا لولا أن عني بعض الذوات بإرسال أبنائهم إلى أوروبا، وتضاعف الاهتمام بذلك حوالي عام 1908، ومنذ ذاك الوقت أخذت أنوار النهضة العلمية الحديثة تشع في أنحاء البلاد، وأخذ أعيان الريفيين يبعثون بأبنائهم، وينفقون في سبيل تعليمهم بسخاء حتى أصبحت البلاد ملأى بحملة الإجازات العلمية والدبلومات الدالة على النبوغ والتفوق. وكان أبناء مصر في بلاد الغرب مثال الذكاء والنشاط والاستعداد الفطري، حتى حازوا عاطر ثناء أساتذة كليات أوروبا وجامعاتها. وها هم اليوم أبناؤنا الذين عادوا إلينا يؤدون لمصر أجل الخدمات، ويبثون في نفوس ناشئتها روح النهوض والعلم الصحيح.
إن للشرق من تاريخه القديم ومجده الذائع الذي لم يقو الحدثان على إخفاء معالمه، ما يجعل أهله يرفعون برءوسهم تيها وإعجابا، وأبناء مصر أولى الشرقيين بذلك. وتاريخ مصر مفعم بصفحات الفخر، وحسبنا أن يكون آباؤنا القدماء أصحاب اليد الطولى على العلم، وحسب بلادنا أن تكون منهلا عذبا للواردين. وهذه عملية تحنيط جثث الموتى تشهد بذلك، فقد عجز علماء الغرب عن الوقوف على حقيقتها بعد إجهاد القرائح وكدها، مع تعرفهم ببعض مواد كثيرة من عناصر التحنيط. وهذا الهرم الأكبر يدل على تقدمهم في فن البناء، وما يستلزمه من العلوم الفلكية والهندسية، لأن وضعه يدل على المهارة الفائقة، وعلى سعة العلم وبلوغ العقل المصري مبلغا عظيما من التفوق والإحكام.
وهناك أيضا غير الهرم قصر «لابيرانتا» بالفيوم والكرنك بالأقصر وقصر أنس الوجود والعاديات والجعل الدقيقة الصنع التي تملأ دار الآثار في مصر وفي أوروبا، وكلها تدل على مدنية أجدادنا وحضارتهم.
ولم يكن ذلك فقط، بل كان للمصريين من الفتوحات وقهر الأمم ما يدل على قوة جيوشهم، وحسن عنايتهم بتنظيمها وتدريبها وإعداد عدتها، ولا ننسى الأساطيل المصرية التي كانت تخوض في أيامهم عباب بحر الروم وقد وصلت في عهد رعمسيس الأكبر إلى المحيط الهندي.
وكانت مصر في عهدها القديم ينبوع حكمة وفلسفة، استقى منها فلاسفة اليونان وحكماؤهم، وأطلق عليهم بذلك - وبغير إنصاف - آباء الفلسفة ومعلموها الأولون، وكان أساتذتهم المصريون أحق منهم بذلك وأجدر.
وكانت المرأة المصرية أيضا موضع احترام الرجال، وكانت حائزة لجميع حقوقها، وقد تولت الأمر وتربعت على دست الحكم، وكان لها النهي والأمر. ومما يدل على رقيها المدهش أن أحد علماء العاديات في إنجلترا حمل إحدى الموميات إلى لوندرا من مصر، ولما فض تابوتها واطلع على أوراق البردي الموضوعة مع جثتها وقرأها عرف من تاريخ حياتها أنها كانت من أعضاء نقابة «صناع الفطير». ومن هذا يتبين لنا أن المصريين سبقوا الغربيين في تأسيس النقابات وفي تقديس مركز المرأة في الهيئة الاجتماعية، وغير ذلك مما لم يصل علمنا إليه.
فنحن إزاء نهضتنا اليوم لتحصيل العلم إنما نعيد سيرة آبائنا الأولين، وسنرد مجدنا القديم الذي طويت صحائفه وكاد يودي به تأخرنا وتقاعدنا، وتركنا حبل شئون الحياة على غاربها.
Página desconocida
وليس يخفى فضل العلم في إحياء الأمم وجعلها موضعا للاحترام والتبجيل، وقد وجهت الحرب الحديثة نظر المصريين إلى تلك المخترعات العلمية المدهشة والأساليب الفنية العجيبة التي أظهرها الغربيون، ومنها تلك الطائرات التي كانت تحلق في الأجواء وتروع الطير في السماء، والغائصات التي كانت تسبح في جوف الماء فتفر منها الأسماك، والمفرقعات التي كانت تخر منها الجبال، والمدافع الضخمة والدبابات التي كانت تأتي على الحصون، والتلغراف والتليفون اللاسلكي الذي أدهش العالم بنقله الأصوات، والكهرباء التي تضيء بمجرد إدارة زرها، وحاكي الصدى، والسيارات، وغير ذلك من مدهشات القرن العشرين. وقد عرف المصريون بذلك فضل العلم فالتمسوا حياتهم من طريقه، ووجهوا بأبنائهم لموارده الصافية. فهم إن طلبوه اليوم فإنما يطلبون ما كان ميزة لأجدادهم من قبل، وكل من سار على الدرب وصل. (1) الهجرة في سبيل العلم
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «اطلبوا العلم ولو بالصين»، وقد حث بذلك على الجهاد والهجرة في سبيل العلم، ولم يكن في ذلك الوقت أبعد من الصين على طالبها، فكانت غاية مرحلة أهل الدنيا، وذلك لجلال العلم وتفرده بخلق حياة الأمم ورفع قيود الجهالة عنها.
وقد كانت المرأة المصرية فيما مضى من أيامنا الأخيرة جاهلة لا تعرف للعلم قيمة ولا معنى، فكانت تضن بفلذة كبدها على أن يحمل مشقة الهجرة في سبيل العلم ليعود إليها حيا بعد موته، وعالما بعد جهله، ونبيها بعد خموله، وقد كان يسرها أن يلبث بجانبها عالة على أهله وأمته من أن يرتحل عنها ليعود إليها عالما كبيرا. وكانت المرأة لها العذر في ذلك، لأن الظلام الذي كان مخيما على عقلها كان يحجب عنها نور الحياة، ولا تستطيع أن تصدر حكما على شيء لم تره بعينها. ومن نشأ في الظلام ألفه وأصبح لا يفرق بينه وبين النور، وحسبك بالخفاش مثلا.
أما اليوم فقد تنبهت المرأة وعرفت قيمة العلم، وملأ قلبها حب الوطن بفضل هذه النهضة الحديثة، فأصبحت تشارك الرجل في رأيه وجهاده وأمانيه القومية، وتبحث بنفسها وراء الطريقة التي توصلها إلى توجيه ولدها إلى الغرب ليتعلم ويعود فيكون رجلا نافعا لبلاده وأمته. وأصبحت ترى أكثر المصريات يعلمن أولادهن في المنازل، ويرضعنهم ثدي العلم والمعرفة، وينبهن قلوبهم الصغيرة، ويفتحن آذانهم لمعانيه الجميلة، ويوجهن بنفوسهم للهجرة في سبيله، ولذلك أخذت الأمة تصعد سلم الرقي ببركة تعليم المرأة، وبفضل معرفة الأمة قيمة العلم وأثره الجليل في حياة الشعوب ومنعتها.
والآن أصبح الرجل والمرأة سواء في سبيل تعليم الأبناء وتثقيف عقولهم، ليكونوا أساسا لتشييد مستقبل بلادهم وثمرة لذيذة تجنيها مصر من غرس يدها المباركة. وما دامت المرأة تعمل من ناحيتها والرجل يعمل من ناحيته، فلا تعجب إذا رأيت البلد تزدهر بشبابها والحياة تنمو بأرجائها، فإن البلاد جسم والشباب روحه، والعلم غذاء تلك الروح. (2) الجهاد العلمي
من دلائل نهضتنا الحديثة المباركة شغف الشبان بطلب العلم واهتمامهم بأمر مستقبلهم. والأمة التي تقدر شبيبتها العلم قدره وتجاهد في سبيله إنما هي أمة تشيد مستقبلها على أساس لا ينهار بناؤه.
ولقد أخذ الشباب المصري يهاجر من وطنه في الأيام الأخيرة مجاهدا في سبيل العلم، مستسهلا المصاعب، هازئا بالمتاعب، منبثا في أنحاء العالم، ضاربا بكل سهم في كل علم وفن وصناعة، مبرهنا على أهلية الأمة للحياة الحرة وعلى حبها للتقدم. وفي كل عاصمة من عواصم أوروبا وأمريكا وفي كل بلدة اشتهرت بشيء من العلم أو الصناعة أو الفنون تجد شابا مصريا مشمرا عن ساعد الجد منكبا على الدرس والتنقيب والبحث منصرفا بكليته للتحصيل، حتى تكاد تخاله جنديا في ميدان القتال ولا سلاح في يده غير القلم، ولا ذخيرة غير المداد والرغبة، ولا عدو غير الجهالة، ولا غاية غير العلم، والعلم باب لكل غاية شريفة، وعدة للحصول على كل أمل مفقود، والأمم التي لا تعرف قيمة العلم لا تعرف قيمة الحياة. ونصيحتي الخالصة لأمتي المحبوبة، أمة الأمس المجيد واليوم السعيد والغد المنشود، أن تجعل كل وجهتها في سبيل العلم وأن تجعل للصنائع المفقودة والفنون العالية نصيبا من جهادها العلمي، حتى تستكمل عدة نهوضها من كل ناحية فلا يشوبها نقص ولا يعتورها ضعف، وأن تجعل للآداب العالية والأخلاق الراقية نصيبا من العناية وحسن الالتفات، وأن يضاعف المجاهدون في سبيل العلم من شبابنا الحي الحريص على وقته جهودهم حتى لا تفوتهم ثانية من وقتهم الذهبي. وأما من لها واستكان إلى حظ نفسه فالأمة براء منه وحسبه الله في وقته الذي يضيع وزمنه الذي ينفق وعمره الذي يذهب سدى، ولله در أمية ابن الوردي حيث يقول:
حبك الأوطان عجز ظاهر
فاغترب تلق عن الأهل بدل
Página desconocida
فبمكث الماء يبقى آسنا
وسرى البدر به البدر اكتمل
في ازدياد العلم إرغام العدا
وجمال العلم إصلاح العمل
فاهجر النوم وحصله فمن
يعرف المطلوب يحقر ما بذل (3) سفر شهداء العلم والغربة
رأى شباب مصر بعد أن خمدت نار الحرب العامة أن بلاد الألمان مورد للعلم لا ينضب معينه فأزمعوا الرحلة إليها، ووصلت القافلة الأولى منهم بسلامة الله ثم بعثت بالرسائل تترى لتدل الأمة المصرية على قيمة العلم هنالك، فاستبق الشبان لانتجاع تلك الموارد الصافيات وأخذوا يزمون حقائب الهجرة، وهمت القافلة الثانية بالإبحار من الثغر الإسكندري في منتصف مارس سنة 1920 مزودة بالدعوات الصالحات من قلوب الآباء والأمهات وقد باركها الوطن المفدى. وأقلعت الباخرة «حلوان» تحمل أمانة مصر وفلذات أكبادها، والبحر إجلالا لهم في سكون إلا موجات تداعب الباخرة وهي تسير باسم الله مجريها ومرساها، حتى وصلت مدينة تريستا، ونزلت قافلة العلم إلى الساحل واستقلت القطار بعد منتصف ليل الجمعة 26 مارس قاصدة فينا. وقد اجتمع الطلبة المصريون في مركبة واحدة كانت قد أعدت لهم خصيصا وهي الثالثة في القطار، وكانت على رءوسهم الطرابيش، وعددهم نحو الثلاثين طالبا. وكان الجو صافيا والنسيم منعشا، ولم يكن يسمع في سكون ذلك الليل غير أحاديث سمرهم الشهية، وغير جيشان الآمال الكبار في صدورهم الفتية، ونفوسهم القوية، وكان النسيم يحمل تلك الأصوات ليهديها تحية عاطرة إلى مصر العزيزة.
ولما انبلج الصبح أخذ القطار ينساب بين الجبال الخضراء والمزارع البهيجة، والوديان المعشبة، والعيون المتدفقة، والطيور المغردة. وكانت قافلة مصر تكاد تتخذ من شغفها بالعلم أجنحة لتصل إلى بغيتها منه، لتعود إلى وطنها كما يعود الجندي الظافر من ميدان القتال، ولكن:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن (4) الفاجعة الأليمة
Página desconocida
بين تلك الآمال الواسعة وأحلام الشباب الجميلة حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد وقفت حركة القاطرة عند الساعة السابعة وهي تصعد مرتفعا من الجبل لتجتاز معبرا، ثم ارتجت رجة عنيفة انقبضت لها النفوس، ووقفت القلوب في الحناجر، وما هي إلا دقيقة حتى كان القضاء قد نفذ الإرادة الأزلية، ووقعت الفاجعة الأليمة، فسقطت الأمتعة التي كانت مكدسة فوق أرفف المركبة على رءوس الطلبة وأكتافهم وهشمت عظامهم ورضت أجسامهم الغضة وأذهلتهم حتى عن أنفسهم، وانطبقت جدران المركبة وخر سقفها، فأخذوا يستنجدون وما من منجد. وما كان آلم للنفوس من أب صحب ابنه في تلك الرحلة وقد حال القضاء بينهما، ولكن الأب استطاع وهو يجود بنفسه الأخير أن يخاطب ولده «عبد الحميد العبد» مشجعا ببضع كليمات شدت عزمه وفتحت له منفذا إلى الحياة، وقد ذهب «إبراهيم العبد» إلى رحمة ربه موقنا بسلامة ولده. وأخذ الطلبة يتبادلون كلمات التشجيع وأغمى على البعض وفاضت أرواح البعض، وكانت ساعة أشد هولا من سائر الساعات.
عند ذلك أقبل الناس فأخذوا يزيلون بقايا المركبة، ويخرجون الجثث التي كانت من ساعة مملوءة بالأمل والحياة، وهي بين ميت لا رجاء فيه وجريح يرجى شفاؤه، ومن سلم أكثر ممن أصيبت فيه مصر، وكان عدد المستشهدين اثني عشر طالبا، عوض الله مصر فيهم خيرا!
وقد كتب «عبد الحميد العبد »، أحد الذين قدرت لهم النجاة، يصف أسباب الفاجعة فقال: «كان قطارنا خارجا من نفق صعدا، يجتاز جسرا (كوبريا) على (نهر فيلا)، ولا بد له بعد اجتيازه من الدخول في نفق آخر، والمسافة تبعد نحو كيلو مترين من محطة (مونتبا)، فلم يكد القطار يعبر الجسر حتى صدم مركبتي بضاعة محملتين خشبا وكانتا قد انحدرتا من محطة (مونتبا) وخرجتا من النفق بقوة الانحدار. ولا تزال مسألة انحدارهما من المحطة سرا مجهولا، ويظنون أن لصوصا كانوا يحاولون سرقة ما فيهما من الخشب، والله أعلم. ولو حصل التصادم على الكوبري قبل أن تعبر القاطرة لما قوي على احتمال الصدمة، وكان انقلب وتدهور إلى أسفل الوادي، وارتفاع هذا الكوبري خمسون مترا. ومن غريب الصدف أن المركبتين السابقتين لمركبتنا لم تصابا بضرر يذكر، وأن المسافرين الذين كانوا فيهما نجوا من الموت، ومع أن مركبتنا جاءت بعدهما فقد كان نصيبها أن تتداعى جدرانها وينحط ما فيها على المسافرين، فيقضي على نصفهم تقريبا.»
هذا هو ملخص الفاجعة. ولا شك في أن مصاب مصر في هؤلاء الشهداء كان نكبة عظيمة، لأن الجهاد في سبيل العلم أفضل وأشرف من الجهاد في سبيل الحرب، ولأن الذي يجاهد في مقاومة عدو داخلي أعظم ممن يجاهد في مقاومة عدو خارجي، والجهل أشد فتكا بنفوس الأمم من كل عدو خارجي، ولا يمكن دفع العدو الخارجي إلا بمجاهدة العدو الداخلي أولا. ولذلك ما كادت تحمل الأسلاك البرقية خبر الفاجعة حتى عم الحزن وشاع الأسى، وانقلبت مسرة النفوس آلاما موجعة، وأخذ الناس يعزون بعضهم البعض، ولبس الشباب شارات الحداد. وسنأتي على وصف ما قامت به الأمة الإيطالية المجيدة من العطف والمواساة التي تذكرها لها مصر أبد الدهر. (5) مناجاة الشهداء
للأمم الناهضة كما للأفراد مفاجآت من الألم تتخلل لذة الأمل، تنزلها بها الأيام لتختبر صدق عزيمة أبنائها وتقف على مبلغ إرادتهم، وما في طوقهم من الشجاعة الأدبية والقوة النفسية، ومقدار جلدهم على الصبر في مكافحة الحوادث الطارئة، وفي تلك التجربة يكون برهان الأمة على مكانتها من العلم والرقي وموضعها من الحياة والأخلاق.
وتنزل النكبة بالأمة فتهز أعصابها هزا عنيفا، تكاد تنفطر له المرائر جزعا، وتنشق له الأكباد هلعا، وتطير منه النفوس حسرة، وتمزق القلوب لوعة. ولكن الأمة الحية الناهضة الصادقة في جهادها لن يكون هذا مظهرها مهما اشتد الأمر، وإلا لكانت مثلا يضرب للضعف والوهن، وإنما تلقى المصائب بصبر وأناة يهونانها، وتعمل جهدها لتتخذ من النازلة قوة، ومن الفاجعة حياة، وتستمد منها ما يعينها على المضي في سبيلها بشجاعة وثبات بين إعجاب الأمم وإكبار الشعوب.
وقد قضت المشيئة الإلهية أن تصاب مصر في رهط من فلذات أكبادها وجماعة من طلاب الحياة لها، تستقبلهم وهي تحمل شارات الحداد، وقد ملأ الأسى نواحيها، وارتدى شبابها السواد، وانطلق الحزن الصامت فما وجد بسمة في ثغر إلا وأطفأ نورها، خشوعا لجلال الفاجعة وألمها، وهيبة للإرادة الإلهية التي قدرت لمصر أن تصاب، وأشفقت بها فألهمتها من الرزانة ما يكفل لها الصبر الجميل.
أي أبناءنا الشهداء
لقد رفعتم مكانتنا أحياء وأمواتا، وجعلتم الأمم تبادلنا عاطفة الإخاء، وأكسبتمونا مودتها.
إنكم ذهبتم تحملون باقات الآمال الناضرة فأذبلها القدر في أيديكم.
Página desconocida
إن الموت أطفأ بكم اثني عشر كوكبا كانت سماء مستقبل مصر أحوج ما يكون إليهم، ولكنه أطلع في الأمة الناهضة بموتهم ألوفا، وزادها بفجيعتها فيهم إقداما وقوة ...
أي أبناءنا الشهداء
إنكم كنتم تريدون الحياة فلقيتم الموت، وكنتم تريدون للوطن الخير فأراد الله أن يحقق صدق نواياكم، فجعل لمصر الخير في حياتكم وموتكم.
لولاكم أيها الشهداء ما عرفنا مكانتنا من قلوب أمة الطليان المجيدة، لولاكم ما خرج أبناء تلك الأمة زرافات ووحدانا، نساء ورجالا، إلى ساحة أودين وهم يحملون أعلامنا وأعلامهم، ويمشون بباقات الزهر الجني ليشيعوا جنازتكم إكراما لمصر.
لولاكم ما وقف خطباء الطليان يذكرون مجد مصر ويترنمون بكرم مصر ويعزون مصر فيكم.
لولاكم ما فاضت أعمدة صحفهم بأنهر الإخلاص المحض، ولا حملت فضليات سيداتهم وأوانسهم الأزاهر تهديها لجرحانا، عربونا للصداقة المتبادلة التي تربط قلوب الأمتين، وإن كانت هذه شرقية وتلك غربية.
لولاكم ما رأى العالم تلك الشجاعة الأدبية النادرة التي أظهرها إخوانكم الذين أبوا أن يتخلفوا عن الهجرة بعد الفاجعة، وأبى عليهم إقدامهم إلا أن اخترقوا الطريق نفسه حبا في العلم والوطن، ولسان حالهم ينشد:
سأبذل في سبيل العلم جهدي
ولا أخشى منازلة الليالي
فإما والثرى وأصيب مجدا
Página desconocida
وإما والثريا والمعالي
وقد سمح الآباء لأبنائهم وهم حبات قلوبهم وأشطر أرواحهم، أن يسافروا وكلهم اعتقاد وإيمان بأن سلامة الوطن فوق سلامة النفس والمال والولد.
أي فخر يحمله آباؤكم وأمهاتكم أيها الشهداء اليوم، وهم يرون الأمة على بكرة أبيها من أمير ووزير وكبير وصغير تشاركهم الأسى، وتعقد الموكب الرهيب، الموكب العلمي التاريخي، الموكب الذي يشترك فيه الشعب لتمجيد ذكرى شهدائه؟
يا ليت لي ولدا بينكم أيها الشهداء!
طوبى للذين يموتون في سبيل العلم والوطن، فيحملون هكذا إلى مضاجعهم الأخيرة!
إن تاريخ مصر الحديث سيكون فيه صفحة من النور تحمل اثني عشر اسما لكواكب هوت من عالم الفناء لتتألق في عالم الخلود، وتلك هي أسماؤكم يا شهداء العلم.
فعزاء أيتها الأمة الناهضة في أبنائك البررة الشجعان المجاهدين الذين كانوا يحبونك ويخلصون لك، وفي سبيل حياتك تحملوا آلام الغربة، ومشقة الهجرة ومضاضة الفراق. وفي سبيلك استشهدوا، ليشهدوا الأمم على حياتك النامية وعزيمتك الماضية.
أما أنتم أيها الشهداء، فقد أديتم الواجب، ولن ينقص من جهادكم مباغتة الأجل، وكفاكم فخرا وإكبارا أنكم هاجرتم في سبيل العلم والوطن وقلوبكم مملوءة بالأمال لأمتكم والمحبة لوطنكم.
ناموا مطمئنين تحت ظلال الرحمة، فقد عدتم للأرض التي بارك الله فيها، الأرض التي تستريح فيها جنوبكم. ولتشهد أرواحكم على أننا لن نخلف ما عاهدتمونا عليه من متابعة السير بثبات وإقدام حتى تنتهي مرحلة الغرس ويأتي يوم الحصاد.
فناموا مطمئنين بجوار الله لتحيوا هناك حياتكم الروحية.
Página desconocida
طوبى لشهداء العلم والوطن! (6) الرابطة القومية
يضمنا وطن تدنو بنا لغة
يظلنا علم بالحق نرعاه
شهد العالم في تاريخ النهضة المصرية مشهدا رائعا من الارتباط القومي الذي جمع عنصري الأمة ومزج قلبيهما بعد سحابة صيف من التنافر أزجتها الأغراض السيئة، فما لبثت أن انقشعت من سماء مصر وعادت إلى القلوب موداتها. ولن ينخدع الشعب بالسراب مرة أخرى، لأنه عرف أن حياته في ارتباطه، وقوته في اتحاده، ونصرته في اجتماع كلمته، فكان كذلك وكانت آية نهضة مصر وشعار الحياة فيها.
وشاء الله أن تبعث هذه الأمة فتمكن الاتحاد من قلوب أبنائها، وجعله عقيدة راسخة إلى الأبد ورابطة لا يفصمها غير الموت، ورجع الأخ إلى أخيه ليبقي بيت أبيهما النيل وأمهما مصر عامرا.
والدين دين الله في ملكوته
والنيل للأقباط والإسلام
علم الشعب أن الدين عقيدة روحية، وأن الدين المعاملة، وأن الله لم يخلق الأديان لتفرق بين الناس، وأن المسجد معبد لله، وأن الكنيسة معبد لله، وأن الوطن للجميع؛ فاتخذوا دين عيسى ودين محمد عقيدة خاصة بالأفراد، وجعلوا دين الوطن عقيدة يشترك فيها الجميع ... ودين المسجد والكنيسة يحض على الفضائل وعلى الحب وعلى المساواة وعلى نبذ الرذيلة وعلى الإخلاص في عبادة الله وعلى معاملة الناس بالمعروف وعدم الاعتداء على حقوقهم.
ودين الوطن يدعو للعلم والعمل والشهامة والإقدام والاتحاد والنصيحة والاقتصاد والدفاع عن الشرف وحب الخير للوطن والعمل لرفع شأنه وتشييد مجده. ولقد ظهرت رابطة الشعب يوم تشييع جنازة الشهداء، فاشترك أبناء الوطن الواحد في المصاب العام، وسارت المواكب تتدفق لا يميز فيها بين الأخ وأخيه غير علم خاص يدل عليه. ولم يكن أشد أثرا في النفوس من مظهر الشيوخ والقساوسة، وقد ساروا مندمجين في بعضهما البعض، يرمزان للوحدة الوطنية والرابطة القومية كأنهما رقعة الشطرنج.
الصورة الرمزية للرابطة القومية
Página desconocida
وفي هذه الصورة الرمزية لمقابر الشهداء تجد رمز الاتحاد في الحياة وفي الموت، فإنك تجد المسجد مجاورا للكنيسة وتجد مقابر الشهداء الاثني عشر من مسلمين وأقباط ماثلة أمامك وعليها الألواح بأسمائهم وقد هبط ملك من السماء ليضع باقة من الزهر على تلك المقابر، وهي رمز للرحمة الإلهية الشاملة التي اختص الله بها عباده الشهداء.
وسيجد القارئ بين دفتي هذا الكتاب وصف مواكب الشهداء في الإسكندرية ومصر وطنطا ودمنهور وميت غمر، وصورهم، ولمعة من تاريخ حياة كل منهم، وما أقيم لرثائهم من الحفلات، وما كتبته عنهم الصحف، وما نظمه في فاجعتهم الشعراء، ونثره الكتاب؛ لتكون هذه الصحائف بمثابة ذكرى خالدة لجهاد مصر العلمي.
التمثال الرمزي لنهضة مصر لحضرة الأستاذ الفني الحفار الشهير ذائع الصيت محمود مختار أفندي
التمثال الرمزي لنهضة مصر.
وإنه ليبهج نفوسنا أن تكون أيامنا أيام نهضة قوية، وأيام إحياء لمفاخر أجدادنا وآثارهم الفنية الخالدة، وهذا الأستاذ النابغة المتفنن محمود مختار أفندي قد حفر لأبي الهول تمثالا جعله رمزا خالدا لهذه النهضة المصرية المباركة، فراقنا أن نزين به صفحات الكتاب وأن نضم إليه صورة حفارنا النابغة وأن نضيف إليه الأهرام ليكون رمزا تاما لمفاخر مصر القديمة ومفاخر مصر الحديثة. والله المسئول أن يكلل مساعينا لخدمة وطننا المحبوب بالنجاح، وأن يرزقنا الإخلاص وييسر لنا ما تعسر من أمورنا، إنه سميع مجيب.
فرج سليمان فؤاد
بمصر (7) حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون: رئيس شرف حفلة تشييع جنازة شهداء العلم والغربة بالإسكندرية
حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا.
أكلما ناب خطب قيل «يا عمر»
كأنما «عمر» من جنده القدر
Página desconocida
وكل خطب دجا يبدو له «عمر»
كأنه الشمس للآفاق والقمر
البدو تسأله والمدن تأمله
فيرتوي من يديه البدو والحضر
لو كان في زمن القرآن إذ نزلت
آياته أنزلت في مدحه السور
فلا عدمنا هبات منه واكفة
لم يسقنا مثلها من كفه المطر
إبراهيم سليمان
أحد علماء معهد الإسكندرية •••
Página desconocida
عندما طير البرق خبر الكارثة الأليمة المحزنة التي استشهد فيها اثنا عشر طالبا مصريا، قامت نخبة من أفاضل الأمة المصرية العاملين وقررت تشكيل لجنة لتشييع جنازة شهداء العلم والغربة في مدينة الإسكندرية، تحت رعاية صاحب السمو الجليل عمر طوسون باشا، وبرئاسة حضرة صاحب السعادة المفضال والشيخ الوقور أحمد يحيى باشا، وحضرة صاحب السعادة المفضال محمود باشا الديب وكيلا، وبعضوية حضرات أصحاب السعادة والعزة الأماجد عبد الله باشا الغرياني، ومحمد بك فهمي الناضوري، وعبد العزيز بك الحديني، ومحمد بك الكلزه، والسيد بك مرسي، ومصطفى بك الخادم، ورمضان بك يوسف ، وإبراهيم بك سيد أحمد، والدكتور أحمد عبد السلام، وسليمان أفندي أنطون، وعبد الحليم أفندي جميعي، وأحمد بك زكي، والدكتور ظيفل بك حسن، وفهمي بك غانم، وسعيد بك طليمات، وصادق أفندي أبو هيف؛ لأجل تنظيم وتنسيق جنازة شهداء العلم والغربة الطلبة المصريين المتوفين في حادثة صدمة قطار سكة الحديد بين حدود إيطاليا والنمسا ببلدة «مونتبا». فإزاء هذه الهمم العالية والأريحية لا يسعنا إلا أن نسدي حضرات أعضاء لجنة الإسكندرية الشكر الجم والثناء العظيم، وخصوصا صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون، وحضرة صاحب السعادة الشيخ الوقور أحمد يحيى باشا. وسنذكر تشييع الجنازة وما قامت به هذه اللجنة المباركة بالتفصيل.
واعترافا بما لصاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون من الأيادي البيضاء والمنن الغراء والمآثر الفيحاء على سكان وادي النيل؛ قد أتينا على لمحة من تاريخ حياته المجيد.
فذلكة تاريخية للأمير
لا نقصد من هذه اللمحة مدح الأمير فهو غني بصيته الذائع وشهرته الواسعة عن المدح والإطراء، ولكن اعترافا بشيم الأمير وشمائله العالية نكتب ترجمته للأمة والبلاد ليكون لها من تاريخ حياته الحافل بجلائل الأعمال نبراس يضيء لها طريق المجد الصحيح ومحبة الخير للخير. وفي اعتقادنا أن ترجمة الأمير أكبر درس للذين يرون في مجد الحسب والنسب كل الفخر، وفي المال الموروث عن الآباء والأجداد غنى عن كل منقبة تكسبهم مجدا جديدا وذكرا حميدا.
بسطنا هذه المقدمة ليعرف الأمير قصدنا من ترجمته، وأننا لم نعد ما في نفسه، ولم نتجاوز غرضه، وليكون القارئ على بصيرة من الغاية التي حدت بنا إلى ذكر هذه السيرة الشريفة.
مولد الأمير
ولد الأمير عمر بن طوسون بن سعيد بن محمد علي الكبير بالإسكندرية في 8 سبتمبر سنة 1872م، وتوفي والده وهو في السنة الرابعة من عمره فكفلته جدته لأبيه خير كفالة، وعنيت بتربيته هو وإخوته أجل عناية، فنبت نباتا حسنا وشب على الكمال خلقا وخلقا. ودرس مبادئ العلوم على أساتذة قصر والده إلى أن بلغ الحلم، فنزح إلى سويسرا ودرس فيها دراسة مستفيضة. ولما تخرج تاقت نفسه إلى السياحة ، فرحل إلى إنجلترا وفرنسا باحثا مدققا، معتبرا بما هنالك من تقدم اجتماعي وعلمي وصناعي وزراعي، ثم قفل إلى الديار المصرية حاملا بين جنبيه همة عالية ونفسا ذكية، وقلبا ألمعيا، وأدبا عبقريا. وهو يجيد اللغة التركية، والعربية، والفرنسية، والإنجليزية، قراءة وكتابة، ويشارك في مختلف العلوم مشاركة تدل على سمو مداركه، وسعة معارفه، وقد نال من الرتب والوسامات المصرية أسماها وأعلاها. واقترن بإحدى كريمات الأمير حسن باشا ابن الخديو إسماعيل، فرزقه الله منها النجباء والنجيبات من البنين والبنات، وسعادتهم بتثقيفه وتعليمه لهم تتفق مع سعادة طالعهم وتبشر بأنهم سيطلعون نجوم سماء ويسطعون كواكب علاء.
وللأمير ولع بالفروسية وكل ما يؤدي إليها، فلذلك كانت دائما جميع أندية الرياضة في البلاد ملحوظة بجميل رعايته، كمضامير السباق في الديار المصرية فهو رئيسها منذ أمد بعيد، ومن أكبر المنشطين لها، كما له ولع قديم بالصيد والقنص جعله من أمهر الرماة. واكتسب الأمير من وراء هذا الميل الغريزي فيه صحة ونشاطا، ينطقان بفوائد الرياضة بأفصح لسان، فهي لا تدخل في باب اللهو كما يظن عامة الشرقيين، بل هي إلى الجد أقرب لعودها على الصحة بأجل الفوائد، والصحة ملاك الحياة، وعليها ينبني العلم والعمل، وما يعمله الصحيح في يوم لا يقدر عليه السقيم في أيام، كما أن العقل السليم في الجسم السليم.
ومنذ بلغ أشده جعل نصب عينيه أن يقبض يوما ما على زمام دائرته ويدير شئونها بنفسه، فانكب على التمرن وكان من وقت لآخر يطوف مزارعه الواسعة، وينعم النظر في كتب الفلاحة، ويعنى بالوقوف على أسرارها وأصولها العملية، كما يعنى إذا رجع إلى ديوان دائرته بالشئون الإدارية والمالية، ولما كملت أهليته تولى أمره بنفسه، وقد أصبح الآن ممن يشار إليهم بالبنان في سعة الاطلاع على العلوم الزراعية والمعاملات المالية.
وعهدت إلى إدارته بعد دائرتان من أكبر الدوائر، وهما دائرة الأمير حسن باشا وزوجه الأميرة خديجة هانم، ودائرة الأمير محمد إبراهيم، فتبرع بإدارة شئونهما غيرة منه على مصالح المستحقين فيهما من أبناء أسرته الكريمة، وأبى أن يأخذ على ذلك أجرا، وطالما كلفه الطواف على مزارع الدائرتين ورعاية مصالحهما مالا، فتأبى نفسه الكريمة إلا أن يكون على حسابه الخاص، فهو يضحي بالكثير من وقته وماله في سبيل منافع بعض أعضاء أسرته شأنه في محبة الخير وإسداء النصيحة إلى القريب والبعيد. وقد بلغت الدوائر الثلاث بحسن إدارته أفضل المبالغ، وغدا مركزها المالي ثابتا على أقوى الدعائم، ونهضت بها عزيمته نهضة جعلتها في مقام رفيع.
Página desconocida
ومن وقف على حياة الأمير عجب أشد العجب من انكبابه على العمل دون سآمة أو ملل، فهو مع أعمال الدوائر العظيمة لا ينقطع عن القراءة والدرس في مكتبته الحافلة بالنفائس، وله غرام باقتناء كتب التاريخ والوقوف على آثار الأقدمين، ولا يخلو الكثير من أيامه من النظر في شأن هام أو دعوة لاكتتاب أو رياسة جمعية، كما لا يخلو شهر من سفره إلى ضياعه مرة أو أكثر، وقد يبقى في الأرياف أسبوعا لمشارفة الأعمال الجارية في أراضيه وأراضي الدائرتين الموكولتين إليه.
والأمير بعيد بفطرته السليمة وتربيته القويمة عما يغضب الله، وهو يكره الخمر ويكره شاربيها، ويعاقب من يعلم أنه يشربها من موظفيه أشد العقاب. ويجل الإسلام وأوامره، وإيمانه بالله عظيم، واعتقاده فيه راسخ. يعجبه من الناس الصدق والإخلاص ويقربهم إليه أكثر مما يقربهم جاههم ومناصبهم، ومحبته للمصريين تعدل محبتهم له، وهم في نظره سواء لا فرق بين مسلمهم ومسيحيهم. وكثير من موظفي دوائره من الأقباط، وبينهم من بلغوا مراكز سامية وتولوا المناصب العالية عنده، وفيهم سوريون وأجانب. وهو شرقي في أمياله، ويعتبر أن أكبر جزاء له من الأمة المصرية على التفاته السامي نحوها وعنايته التي يظهرها في ظروف مختلفة لصالحها؛ هو ذلك الحب الخالص الذي يتجلى لسموه في غدوه ورواحه، وعند كل فرصة تمكنها من إظهار ما تكنه لشخصه المحبوب. وفي أيام المظاهرات الوطنية الكبرى كان يقف الجمع المحتشد تحت شرفات دائرته هاتفا له داعيا، ولا ينصرف حتى يطل سموه ويحييهم، وكذلك حالهم معه في كل مشهد واحتفال.
بعض مآثر الأمير ومبراته
لا ينتظر القارئ أننا نحصي مبرات الأمير وأعماله العظيمة في هذه العجالة، وإنما سبيلنا في ذلك أن نلمع إلى بعضها إلماعا ونذكر ما حضرنا منها، ليقاس عليه ما غاب عنا، فكرمه الواسع لا تحضرنا عبارة تفي بالإفصاح عنه؛ فالحرب الطرابلسية إنما كانت مادتها ماله، ولو لم يسعفها بمعونته وجاهه ومبرته لما أمكن أهلها الدفاع عن حوزتهم بضعة أشهر، وكذلك حرب البلقان التي شبت نارها على أثر حرب طرابلس، فقد أقر فيها عين الدولة والملة، ورأس لجنة الإعانة في مصر فلبته الأمة والتفت حوله، وألف اللجان في المديريات والبلدان، وكان يستندي الأكف بنفسه ويخطب الخطب الرنانة في المشاهد الحفلة بالأمراء والأعيان فيجري النضار بين يديه سيلا متدفقا وهو يبعث به إلى الدولة تباعا.
ولقد عرفت الدولة العثمانية مواقفه العظيمة لها في مواطن كثيرة خصوصا في هاتين النازلتين وفي جمعية الهلال الأحمر، وأرادت أن تكافئه بالوسامات والرتب بل والولايات فأبى شاكرا وقال إني لم أفعل غير الواجب وليس على الواجب جزاء.
هذه اللمحة قطرة من بحر جوده الفياض. وقد جئنا على ترجمة سموه بتفصيل واف كاف وما قيل في سموه من القصائد الرنانة والخطب الغراء في كتابنا «الكنز الثمين لعظماء المصريين»، لأننا توجنا الجزء الثاني من هذا الكتاب بتاريخ حياته العاطر أدامه الله مدى الدهر عضدا للشعب المصري الكريم.
بقيت لنا كنزا ثمينا وعزة
تباهي بها أجيالنا بعد أجيال (8) ترجمة حضرة صاحب السعادة الوقور أحمد يحيى باشا
رئيس حفلة تشييع الجنازة بالإسكندرية لشهداء العلم والغربة
صاحب السعادة أحمد يحيى باشا من أعيان الإسكندرية.
Página desconocida
عظماء الرجال هم الأمثلة الحية لمعاني الإنسانية.
فالشجاعة، والحكمة، والتؤدة، والسداد في الرأي، والنبوغ في العمل، والتفاني في خدمة الوطن، وحب الخير لأبناء أمته؛ كل هذه المعاني الإنسانية وهذه المعاني السامية قد نراها مكبرة مجسمة حتى نكاد نبصرها بالعين ونلمسها باليد في عظماء الرجال.
تلك المعاني الشريفة وتلك الصفات الباهرة تتجلى في شخص حضرة صاحب السعادة الجليل أحمد يحيى باشا، رئيس حفلة تشييع جنازة شهداء العلم والغربة بمدينة الإسكندرية. فحياة مثله من عظماء الأمة يجب أن تكون أمثلة صالحة لكل من يريد أن يعبر سبل الحياة بنجاح. واعترافا بفضل هؤلاء الرجال نعطر صفحات هذا الكتاب بلمحة من تواريخهم بالإيجاز حسب ما يناسب المقام، ومن أراد أن يقف على جلائل أعمالهم فعليه أن يتصفحها في كتابنا «الكنز الثمين لعظماء المصريين»، بالجزء الثاني الذي سيظهر إن شاء الله قريبا في عالم المطبوعات.
مولده
ولد شيخ الوطنية الجليل أحمد يحيى باشا في يوم الجمعة 5 محرم سنة 1260ه، من والدين شريفين مشهورين بالمجد الأثيل والأصل النبيل والعز المنيع في مدينة الإسكندرية. وهو ابن السيد محمد يحيى ابن الحاج مصطفى يحيى الذي كان قاضيا بمحكمة الإسكندرية الشرعية، ومعروف بحسن استقامته وجميل نزاهته. وقد ورث الفضل عن أسلافه أبا عن جد، وكانوا جميعا من حملة الشريعة السمحاء، مشهورين بالتقوى والصلاح والأخلاق الفاضلة والشمائل الغراء.
وكان المرحوم والده باشمهندسا للترسانة أيام المغفور له «محمد علي باشا الكبير»، وهو من تلاميذ الإرسالية الأولى التي كان بعث بها محمد علي إلى أوروبا، والتي كانت مؤلفة من خمسة من أبناء وجهاء القطر، اثنين من الإسكندرية أحدهما السيد محمد يحيى، وثلاثة من القاهرة. وكان والد صاحب الترجمة قد لقنه اللغة الطليانية فضلا عن العلوم الابتدائية، فساعده ذلك على سرعة تعلم اللغة الفرنسوية في فرنسا، حيث كان نصيبه تلقي العلوم البحرية بها في مدينة «طولون»، فلما عاد إلى وطنه - كما تعود الوديعة لصاحبها سالمة - ألحق بالترسانة، ولم يزل يرقى فيها حتى بلغ درجة باشمهندس في الترسانة، فلما انتقل المرحوم «محمد علي باشا» إلى رحمة الله وتغيرت حالة الترسانة تركها واشتغل بالتجارة.
حياته الدراسية
تلقى صاحب الترجمة أحمد يحيى باشا العلوم الأولية بمكتب الشيخ محمد أبي النصر بالإسكندرية، وحفظ على شيخه المذكور القرآن بتمامه وجوده تجويدا حسنا، وأتقن علم الحساب. فلما بلغ الثانية عشرة من عمره اشتغل مع المرحوم والده في محل تجارته فأتقن علم الحساب التجاري، واستنجبه والده ففتح له محلا تجاريا في سنة 1275ه لتجارة الأجواخ والحرائر والأصواف وما شاكل ذلك. ولم يمض على اشتغاله بمحل تجارة والده سوى تسع سنوات وتوفي والده، فانفصل صاحب الترجمة عن إخوته وانفرد بمحل تجارته على حدة.
شهرته التجارية
ولما اشتغل بإدارة محل تجارته على حدة كثرت أعماله واتسعت دائرة علاقاته، وعرف بين الناس بالاستقامة والنشاط والمقدرة والكفاءة. ونبغ في سائر فروع الحياة العملية، لأن الله قد من عليه بعقل راجح وجنان ثابت حتى وثقت به دوائر الحكومة، فكان ينتدب لعضوية المجالس بالمحاكم المختلطة والمجالس الحسبية ومراجعة عوائد الأملاك ونحوها مع استمراره على مباشرة أشغاله التجارية الواسعة. وما زال كذلك حتى اعتزل التجارة وتفرغ لأملاكه الواسعة بالمدينة، ولكنه استمر مثابرا على مباشرة الشئون العمومية، فنال فيها ثقة مواطنيه لما له من الخبرة وقوة العارضة والمقدرة على خدمة مواطنيه بما يذكره له التاريخ أمد الدهر. وقد انتخب عضوا بمجلس بلدي الإسكندرية، ومجلس شورى القوانين، وانتخب رئيسا لجمعية العروة الوثقى خلفا لصاحب الدولة محمد سعيد باشا. واعتنى كل الاعتناء بتربية نجليه الكريمين حضرتي صاحبي السعادة أمين يحيى باشا وعبد الفتاح يحيى باشا وكيل وزارة الحقانية، وهذه أكبر خدمة للأمة التي يقوم سعادتهما بخدمتها وينسجان على منوال أبيهما في عمل الخير والمعروف، و«من شابه أباه فما ظلم».
Página desconocida
وقد يرى القارئ الكريم هذه الأعمال بالتفصيل في الجزء الثاني من كتابنا «الكنز الثمين لعظماء المصريين»، وهذه لمحة وجيزة ذكرناها للأمة من تاريخ حياته المجيد.
اهتمامه بحفلة تشييع جنازة شهداء العلم والغربة
وقد اهتم حضرة صاحب الترجمة بتنسيق وترتيب حفلة تشييع جنازة شهداء العلم والغربة في مدينة الإسكندرية اهتماما عظيما، حتى كان يخيل للإنسان أن المدينة وشوارعها ومنازلها لابسة ثوب الحداد على أولئك الشهداء الأطهار البررة. وسار الموكب بين التجلة والاحترام كأن على رءوس المشيعين الطير، وذلك بفضل همة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا وصاحب الترجمة وحضرات أعضاء لجنة الاحتفال. وسترى تفصيل تشييع هذه الجنازة في غير هذا المكان.
تواريخ حياة الشهداء
لقد كانت حياة الشهداء كأعمار الزهر أو كالفجر البهيج، وكانوا كالأنجم التي لاحت في سمائها، وما هي إلا أن تلألأت فأضاءت ما حولها فهوت في ظلمات الأبدية. وقد جاء أولئك الشهداء إلى العالم ليعطروا نواحيه بتلك الأيام القلائل التي أقاموها بيننا ثم استردتهم السماء وتركت أجسادهم في ثرى مصر لتعطر بهم موقف الحشر في يوم البعث العظيم.
المرحوم أحمد طلعت أسعد من القاهرة.
بيد أن تلك الأعمار القصيرة لا تخلو من حسنة تذكر فتؤثر من ناحية الاجتهاد في تحصيل الدرس ومن ناحية مكارم الأخلاق، ولهذا نسوق هنا لمعة من تاريخ كل من شهدائنا ليكون مثلا صالحا لمن يطلع عليه من الشباب المصري المبارك، وليكون أيضا تذكارا خالدا لأبنائنا الذاهبين. (1) ترجمة أحمد طلعت أسعد (1-1) مولده
ولد الشاب الذكي المرحوم أحمد طلعت أسعد بمدينة الزقازيق في 11 أغسطس سنة 1902م، وهو نجل المرحوم محمد بك أسعد الذي كان مأمورا بالدائرة السنية. وتوفي والده وهو في سن الحادية عشرة، فتكفل بتربيته حضرة عمه صاحب العزة القائمقام أحمد بك أسعد وتبناه هو وإخوته الثلاثة، وكان الفقيد أكبرهم سنا وأشغفهم بطلب العلم والتطلع إلى الآمال الكبيرة، وتوسم مربيه فيه النجابة فلم يقصر في الإنفاق عليه والعناية بتربيته وتهذيبه. (1-2) دراسته
عندما بلغ الفقيد السن التي تؤهله لتلقي مبادئ الدراسة أدخله والده في سلك تلاميذ المدرسة المحمدية الأميرية، فكان مثال الفطنة والنجابة والنشاط، وقد لبث بها حتى حاز شهادة الدراسة الابتدائية. ثم التحق بمدرسة الإلهامية الثانوية، فكان موضع إعجاب أساتذتها واحترامهم، وكانوا يظهرون له شيئا من العطف ويتنبئون له بالمستقبل الزاهر. وكان على جانب عظيم من الأخلاق الطيبة والآداب العائلية العالية، وكان شفوقا بأشقائه شديد الإقبال عليهم بما يملأ نفوسهم مسرة. وكان كل همه أن يكون ذا مركز في الهيئة الاجتماعية يمكنه من خدمة وطنه ومن العناية بإخوته.
وبعد امتحانه في شهادة الكفاءة رغب في الالتحاق بمدرسة المحاسبة والتجارة المتوسطة، ولم يتح له نشاطه إتمام دراسته بها لأنه كان يتوق من العلم إلى ما ينقع غلته ويشفي نفسه الطموح بالمجد الشغوف بالعلاء التواقة إلى موارد العلم العذبة فانضم إلى الطلبة المسافرين إلى عاصمة الألمان للدراسة، ولم يسعفه الأجل فاستشهد قبل أن يصل إلى بغيته ولم يكن يبلغ من العمر أكثر من سبعة عشر ربيعا، وقد ترك إخوته يندبون شبابه، ومربيه يندب نجابته وذكاءه، ووطنه يندب مستقبله ويبكي منه شابا لو عاش لكان رجلا نافعا ووطنيا مخلصا، فرحمه الله رحمة واسعة وأنزله منازل الأبرار الأتقياء وعوض إخوته ومربيه فيه خيرا! (2) ترجمة علي حسن البكري (2-1) مولده
Página desconocida
ولد شهيد الهمة والإقدام فقيد الشبيبة المصرية علي حسن البكري في اليوم السابع والعشرين من شهر يوليو سنة 1899 بمدينة دمياط، وهو نجل صاحب العزة الوجيه حسن بك البكري نجل المرحوم نعمان بك البكري سر تجار مدينة دمياط. ونشأ في مهد العز والرفاهية، متحليا بالآداب العائلية العالية والأخلاق الفاضلة اللائقة بشرف بيته الكريم ونسبه الطاهر. (2-2) دراسته
شب الفقيد على حب الدرس والمذاكرة، وما كاد يبلغ السابعة من سني حياته حتى أدخله والده مدرسة الكتبي الأولية ثم مدرسة دمياط الأميرية، فكان لا يألو جهدا في مسابقة إخوانه والتفوق عليهم في الترتيب المدرسي حتى نال شهادة الدراسة الابتدائية سنة 1914م وكان في أوائل الناجحين. ثم سافر إلى الإسكندرية فالتحق بالمدرسة العباسية الثانوية، ثم انتقل طلاب تلك المدرسة أيام الحرب العامة بأمر وزارة المعارف إلى مدرسة طنطا الثانوية ومنها حصل على شهادة الكفاءة سنة 1916م، ولبث مستمرا على إتمام دراسته بها حتى حاز شهادة الدراسة الثانوية عام 1919م. وكان يميل إلى تلقي علم الطب ليخفف ويلات الإنسانية، ولكنه لم يوفق للالتحاق بمدرسة الطب المصرية للحالة الاستثنائية المتبعة في قبول الطلاب فيها، ولذلك عول على دخول مدرسة الهندسة مخالفا بذلك ميله الطبيعي لدراسة العلوم الطبية.
المرحوم علي حسن أفندي البكري من دمياط.
ولما سهل الله طريق السفر إلى بلاد أوروبا عاود الفقيد غرامه بدراسة الطب، واهتاجه للهجرة إلى ربوع العلم في بلاد الألمان تهافت الطلبة على السفر وعرض عليه الاشتغال بالتجارة ولكنه أصر على طلب العلم فلم يسع والده إلا تحقيق رغباته وإعداد ما يلزم لرحلته من مال ومتاع.
وقد أصيب - رحمه الله - بمرض عضال قبل سفره بأيام قلائل ، فخشي أن يتشبث والده بمنعه عن السفر ويتخذ من مرضه ذريعة لذلك، فتصنع العافية وجالد مرضه بصبر يدل على صدق عزيمته وقوة إرادته، ولم يعلم بمرضه غير طبيبه الذي كان يعوده ويقوم بمداواته.
وسافر الفقيد مودعا من أهله وأصدقائه، واستقل الباخرة حلوان ميما تريستا، وما كاد يصل نبأ وصوله وتنتهي الألسن من حمد الله على سلامته حتى جاء خبر النعي الذي أصم الآذان وروع القلوب وأذهل النفوس.
وما كاد يذاع الخبر في القاهرة حتى أقيم المأتم في منزل والده الأسيف بالمنيرة، وتوافد عظماء البلد إلى تعزيته. وجاء صاحب العزة محمود بك رسمي محافظ دمياط، وعدد كبير من أعيانها ووجهائها خصيصا لتقديم مراسم التعزية، وأنابت لجنة الوفد المركزية الأستاذ محمد بك يوسف المحامي لتخفيف وقع المصيبة على نفس ذلك الوالد المحزون. (2-3) حفلة تأبين الفقيد بمدينة دمياط
رأى أهالي مدينة دمياط تخفيفا لمصاب عائلة الفقيد وقياما بحق مواطنهم عليهم أن يقيموا حفلة رثاء عامة له برئاسة سعادة المحافظ، وحددوا لذلك يوم الجمعة 10 أبريل سنة 1920م بمسجد الأستاذ البدري، وما كاد يوافي الموعد المضروب حتى غص المسجد بأعيان البلد وكبار موظفيها وتجارها، وكان في مقدمتهم سعادة المحافظ وسعادة عبد السلام بك العلايلي عضو الجمعية التشريعية، وفضيلة القاضي الشرعي وغيرهم، وكانت صورة الفقيد مكبرة وموضوعة في صدر المكان.
وافتتحت الحفلة بتلاوة آي الذكر الحكيم، وكان الجميع كأن على رءوسهم الطير من الخشوع لجلال الحزن ورهبة الموت. ثم نهض الطالب الذكي محمد أفندي إسماعيل خفاجي، فألقى كلمة أفاض فيها القول على همة أولئك الشبان وإقدامهم ومحبتهم للعلم، وترحم عليهم. ثم تلاه الأستاذ محمد بك يوسف المحامي والعضو بلجنة الوفد المركزية، فارتجل خطابا مؤثرا أبن فيه الفقيد وأظهر فداحة مصاب مصر في أبنائها الشهداء. وقام بعده الأديب عزيز أفندي يوسف فنسج على منواله، ثم تلاه الكاتب الشاعر الأديب عباس أفندي شوشة فألقى هذه الخطبة الشائقة:
مراثي الشعراء والكتاب في حفلة تأبين المرحوم علي حسن بكري
Página desconocida