على أن هناك محاولات جديدة في العهود الأخيرة ترمي إلى الجمع بين الصورتين بحيث تستوعب نفحات العاطفة ثمار العقل عند التعبير الشعري. ومعنى هذا أن تتحول الفلسفة والحكمة والعلم إلى إيمان صادق في نفس الشاعر فتتمثل في شعوره ونظمه. وهذا لن يكون بطبيعة الحال تعمدا عن طريق الصناعة، وإنما يكون حيث يوجد الشاعر الذي له بطبيعته وتربيته هذه النزعة فتصير عواطفه وإيمانه وعلمه وفلسفته وحدة تكاد لا تقبل التجزئة.
فأما مثال «الشعر الصافي» فتجده عند أبي نواس وابن خفاجة وشلي وكيتس ووردزورث مثلا، وأما «الشعر العلمي المنطقي» فأظهر أمثلته بيننا شعر الأستاذ الزهاوي. وأما شعر «العاطفة الفلسفية» التي تقدم لك إحساسا صادقا تمتزج فيه نوافح الوجدان بأحكام العقل امتزاجا شائقا مقبولا؛ ففي أمثلة مختارة من شعر أبي العلاء المعري وشعر المتنبي، ولعل أخلد الأمثلة لذلك دالية أبي العلاء المشهورة.
وفي رأيي أن هذا النوع الأخير من الشعر لا يقل سموا عن «الشعر الساذج الصافي»، وربما جاز لنا أن نعده أسمى أنواع الشعر؛ بل شعر المستقبل. ولما كان الشعر «كالأدب عامة» نقدا للحياة لم يكن من الغرابة ولا من المجازفة أن نقدم هذا الرأي حينما نلحظ متجه التطور للعقل الإنساني.
وبين أعلام أدبائنا من لا يرضيه ظهور هذه النزعة في الشعر الإنجليزي وفي الشعر العربي الجديد ويؤثر الشعر الفرنسي عليهما، وبينهم من يرى أن الشعر ينبغي أن يكون قصرا على الظرف واللهو والمداعبة والاستهتار أحيانا. ولكننا لا نعرف أن الحياة هي هذا وحده، ولا نرى الشعر الذي يقتصر على هذه النماذج شعرا جامعا سواء في روحه أو مشتملاته، ولا يكفيني أن يكون الشاعر مصورا، ولا يرضيني أن يكون حاكيا وإنما يعنيني أن يكون أيضا خالقا لمثل أعلى، وهذا ما ينقله توا إلى دائرة الفيلسوف. على أني - مع اعترافي بذلك - أكرر أن الشاعر الفلسفي النزعة الذي لا تخاصم عواطفه عقله، والذي يرضى عقله أن يعهد إلى العواطف في أن تعبر عنه بلغتها، هو أسمى الشعراء على الإطلاق.
وإذا آمنت معي بهذه النظرية لم تجد مانعا لأن تهضم الحقيقة الشعرية أية حقيقة علمية. وهذا الأستاذ ترفليان صاحب كتاب «تاميرس
Thamyris » لا يرى ما يمنع هضم الزراعة والهندسة والطب ونحوها في الشعر، فالعبرة في كل ذلك بتأثر عواطف الشاعر بكل هذا ثم بطريقة أدائه، وهل هو يجعل من العلم شعرا، أم يجعل من الشعر علما. وهذا شوقي بك نظم كما نظمت في تربية النحل فكانت قصيدته المشهورة في هذا الموضوع من أجمل وأنفس شعره.
وكما أن خصب التربة شرط أساسي في مقدمة العوامل لحسن إنتاجها، أو كما أن لكل تربة ما هو أصلح لها من غرس، فكذلك لا ينتظر أن يثمر أي نوع من الشعر بدرجة واحدة في كل ذهن، بل لا عجب إذا رفضته بعض الأذهان. وقبول الشعر هو أثر لنوع من الإيحاء، وليست كل النفوس سواء في التأثر بإيحاء بعينه؛ ومن ثم كان من العدل أن لا تلقي العيب على الشعر وحده إذا لم يكن له أثر محسوس في بيئة معينة ليس لها الاستعداد الكافي للتأثر به وإن كانت لها القابلية للتأثر بسواه، فهذه كلها أمور نسبية ليس من الحكمة والصواب أن تكون موضع الجزم والحتم.
ومما يشرف الشعر أن يمثل بيئته أصدق تمثيل ولا يكون في مجموعه غريبا عنها، ولكن مما يزيده شرفا أن يمثل في نواح منه الحقيقة الإنسانية الشاملة وأن لا يكون مجرد مرآة بل روحا خالقة حافزة إلى جانب ذلك.
وقد أشرت غير مرة إلى «الحقيقة الشعرية» كشيء يختلف عن «الحقيقة العلمية» وأراني مطالبا بشيء من التفسير، فأقول إن «الحقيقة العلمية» تحتم التعريف الصادق منطقيا وواقعيا، بينما «الحقيقة الشعرية» لا تحتم إلا صدق الخيال والإحساس. ومن الجائز أن يقول شاعر مريض أو سليم شعرا لا يمكن أن يوافق أبسط مبادئ العلم أو المنطق أو يكون كله شذوذا عجيبا ، ومع ذلك نعد هذا النظم ذا «حقيقة شعرية» لأنه يعبر في صدق وإخلاص تام عن نفسية ذلك الشاعر في ظروف خاصة، ويمثل حقا وحدة العواطف والإيمان الذي في لبه. ومن أجل ذلك أميل إلى الاستعانة بعلم النفس في نقد الشعر فهو أولى من سواه من العلوم الشكلية في تحليل وتقدير لغة النفس وصورها.
ويميل بعض النقاد إلى النظر في مسألة الإنتاج الشعري نظرة فلسفية، ولا بأس بذلك. ومعظمهم يرى أن الإقلال أنسب للإتقان الفني في الشعر. أما أنا فرأيي الخاص هو أن الشاعر المطبوع مكثر بفطرته وليس مقلا، فإذا لم يظهر له شعر كثير فليس هذا مما يناقض نظريتي، بل يكون معناه أن شعره محول إلى منافذ أخرى في حياته، فقد يكون لهوا أو رياضة ذهنية أو رقصا أو عزفا أو غير ذلك، وهكذا تتخذ قوته الشعرية مظاهر مختلفة وربما لم يكن سبب لذلك سوى تهيبه النظم وانصرافه عنه لعوامل اجتماعية أو شخصية. ومن شيوخ شعرائنا المطبوعين الذين نبذوا الأحجام شوقي ومطران، وهما من أكثر الشعراء إنتاجا، وكأنما المرانة قد ساعدت على إنضاج مركز الطبع الشعري في ذهنيهما، فأصبحا تحت تأثير فسيولوجي لا يهدأ وهو ذو مستوى خاص في كل منهما لا يضعفه غير الكلال، فلا يفسد قيمة إنتاجهما الإكثار ما دام ذلك طبيعيا، وعندي أن الإقلال المصطنع لا يقل سوءا وقبحا عن الإكثار المصطنع، وإنما الجمال يكون في إطلاق النفس الشاعرة على سجيتها.
Página desconocida