إهداء الديوان
تصدير
إلمامة
شعر الديوان
نقد وملاحظات الشعلة
إهداء الديوان
تصدير
إلمامة
شعر الديوان
نقد وملاحظات الشعلة
الشعلة
الشعلة
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
إهداء الديوان
اثنان هذا الشعر تحفل روحه
بهما: حنانك أنت ثم حناني
رددته نغم الحياة، فإن نأت
بنواك عاد نشيده فرثاني
فإذا ابتسمت فكل شعري خالد
وإذا عبست فكل شعري فان
أبو شادي
تصدير
أكثر هذا الشعر قديم وأكثره لم يسبق نشره. جرى به اللسان طوعا لمناجاة النفس في ظروف متعددة يشملها الاضطراب والثورة الفكرية والسياسية، فما يدعو إلى نشره الآن سوى حب المشاركة الروحية لمن شاء من الأدباء أن يجلس إلى هذه المائدة المعنوية التي تجمع ألوانها بين الغذاء الدسم والفاكهة، وبين الحلوى والدواء المر، مقرونة بأخلص صلواتي الروحية. وشجعني على ذلك أن مختارات من هذه القصائد - وأخص بالذكر الوطنية والاجتماعية منها - منسوخة ومتداولة بين الأدباء لما فيها من صدى نفوسهم الحزينة وشعلة آمالهم ومرارة قنوطهم في هذا العهد الصاخب بالتيارات المتناقضة.
وقد حرصت على استبقاء نصوصها الأصلية إرضاء للناقد الأدبي الذي يسره متابعة التطور في ذهنية الشاعر وعواطفه وأسلوبه وتفاعله الأدبي والفكري مع بيئته، وإرضاء لذكرياتي ووجداني وشعوري حينئذ. وهي أول ما يعنيني إن لم تكن في الواقع كل ما يعنيني إرضاؤه.
وقد أسميت هذا الديوان «الشعلة» إذ وجدت شعره أبعد ما نظمته نفوذا وهداية وتأثيرا بين شعري الوطني والاجتماعي، وقد جاء في دور انتقال والنفوس جامحة والخواطر مضطربة والحريات معطلة. ولم تسمح الظروف بطبعه من قبل لاعتبارات سياسية، ولكن ذيوع جانب من شعره بين الجمهور المثقف كان برغم ذلك عظيما إلى حد أن نسبت غير واحدة من هذه القصائد إلى بعض الشيوخ من شعرائنا المعروفين وأخص بالذكر قصيدتي «الناسخ والمنسوخ» و«اليد النكراء».
وقد نشأت هذه الحركة في البيئات المدرسية أولا حيث كان لمطابع الفالوذج دور مستور في نشر الشعر الوطني والسياسي، وكاد يصبح نصيبي من هذا اللون من الشعر مجهول النسب كما أصيبت قصائد شتى من قبل لشعراء آخرين. ورأيت أن الوقت قد حان الآن لطبع هذا الديوان كحلقة في تاريخ الشعر المصري إبان الحركة الوطنية الحديثة، وإن كانت قد سبقتها حلقات من لون هذا الشعر في دواويني المتقدمة وفي دواوين غيري من الشعراء، هذا إلى أن الديوان يشمل كذلك غير قليل من الشعر الوجداني والشعر الوصفي الخالص.
ومهما يكن من نزوعي إلى الشعر الفني الصافي وإلى الروح الإنسانية العامة فلا بد لي من الاعتراف بأن نفس الشاعر نهزة المؤثرات الوطنية متى ما ارتبطت بالمبادئ الأدبية السامية؛ ومن ثمة نشأ الشعر الوطني الحي. وليس لي بطبيعة الحال أن أزكي هذا الشعر وإنما علي واجب تدوينه ونشره تاركا للأدباء أن يتذوقوه ويستوعبوه أو يغفلوه ويهملوه حسب أذواقهم ونزعاتهم الأدبية، والخير كل الخير في اختلاف هذه الأذواق.
وإذا كنت أعنى بنشر هذا الشعر الذي هو من فلذات قلبي وعرائس خواطري فليس للتكسب ولا للشهرة، ولا لأي اعتبار دنيوي، ولا للذة معنوية مألوفة، فإن الحافز الوحيد لي هو إحساسي أن هذه الكلمات تحمل أجزاء روحي وتؤلف صحائف نفسي وتنطوي على صورة من المثل الأعلى الذي أعشقه أو على أقرب خيال له؛ لذلك أعرضها بروح صوفية على من تجاوبت بيني وبينهم أصداء نفوسنا فاندمجت عواطفنا المشتركة في وحدة صافية. فهذه المتعة الصوفية - متعة التجاوب النفساني والاندماج الروحي - هي التي تحفزني إلى نشر هذا الشعر كيفما كانت قيمته الفنية.
وقد ذكر بعض حضرات النقاد أن كل ما يتمنونه علي هو الاستجمام وتجنب الإسراع في قرض الشعر. واستشهدوا بشعر لي تفضلوا فعدوه من أروع الشعر العصري فلما نظرت فيه لم أجده غير شعر أمليته ارتجالا. فلم أر بدا من ذكر كلمة للحقيقة التاريخية التي يندر أن تنصف في النقد الأدبي، ولم أر مناصا من أن أصرح بأني لم أتنبه كثيرا إلى أمر هذه السرعة النظمية ولا أعتد بها، وكل ما أعرفه أن العاطفة تجيش في نفسي أو التفاعل الفني لأثر أو كائن يغالبني فلا ألبث بعد زمن طويل أو قصير أن أردد صدى وقعه في قلبي بنغمة من النغمات إما ارتجالا أو رويا، بسرعة أو ببطء، حسب فيضه وقوة ذلك الفيض، وربما كان الوقت الفاصل بين عامل التأثير وقرض الشعر من أثر ذلك الإيحاء مديدا، وربما كان وجيزا، وكذلك وقت النظم ذاته. وعندي أنه لا يعني الفن شيء من ذلك وإنما يعنيه قيمة الأثر الفني وحده الذي يخرجه الفنان. وإذا كنت سريع النظم اعتيادا فالحقيقة أن الزمن الذي أصب فيه هذا الشعر قد يتفق أو لا يتفق والزمن الذي يخلق فيه هذا الشعر بنفسي، وليس لي حول في صده بأية صورة من الصور، فما تزال العاطفة تلج بنفسي ثم تلج حتى أعبر عنها وإلا استولى علي الضيق والكمد. فهذه هي أنفاس وفلذات من صميم وجداني لا يجوز أن أسأل عن صورة خلقها ولا عن ظروفه، وإنما أقدمها في هيكل الفن قرابين وصلوات.
أحمد زكي أبو شادي
ضاحية المطرية ديسمبر 1932
إلمامة
فلسفة الشعر
من السهل كتابة مجلد حاشد بعشرات المسائل التي تشملها فلسفة الشعر؛
1
فإن الإسهاب في هذه الأبحاث أهون من الاقتضاب، وليس من الميسور أن يتناول المتأمل المدقق في فراغ ضيق محدود إلا نقطا يسيرة معدودة، وهذا ما أحاوله في هذه الكلمة الوجيزة.
الشعر في حقيقته لغة الشعور وتصويره، ولكنه ليس بلغة الشعور السطحي أي إنه يعبر عما وراء المظاهر الواقعية. وهو في جماله المستحب إنما يعبر بلغة الإنسانية في طفولتها، وبلغة الوجدان التي لا يسيطر عليها العقل. بيد أن العقل الإنساني في تطور عظيم وفي نضوج مستمر على حساب سواه من المواهب العصبية، ولذلك يواجه الشعر بتعاقب الأجيال خطر المنطق وسيطرته، ومحاولة الحقيقة العلمية أن تسود الحقيقة الشعرية.
ولغة الإنسانية في طفولتها متصلة بالأساطير والخرافات وبالتعاليل الساذجة وبالروعة من مظاهر الطبيعة وتفاعيلها، وهذه تكسب الشعر مسحة جميلة لأن كل هذه الأشياء متصلة بالشعور والعقيدة الدينية التي هي بمثابة عواطف مركزة، ونحن نقول الشعر بعواطفنا ويتصل فهمنا به عن سبيل العواطف، ولذلك نميل إلى نعت هذا النوع من الشعر «بالشعر الصافي».
ولغة الإنسانية في رجولتها النامية في هذا الزمن وفيما بعده هي لغة المنطق والذكاء والفلسفة العلمية والحكمة وما إليها؛ ولذلك لا نميل إلى اعتبار الشعر الذي تقدمه هذه اللغة إلينا شعرا صافيا ونراه بعيدا عن العواطف والوجدان.
على أن هناك محاولات جديدة في العهود الأخيرة ترمي إلى الجمع بين الصورتين بحيث تستوعب نفحات العاطفة ثمار العقل عند التعبير الشعري. ومعنى هذا أن تتحول الفلسفة والحكمة والعلم إلى إيمان صادق في نفس الشاعر فتتمثل في شعوره ونظمه. وهذا لن يكون بطبيعة الحال تعمدا عن طريق الصناعة، وإنما يكون حيث يوجد الشاعر الذي له بطبيعته وتربيته هذه النزعة فتصير عواطفه وإيمانه وعلمه وفلسفته وحدة تكاد لا تقبل التجزئة.
فأما مثال «الشعر الصافي» فتجده عند أبي نواس وابن خفاجة وشلي وكيتس ووردزورث مثلا، وأما «الشعر العلمي المنطقي» فأظهر أمثلته بيننا شعر الأستاذ الزهاوي. وأما شعر «العاطفة الفلسفية» التي تقدم لك إحساسا صادقا تمتزج فيه نوافح الوجدان بأحكام العقل امتزاجا شائقا مقبولا؛ ففي أمثلة مختارة من شعر أبي العلاء المعري وشعر المتنبي، ولعل أخلد الأمثلة لذلك دالية أبي العلاء المشهورة.
وفي رأيي أن هذا النوع الأخير من الشعر لا يقل سموا عن «الشعر الساذج الصافي»، وربما جاز لنا أن نعده أسمى أنواع الشعر؛ بل شعر المستقبل. ولما كان الشعر «كالأدب عامة» نقدا للحياة لم يكن من الغرابة ولا من المجازفة أن نقدم هذا الرأي حينما نلحظ متجه التطور للعقل الإنساني.
وبين أعلام أدبائنا من لا يرضيه ظهور هذه النزعة في الشعر الإنجليزي وفي الشعر العربي الجديد ويؤثر الشعر الفرنسي عليهما، وبينهم من يرى أن الشعر ينبغي أن يكون قصرا على الظرف واللهو والمداعبة والاستهتار أحيانا. ولكننا لا نعرف أن الحياة هي هذا وحده، ولا نرى الشعر الذي يقتصر على هذه النماذج شعرا جامعا سواء في روحه أو مشتملاته، ولا يكفيني أن يكون الشاعر مصورا، ولا يرضيني أن يكون حاكيا وإنما يعنيني أن يكون أيضا خالقا لمثل أعلى، وهذا ما ينقله توا إلى دائرة الفيلسوف. على أني - مع اعترافي بذلك - أكرر أن الشاعر الفلسفي النزعة الذي لا تخاصم عواطفه عقله، والذي يرضى عقله أن يعهد إلى العواطف في أن تعبر عنه بلغتها، هو أسمى الشعراء على الإطلاق.
وإذا آمنت معي بهذه النظرية لم تجد مانعا لأن تهضم الحقيقة الشعرية أية حقيقة علمية. وهذا الأستاذ ترفليان صاحب كتاب «تاميرس
Thamyris » لا يرى ما يمنع هضم الزراعة والهندسة والطب ونحوها في الشعر، فالعبرة في كل ذلك بتأثر عواطف الشاعر بكل هذا ثم بطريقة أدائه، وهل هو يجعل من العلم شعرا، أم يجعل من الشعر علما. وهذا شوقي بك نظم كما نظمت في تربية النحل فكانت قصيدته المشهورة في هذا الموضوع من أجمل وأنفس شعره.
وكما أن خصب التربة شرط أساسي في مقدمة العوامل لحسن إنتاجها، أو كما أن لكل تربة ما هو أصلح لها من غرس، فكذلك لا ينتظر أن يثمر أي نوع من الشعر بدرجة واحدة في كل ذهن، بل لا عجب إذا رفضته بعض الأذهان. وقبول الشعر هو أثر لنوع من الإيحاء، وليست كل النفوس سواء في التأثر بإيحاء بعينه؛ ومن ثم كان من العدل أن لا تلقي العيب على الشعر وحده إذا لم يكن له أثر محسوس في بيئة معينة ليس لها الاستعداد الكافي للتأثر به وإن كانت لها القابلية للتأثر بسواه، فهذه كلها أمور نسبية ليس من الحكمة والصواب أن تكون موضع الجزم والحتم.
ومما يشرف الشعر أن يمثل بيئته أصدق تمثيل ولا يكون في مجموعه غريبا عنها، ولكن مما يزيده شرفا أن يمثل في نواح منه الحقيقة الإنسانية الشاملة وأن لا يكون مجرد مرآة بل روحا خالقة حافزة إلى جانب ذلك.
وقد أشرت غير مرة إلى «الحقيقة الشعرية» كشيء يختلف عن «الحقيقة العلمية» وأراني مطالبا بشيء من التفسير، فأقول إن «الحقيقة العلمية» تحتم التعريف الصادق منطقيا وواقعيا، بينما «الحقيقة الشعرية» لا تحتم إلا صدق الخيال والإحساس. ومن الجائز أن يقول شاعر مريض أو سليم شعرا لا يمكن أن يوافق أبسط مبادئ العلم أو المنطق أو يكون كله شذوذا عجيبا ، ومع ذلك نعد هذا النظم ذا «حقيقة شعرية» لأنه يعبر في صدق وإخلاص تام عن نفسية ذلك الشاعر في ظروف خاصة، ويمثل حقا وحدة العواطف والإيمان الذي في لبه. ومن أجل ذلك أميل إلى الاستعانة بعلم النفس في نقد الشعر فهو أولى من سواه من العلوم الشكلية في تحليل وتقدير لغة النفس وصورها.
ويميل بعض النقاد إلى النظر في مسألة الإنتاج الشعري نظرة فلسفية، ولا بأس بذلك. ومعظمهم يرى أن الإقلال أنسب للإتقان الفني في الشعر. أما أنا فرأيي الخاص هو أن الشاعر المطبوع مكثر بفطرته وليس مقلا، فإذا لم يظهر له شعر كثير فليس هذا مما يناقض نظريتي، بل يكون معناه أن شعره محول إلى منافذ أخرى في حياته، فقد يكون لهوا أو رياضة ذهنية أو رقصا أو عزفا أو غير ذلك، وهكذا تتخذ قوته الشعرية مظاهر مختلفة وربما لم يكن سبب لذلك سوى تهيبه النظم وانصرافه عنه لعوامل اجتماعية أو شخصية. ومن شيوخ شعرائنا المطبوعين الذين نبذوا الأحجام شوقي ومطران، وهما من أكثر الشعراء إنتاجا، وكأنما المرانة قد ساعدت على إنضاج مركز الطبع الشعري في ذهنيهما، فأصبحا تحت تأثير فسيولوجي لا يهدأ وهو ذو مستوى خاص في كل منهما لا يضعفه غير الكلال، فلا يفسد قيمة إنتاجهما الإكثار ما دام ذلك طبيعيا، وعندي أن الإقلال المصطنع لا يقل سوءا وقبحا عن الإكثار المصطنع، وإنما الجمال يكون في إطلاق النفس الشاعرة على سجيتها.
وما دمنا قد أشرنا إلى الإيحاء وتأثيره فلا بد من كلمة عن لغة الشعر. وخيرها عندي ما ناسب المقام لفظا وجرسا بحيث يكون اللفظ والمعنى وحدة متماسكة في تأدية الإحساس الشعري ونقله إليك، ولذلك أوثر في كل بيئة الموسيقية الشعرية التي توافق روحها. ويعلم القراء أني لست من أنصار اللهجة العامية، ولكني أرتاح إلى تمصير العربية أو تعريب المصرية بحيث يظهر في أدبنا المصري روح هذا الوطن الرقيق الوديع الذي يمثله شعر البهاء زهير أصدق تمثيل، وقد يمثله شعر ابن قلاقس وابن النبيه وابن نباتة أحيانا . وأما الرجوع بنا إلى لهجة العصر الأموي والعصر العباسي فليس من التجديد ولا من إنصاف بيئتنا في شيء. وأرى بيئتنا المصرية الحاضرة متفرنجة فلا يمكن تجريد شعرنا العصري من روح التفرنج، ولن يخاف ذلك إلا كل متصنع يحتمي - خداعا أو جهلا منه بفلسفة الشعر - وراء الغيرة على اللغة، حينما هو يسيء بذلك إلى لغته وشعره.
شعر الديوان
الشعلة
أيشعل نيران التطاحن غاشم
ويغفل عن نشر الحقيقة عالم؟
هلم يراعي! ولتكن أنت شعلة
تضيء سبيل الرشد فالرشد ناقم
لقد كثر العمي الذين تهافتوا
على أن يشقوا النهج والنهج قاتم
ولو أنهم أعطوا الضياء تعثروا
فما تنفع الأضواء واللحظ نائم
وما حظهم من ثروة حين حالهم
كحال فقير في يديه الدراهم؟
وكم من أجير سك مالا مجددا
فلا هو ذو بأس ولا هو غانم
تقدم يراعي! وانظر الحق ناصعا
فلم أر مثل الحق يؤذي المخاصم
تنادوا به والكل يهتف باسمه
وكل خصوم حوله ومغارم!
لقد صغروا حتى كأن لم تكن لهم
عقول وكادت تشمئز الجماجم!
وقد جهلوا فهم الحياة فلم تعد
تبين لغى الأحداث
1
وهي التراجم
وصاحوا وصاحوا، والصدى يضحك الصدى
وما هكذا تشجى الليوث الضراغم
ولو أنهم هبوا إلى الخير مرة
مع الحلم لم تعبث بمصر المظالم
فهل فقدت من مصر كل زعامة
وهل تخلق القواد فينا المزاعم؟!
وما عرف الأبطال يوما بصيحة
ولكن هوى الأبطال تلك العظائم
فيا وطني لم يبق إلا التفافنا
على العلم المفدي والدهر راغم
لقد نال منا في قرون طويلة
فأحر بنا أن لا يخادع حالم
وأحر بنا أن ينهك الأرض زحفنا
وأن يعلن الإقدام منا الزمازم
2
فأما وماضي المجد أصبح صورة
وماتت كما متنا السيوف الصوارم
فهل يخذل القواد حتى بحبهم
ذويهم؟ وهل دون التآخي الدعائم؟
لخير لنا أن نغتدي دون قائد
من الحرب كل في رداها يساهم
وما أنا من ينسى لهم فضل ما مضى
ولا أنا من ينسى الذي هو قادم
ولكنما هذا التطاحن هوة
تردوا بها فالغانم اليوم غارم
الشعاع الضائع
أبليت أنفس أعوامي على حرق
فما حياتي بقلب جد محترق؟
ما كان يوما ليرعاني ويرحمني
فعشت مثل أسير اليم في قلق
مكافحا، وهو في أمن يخال به
وكل يوم له لون من الغرق!
ماذا استفدت وما جدواه من شجني
ومن عناء بلا حد ولا رمق؟
قد كاد يطفأ إشعاعي ولا عجب
بعض الرشاد شبيه الطيش والنزق
الناس تبخل في مال وفي نشب
وما بخلت بروحي قبل مرتزقي
والشمس تفنى ضياء وهي محسنة
ولا ثناء لها حتى من الشفق
3
تمضي المآثر بين الناس ضائعة
كما يغيب شعاع الشمس في الغسق
4
الجوهر
تهليلة للفن
عش بقلبي يا إله الشعراء
ما اكتفى شعري ولم يسأم دعائي
تتراءى لوفي شاعر
نافذ الحس عزيز لا يرائي
أنا أهواك خلودا دائما
في كياني، لا خلودا في المرائي
كي أعيش العمر فنا خالصا
إنما الفن حياة الأنبياء •••
لم أكن لولاك أرضى منزلي
هذه الأرض ولا أرضى سمائي
بك أستجلي وجودا آخرا
وخلاصا من عذاب وشقاء
وأصوغ الآي تلو الآي من
حكمة بزت جلال الحكماء
لحظت نفسي خفاياها، وإن
كانت النفس كتيه الصحراء
واستقلت عن قيود جمة
من حياة الأرض سبحا في الفضاء
في حياة لم يعد من حدها
ما يصد الروح عن هذا الضياء
كل ما فيها ابتكار دائم
فابتكار الفن في غير انتهاء
أنت أنت الجوهر الفرد الذي
من ينله يمتلك روح البقاء
موكب الجمال
حججنا إليه محرمين، وإن يكن
تجردنا من نزوة وصغار
ولكن قلبي ما تجرد لحظة
من النار، إن النار بعض شعاري!
حججنا إليه والهوى يسبق الهوى
إلى الهيكل الضاحي إلى المعبد الحالي
فلما بلغناه هوى يلثم الثرى
رفاقي، وباحوا للجمال بآمال
ولكنني أخرست من رهبة له
كما تخرس الشمس الحمام طلوعا
فلما أفاقت مهجتي من ذهولها
تدفق قلبي بالنظيم دموعا
وأودعت نفسي في قصيدة شاعر
تحرر إلا من عبودية الحسن
وصار إلها وهو عبد لوحيه
كذلك رب الفن إن عاش للفن
فلما انتهينا من نشيدي وشدوهم
وكم ملء تعبير الفنون جنون
تبسم هذا الحسن حين ابتسامه
فتون، وما كل الفتون فتون
أخذنا عليه العهد من بسماته
وصرنا رجال العزف والنقش والحفر
وألهمت تقديس الجمال روائعا
من الشعر حين الشعر أليق بالشعر
الصبا الدائم
جرت السنون كأنني ما شمتها
تجري، فلم أبرح سنين صبايا
فإذا عشقت عشقت من روح الصبا
فلقد تعلق بالجمال نهايا
ما شاب قلبي في ربيع محبة
لا ينتهي حتى اتهمت خطايا
روح تفيض على الزمان صبابة
فإذا الجمال محاصر بهوايا!
كنز الحب
يعذب قلبي بالمحبة بينما
تملك منه الحب كل شغاف
وأشبع هذا الكون من حبه غنى
وما الكون للقلب المحب بكاف
فأين حبيب يملك الحب كله؟
وأين حبيب للمحبة واف؟
فما غير حسن في عوالم سحره
كفيل، وما غير التجاوب شاف؟
البتول
نظرت إلى المرآة ثم تأملت
تلك المحاسن في الرواء النادر
فاستصغرت شأو الزمان وأهله
ولو انهم خضعوا خضوع الصاغر
واستكبرت وأبت إجابة سؤلهم
كتكبر القدر المطل الجائر
لم تلق فيهم مشبعا لشعورها
بحنانه الفذ القوي الزاخر
فمضت تجانب كل قلب طائر
ونأت تباعد كل روح حائر
حتى تلاقت والفنون بعاشق
قلق وفي لحظيه نفس مغامر
قتل النجوم الحارسات حيالها
وسما إليها في جنون مخاطر
فرأته حلم خيالها وتوقدت
أنفاسها بشعوره المتطاير
لكن رأت هذا الوجود جميعه
يأباه عبدا للجمال القاهر
ويصونه للفن في حرية
كالنور لم يخضعه أسر الآسر
فعنت إليه بعزة روحية
وعنا إليها كالغنى للساحر
فغدت تسمى بالبتول وقدست
لعواطف قدسية ومشاعر
حرما وما حرما، وقد خلبا النهى
فالحسن لم يخلق لغير الشاعر
عزاء الفن
شربت مرارات الحياة ومن يذق
شرابي ير السلوان في جوه الفني
كأني من الرهبان أزهد ناسك
فإن كنت لا أغنى فإني من يغني
وكم طفت بالشهد الشهي على الورى
ومن عجب أسقى الجحود مع المن!
فيا نعمة الدنيا عفاء فإنني
لأحقر ما وزعت حولي من الغبن
خذلت ولائي واستبحت مواهبي
وإني على فقري إليك لمستغن
سأقتل نفسي في الكفاح تخلصا
من الدين لو أني أسيرك من دين
أوزع نفسي في صوالح جمة
أشيد بها للعلم والفكر والفن
وأخلق أمثال الجمال لمهجتي
وأقبس من روح الرشاقة والحسن
وما لك من فضل علي فإنها
روائع ما يهوى ويبدعه ذهني!
الصدى
يا من إليها حنيني
ومن لديها حياتي
ومن نأت وهي تدري
ولست أدري شكاتي!
أصبحت مثل طريد
مشرد في الفلاة
أو كالصدى من غناء
حياته كالممات
أو كالحباب لخمر
يضيع بين السقاة
أو كالشذى في نسيم
والزهر غير مؤاتي
كم نلت عطفا وحبا
من الهواة الرواة
ولم أذق غير وجدي
وغير حرمان ذاتي
ما للصدى من وجود
إلا كإشفاق عات
إذا نأيت فذاتي
وهم ووهم حياتي!
زنبقة المطر
لما تلاقينا تفتح خاطري
وافتر قلب بالغرام وقد سكر
فتعجب السمار منه، وما دروا
سر الحياة، وما رأوا أصل الشرر
وقبست منك النور والنار التي
تحيي وقد جمعا بطل ما انتثر
وحي ينال كأنما في وقعه
وقع الأشعة والحياة لمن شعر
فتفتحت نفسي بكل رحيقها
وكأنما هي منك «زنبقة المطر»
5
دميتي
دمية الطفل ومعبود الكبير
وملاذي كلما خان الزمان
كيف بددت مني القلب الكسير
بعدما أسقيته حلو الأمان؟ •••
آه من دنيا مشى فيها العقوق
وتجنى في تصاريف الجمال
أصبح الخصم بها مثل الشقيق
وغدا المحسوس فيها كالخيال! •••
كنت لي الدنيا وأخراي معا
لم تعد دنيا ولا أخرى لدي
كلما الذكرى أهاجت مدمعا
أحرق الدمع وناري شفتي! •••
آه من ظلم الهوى للتابعيه
عوقبوا منه ومن أعدائه
شردوا في الدهر تشريد السفيه
وتسلى الحب في غلوائه! •••
قبلتي في القرب والبعد وفي
أي مثوى وزمان لصلاتي!
ضل من يحسب إيماني الخفي
هو ما أبديه من سلوى حياتي •••
لم يعد لحظي يوافي مسمعي
لا ولا قلبي يوافي خاطري
نضب النبع فأقصى مطمعي
رحمة الموت وقبر الشاعر!
الحنين
هدأة الليل جرحت لي فؤادا
كلما التام تصباه الخيال
كان لا يعرف في الدنيا حدادا
لا ولا يعرف معنى للمحال •••
كان يستوحيك ألوان التناجي
كيف أصبحت له ضوضاء هم؟
يلمح النار بأفق فيك داج
وضحايا الحب من صدق ووهم! •••
أين شعر كان من قلبي يغنى
ويغنيه على قلبي النسيم
مات كالضوء فلا مبنى ومعنى
لفؤاد يحرم الحسن الرحيم •••
يخطف الذكرى خيالي من سماء
حلقت فيها وجافتني وعادت
فيرى الذكرى فؤادا في دماء
ليتها في هجري القاسي تمادت •••
إيه يا دنيا أحرماني حلال
وعذابي من عباداتي وحبي؟!
يملأ الكون جمال وخيال
وحرام أن يزور الحسن قلبي!
الشريد
قطعيني رحمة ثم ادفنيني
إنما التشريد تعذيب الغبين
همت في الدنيا على وجهي أنادي
بفؤاد يشتفي من كل واد
فأبى الحرمان حتى رجع صوتي
وتماديت بهجر فات موتي
رب موت هو نعمى لا تنال
كم تمناها فؤادي في الخيال
إن تملاك قليلا في رجاء
غبت كالشمس توارت في الشتاء
وتعود الشمس جودا في الربيع
وأنا المحروم كالأعشى الوضيع
بينما الإيمان روح لبنائي
وكذا إيمان إلف الصحراء
جن قلبي في التياع المضطرب
وبكت نفسي بصمت المنتحب
وتولتني من الحيرة ما لا
تعرف الإيمان صلحا أو قتالا
فإذا بي كدت لا أعرف نفسي
وكأن الرزء تكويني وحسي
وإذا الإيمان عبء لي جديد
حينما الإيمان ملك للسعيد
حالت الدنيا فخير الناس ضري
رب حلو لعليل شبه مر
آه من ضيق تعالى فوق صدري
دافنا روحي فصدري مثل قبري
وكأني والأسى يغلب حسي
وظلام الهجر في مرأى ولمس
كشريد والرعود القاصفه
أسلمته لجنون العاصفه!
الطفولة
أسرف بلهوك يا بني فإنما
لهو الطفولة نعمة الأيام
وانهل وأختيك الحياة طليقة
من قبل أن تحيا حياة الظامي
ازجر همومك يا صغير وإن تكن
مرحا ووحي الشاعر الرسام
أغنيت في نظري إليكم عصبة
للأنس عن نور وزهر نام
مرأى يطل الشعر من أنحائه
ويزود الإبداع بالإلهام
أنتم ملوك الأرض آلهة السما
خلعوا على الدنيا جمال سلام
يا للطفولة قوة في ضعفها
تغزو القلوب بمحض الاستسلام
لم يخضع العقل الحصيف لغيرها
إلا خضوع العاثر المتعامي
فتن الغواني الساحرات إلى مدى
حين الطفولة فتنة لدوام
لم ألق مثل أب وأم قدسا
طفليهما في نشوة وغرام
وجدا المصائب نعمة في قربه
والحظ آية ثغره البسام
الرشاقة
قل للرشاقة: هذه مرآك
رقصت على الأزهار والأشواك!
عزفت لها الأنغام وهي كأنها
نغم من الأحلام والإدراك
ذابت كذوب النهر بين خمائل
والنهر بين تسلسل وتباكي
واللحن يضحك تارة، وهنيهة
يبكي، فيلعب بالفؤاد الباكي
سيلي مسيل خواطر وعواطف
ما سلن في كنف الهوى لولاك
في كل حال منك ألف معبر
عما يكتمه الجمال الحاكي
يدري به العشاق إن لم يدره
من لم يذق مرآك أو معناك
البحر تحتك واثب ومرقص
لما رقصت وفي أنين الشاكي
أحسنت يا بنت الحياة فهكذا
روح الحياة، وهل لها إلاك؟
هفت العيون إليك وهي نفوسنا
وهفت إليك نواظر الأملاك •••
إن الذي جعل الجمال منارة
للحب لم يحرم منى الأفلاك!
يا ليلة الكزنو وعيتك نعمة
وحفظت في قلبي الشجي نداك
في هذه الساعات أعمار الهوى
فإذا مضت عشنا ببعض مناك!
هذي المنى والذكريات وجودنا
ولو ان أهل الحب رهن هلاك
عاشوا على الأخطار، حتى صفوهم
خطر، وحتى الأمن بين شراك!
عبدوا الرشاقة والجمال وآمنوا
بهما فمن خلق القلوب يراك
فإذا عبدت فكل دين شافع
وإذا جحدت فلن يغيث سواك
صوت
صوت يذوب حلاوة ونعومة
ويخوض أسلاك المسرة
6
شاديا
فأكاد أختطف الزمان توثبا
لمداه إذ أجد الخيال مؤاتيا
وأكاد ألثم في شبوب عواطفي
ثغرا حكاه وإن تمثل نائيا
إلى الكنيسة في يوم الأحد
خطر الحسن للصلاة بدار
كل ما تحتويه وحي جلي
خطر الحسن كالقصيد المحلى
بخيال يغيب عنه الروي
أبدعته عواطف لن تسامى
وتولاه شاعر عبقري
كل شيء يمسه نال حسا
مستعزا فذلك الميت حي
نور الترب تحته وتغالى
في عباداته الزمان الأبي
لم تزده الكنيسة اليوم إلا
نفحة حازها الأريض الندي
زهر الروض لم يزده الندى الحل
و شميما فعطره الألمعي
إنما يحدث التآلف في الكو
ن جمالا فيستعز الغني
الخلسة
سلكت بي الأقدار مسلكها السا
حر حتى بلغت جنة خلدي
فإذا بي أرى النعيم عيانا
وكثيرا ما كان وعدا لوعد
لحظة منه في يقين وجود
لا يقاس الوجود منه بحد
فلثمت اليد التي لمستني
في حنان يخال مظهر صد
وتنفست من عبير حوته
وأذاعته عطر زهر وشهد
وتطوعت كالضحايا إذا ما
ساقها الحسن للممات المعد
هيكل الحب لم يعرف بقلب
دائم الحظ أو يختم بعهد
تخلق المعجزات فيه وتطوى
معجزات وما له من مرد
في نواحيه كالزهور قلوب
ذابلات وغيرها رهن وجد
بعثرت وهي بالشجى ناظرات
لخيالي وبالمنى والتحدي
أي دار هذي التي تعبر الأح
لام فيها ويسحر المتصدي!
معبد الحسن والفتوة والنو
ر ومجلى الطموح من فوق لحد
ينظر الحب فيه من ألف عين
ويرى الصمت مستثيرا لرد
ويرى النار من دماء ضحايا
ه، ونور الدجى أفانين وقد
وتموج الأضواء كالقلق الآ
سر قلبا على خفوق أحد
مربأ السحر والفنون اللواتي
صاغها الرب بين لهو وجد
ثم أوحى إلى عباقرة الحس
ن ليحظوا بلهوه المستمد
إن سكر الأرباب أعجب ما يو
حي بدنيا من انحطاط ومجد!
يلمح الشاعر المفاتن فيها
والمهاوي لألف رب وعبد
بسمت لي، فقلت: يا بسمة الخل
د أطيلي المنى وإن كن لحدي
وحبتني من خلسة الحب بالفذ
ذ وإن لم يكن سوى الوهم عندي
مهج تستبى فما مهجة الشا
عر إلا الآلاف من كل فرد
وقرابينه كفاء لحسن
ملك الكون من حياة وجمد
ذقت خلدي في خلسة ثم لم أد
ر أغاب الشقاء أم كان سعدي
وتغنيت، والأغاني تهاوي
ل فؤاد مصور غير صلد
فإذا بي أرى غنائي نحيبا
وإذا بي أرى اغتنامي كصدي!
المساء في الصحراء
دنا الليل والصحراء في روعة له
وإن لمحت في راحة وسكون
ولم يبق من شمس الغروب ونورها
سوى لوعة في صفرة وحنين
تقبل كثبان الرمال، وكل ما
تقبل في وجد ويأس حزين
غزتها جنود الزنج والوقت مسعف
وكم داولتها في ألوف قرون
هو الوقت لا يرعى جمالا برحمة
وكل سعيد عنده كغبين
دنا الليل والشمس السخية أخلفت
حرارتها موتا وبخل ضنين
وأقبل قر الليل قبل مجيئه
فيا لخئون سابق لخئون!
تهارب منه أهلها وتجمعوا
على النار مثل العابدين لدين
ومدوا الأيادي السائلات نوالها
فنادت عليهم في لسان مبين
ووزعت السحر الذي يرتجونه
حياة وإيناسا وأمن أمين
تكاد العيون الناظرات لهيبها
تناول منها ذخرها لسنين
وتبخل حتى بالدخان يفوتها
وتؤخذ من ألوانها بفنون!
وقد وقف الجمال كالجمل الذي
أطل عليها في خشوع مدين
كأن بها للشمس روحا تنوعت
وقد سجنت لكن كغير سجين!
وهل دانت الصحراء إلا لشمسها
جمادا وحيا قبل وجود عيون
كأن تلال الرمل كنز أشعة
من الشمس فاعتزت بكل ثمين
دنا الليل فاخطف قبل فوت منوعا
من الظل والأصباغ غير مهين
فهذي صنوف من حياة تبددت
وهذي معان من منى ومنون
الناس
خبرت طباع الناس عمرا فلم أجد
أحط ولا أغبى من اللؤم في الناس
وما الحيوان الماكر الواثب الذي
يرديك ما بين الخيانة والياس
بأبشع في غدر من اللؤم في امرئ
تناسى أخاه في المرارة والياس
علام اقتتال الناس والدهر ضاحك
عليهم وكل كالجريح بلا آس؟!
لننعم من الدنيا ولكن كأننا
ضيوف فما نغرى بحقد ووسواس!
يلاطف بعض بعضنا وجميعنا
يلاطف دنياه بشكر وإيناس!
ألسنا ضيوفا عندها فحقوقها
حقوق ولاء لو يكال بمقياس؟
سخطنا عليها سخط جهل بطبعها
فيا لعقوق الساخط الجاهل الناسي!
وجزنا حدود الضيف في كل نزعة
فلم نسم في ذوق وهنا بإحساس
وما مثل الدنيا بأقتم صبغة
سوى أهلها بالغدر والعبث القاسي
فكانوا شراب الكأس وهي بهية
فلما دجوا عابوا الظلام على الكاس!
عمري الجديد
يا حاسب الحظ في حبي وفي أدبي
وناسيا بث أناتي وآهاتي
ما هذه نفثات الوجد صاعدة
لكنها مهجتي ذابت بأناتي
آثرت قصف شبابي حينما اغتربت
نفسي بدنيا التدني والإساءات
فصرت أنفق ساعاتي بلا كلل
في الجهد، محتقرا لذات ساعاتي
كأنني صرت من دنياي منتقما
آبى لها فضل إيجادي ولذاتي
إن كان فضل لها خلقي فقد خلقت
نفسي لأبنائها شتى المسرات
كما خلقت شخوصا من مخيلتي
وقد خلقت جنانا من خيالاتي
أحيا كدودا لأفني العمر مبتدعا
عمرا لنفسي من فني وآياتي
فصرت مثل إله لا انتهاء له
قد صاغ تكوينه من روحه العاتي
فإن يعش فهو عمر لا مثيل له
وإن يمت فهو عيش اللانهايات!
موت وحياة
أهاج دوي البحر صرخة آمالي
وبدد أحلامي وبلبل بلبالي
رأيت به الأمواج ملء اصطخابها
تقاتل مثل الحظ في عمري البالي
وتلتهم الصخر الأشم أمامها
كما طوح الدهر الخئون بآمالي
تأملته في حيرة بعد حيرة
وفي وجل تال على وجل تال
وقد جدد الحزن الذي نال مهجتي
سنين كأني حامل هم أجيال
رأيت به عقبى الحياة ومنتهى
مطامحها العليا من الحب والمال
هشيم من الأمواج قتلى وكم بها
عواطف ضاقت بالحياة وأمثالي
أطل عليها في وجوم ولوعة
كأني أرى الأخرى أمامي وأهوالي
وقد نسيت نفسي وجودي وأشعرت
وجودا من الآلام في روعة الحال
فيا حزن قلب كالغريب بعالم
غريب لأهليه الأبرين والآل
دفنت أسيفا عزمتي ومواهبي
لدن عد من ذنبي همومي وأعمالي
وحيا أخلائي جهودي وما دروا
جهودي التي ماتت لحزني وإقلالي
فيا موج مت حولي فموتك راحة
وموتك مرآة لموتي وإذلالي
وإن كان لي في الفكر دنيا جديدة
تعالت عن الدنيا بإحساسها العالي
غنمت بها روح الجمال التي سمت
عن الجسم واستولت على حبي الغالي
شعر التصوير
حكت النقوش وقبلها الأطلال
فتماثل البناء والمثال
هذي تهاويل الحياة بما وعت
في اللوح تعمر فنها الآجال
أيصد عنها الشعر وهي بروحه
خلقت وتجذب وحيه الأطلال؟
مري أيا صور الجمال فإنني
أستعرض الأحلام وهي جلال
متذوقا ما رف قلبي نحوه
ومقبلا ما طبعه الإقبال
ليست خيالا، فالخيال وإن دنا
يهوى الجموح ودأبه الإجفال
فيعانق الشعر الرسوم إذا بدت
تختال في سحر له وتنال
في كل لون بل ونفضة ريشة
للعبقري تلفت وسؤال
يستنطق الأصباغ وهو مقدر
أن الحياة أشعة وظلال
ويبادل الإلهام ما يعنى به
إن الفنون تجاوب ونوال
في الصخر أو في اللوح أو في العشب أو
في أي معنى للوجود يدال
صور الحياة وباعث الشعر الذي
تعنو النفوس له ويحلو القال
الشعر في الدنيا بكل صغيرة
وكبيرة لو تحصر الأمثال
والشاعر المطبوع يخلق شعره
بالوصف ما لا تخلق الأجيال
يهب المعاني من صميم فؤاده
روحا يصيب بها الجمال جمال
وسواه في حكم الضرير فلا يرى
حسنا وتعثر حوله الآمال
أنا لا أدين لما وصفت وإنما
الدين للشعر الذي يختال
ترك الكواكب مصغيات مثلما
أصغت له الأمواج والأجبال
سكنت وقد فتنت بأوصاف له
فكأنه راع وهن عيال!
دنيا الحسن
ماذا أقول لحسن في تخطره
ينسى محبيه حتى في تعثره
هوت قلوب لتوفيه حمايته
فما جنت غير لوم من تأثره
يأبى رعاياه حين الرب يشملهم
وينفض الحب نفضا في تكبره
حرنا أمام تغال من غوايته
وما لحظنا خيالا من تحيره
لا يستقر قرار من توزعه
ولا يدوم سلام من تهوره
دنيا اعترفنا بعجز عن تصورها
والحكم في الشيء فرع من تصوره
دموع الشتاء العابث النادم
نظمت في يوم مطير بالإسكندرية:
بكى بدمع الأسى أو دمع شاعره
وقد تجلى بلون من مشاعره
ضاع الرواء وغاب الحب وامتقعت
مشاهد طالما هشت لشاعره
لم تبق غير دموع الذكريات له
ووحشة ما لها حد لناظره
فالماء كالميت لا روح تطل به
وإن حسبناه ماء في تناثره
والترب لا تشكر الأقدام موقعها
منه، وكم رقصت في ساح ناضره
والروض كالهيكل المصدوع ما بقيت
منه سوى ذكريات من مآثره
تجري المنى حوله ثكلى مروعة
كما جرت أدمع في إثر طائره
فيا غمام أطل سحا على زمن
الحسن والنور بعض من خواطره
أنت الحري بسكب الدمع في شجن
فقد صحبت قديما غرس ساحره
وقد نظرت مرارا في سرائره
كما سكبت نضارا في أزاهره
واها على زمن كان العناق به
يطيب ما بين مأسور وآسره
والجو مبتسم بالعطف مؤتلق
والطير ينشد حلوا من بشائره
حتى تلألأ هذا الكون من شغف
ملء القلوب ومن صفو مناصره
فالآن يبلى كتاب لا بيان به
كأنه لهو طفل في حفائره
والآن يبكي نعيم لا وجود له
إلا خيالا شهيدا في مقابره
والآن يملأ سمع الدهر مرثية
من غيب الحسن حتى عن عباقره
السحب تبكي بدمع للشتاء أسى
فكيف بالوجد في إحساس شاعره؟
بنت النيل
أتم النيل رحلته وأضحى
كريما بالخيال وبالنوال
فلاحت بنته في الروض تسقي
بخمر جمالها صرعى الجمال
قد اصطبغت بصبغته وطافت
بفتنتها على المهج الغوالي
تسيل رشاقة ويسيل تبرا
ويحتكمان في حظ الرجال
ويقطر لفظها باللحن حتى
ليرشف في خشوع وابتهال
تأمل بلبل غنى، وأصغى
بسمع مدله وافي الخيال
وشاركت الأزاهر عاشقيها
ففاضت بالعبير وبالسؤال
وتمشي في اعتدال القد فخرا
لألوان الملاحة والجلال
ويصحبها النسيم وقد تندى
بنضرتها فينعش كل بال
وتتبعها القلوب بلا ملال
وهل تهوى القلوب بلا ملال؟
ويخطر جنبها حسن دخيل
7
فتمنحه المجال ولا تبالي
كأن الكائنات لها عبيد
من القمر المطل إلى الرمال
تلألأ وجهها بالضوء، لكن
بضوء النيل والنبت الموالي
فكانت روحه الساري المحيي
نفوسا كن من هذي الظلال
تغذى من صباحتها وتنمو
برقتها فتنعم بالكمال
ويعبد قربها الصخر المعلى
بتقديس الخوالد والخوالي
ولم يدر الألى حجوا وزاروا
وناجوا مصر في ماض وحال
بأن فتاتها هي سحر «منف»
وآية حسنها الفذ المثال
نشوة اليأس
دعوني أناجي اليأس في نشوة اليأس
ولا توهموني أن حولي ما ينسي
أعيش بأرض للشياطين والأذى
تصبح في رجس وتمسي على رجس
حرام علينا مأمل في ربوعها
وفيها تجلى مصرع الفكر والحس
علام التمادي في المنى حينما نرى
ضحايا المنى أضحوكة الحظ والبؤس؟!
أنعلق بالآمال في البلد الذي
يصول به من صال بالشر والدس؟
خفاف إلى الإفساد في كل مطلب
ثقال على الإحسان، حرب على النفس
يباهون بالايذاء حتى كأنما
يبزون في الهيجاء «عنترة العبسي»!
عجبت لشمس أشرقت في سمائهم
وقد خلقوا حربا على النور والشمس!
بعض القرابين
غضي أماني العلى عني وعاديني
فاليوم ينكر سمعي من يناديني
عفت التفاؤل إذ ضحيت فلسفتي
على مذابح تبريحي وتأبيني
العمر ضاع بأحلام أداعبها
كالطفل يلهو بنوار البساتين
مضى زمان كأن النحل تغبطني
للجهد والدأب في بؤس وفي لين
فالآن والنجح موفور له سبب
أرى الحظوظ حيارى كالمجانين!
دنيا تخبط أعلاها بسافلها
فما انتفاعي بدنيا قدرها دوني؟
لا تخذل النفس إلا من حقارتها
ولا يدوم الأسى إلا بمفتون
أصبحت أزهد محسود لنخوته
وصرت أعقل مجنون ومأفون!
وبت أضحك أو أبكي بلا سبب
سوى مهازل عيش غير مأمون
تسمو الشواهين فيه وهي جاهلة
أن السقوط مآل للشواهين
قد كنت أصغر من يشكو الزمان، فما
أصبحت أكبر إلا كل محزون
ساوى الزمان أحبائي وآصرتي
بمن يروم هواني أو يجافيني
فيا لضيف أقمنا عند ساحته
على الولاء فكنا كالمساكين
ويا لدنيا يسوء الناس بعضهمو
بعضا ليلهوا، وهم بعض القرابين!
المجاهد الجريح
شهدت من الدنيا المعارك، والمنى
تسوق الفتى نحو المعارك والخطب
فصرت كجندي جريح مضمد
يئن ولكن كم يحن إلى الحرب
ويهرب من حكم الحجى في وثوبه
إلى ساحة الهيجاء والموقف الصعب
تملكه اليأس العنيف، وإنما
بثورته أفناه في الطعن والضرب
فما اليأس إلا شاحذ النفس للعلى
إذا خلقت من معدن صادق عضب
تئن أنين الصلب، حتى إذا طغى
أنين له تلقاه يضرب في السحب
فلا تحسبوني في الهزيمة غارقا
أغوص ولكن لا يخاف على قلبي
ولا تحسبوني خاشي الحرب مرة
وإن تك حرب السلم للفن والحب
سجية نفس عودت من إبائها
جلال الغنى والخصب في الفقر والجدب
توالت جراحاتي وأوذيت دائما
وهيهات ألقي من سلاحي ومن دأبي
فليس خصيمي غير قلبي إذا ونى
وهيهات يرضى أن يقر به جنبي
تركت تصاريف الزمان بحيرة
وقد عجزت عن أن تسود على لبي
تشاءمت لكن حال ذاك تفاؤلي
وأبكيت لكن كم تبسمت من كربي
وما الشاعر الموهوب إلا ابتسامة
من الرب لا تعنو إلى الليل والسحب
مقاييس الزمان
ألم تر كيف ذاك الحسن ولى
فحال من النقيض إلى النقيض
وأصبح مدفنا للزهر يشجى
وكان روائع الروض الأريض؟
فلا تأسف على إحسان قلب
يجازى السخط في البلد المريض
جرت فيه الحوادث في خبال
فما تدري العلو من الحضيض
فكيف تروم أن تلقى وفاء
على أدب من الأدب المهيض
حرام أن تعد الطرس ذخرا
وأن تعتز من ملك القريض
مقاييس الزمان قد استحالت
فما أدنى الحبيب إلى البغيض !
الطهر
أشكو من الحرمان حين يطيب لي
هذا العذاب المر في حرماني
طهرت روحي بالعذاب وإن هفت
روحي إلى إحسانك الفتان
أحيا لمعنى الحب في مرآك لم
يخلق لغير الفن والفنان
وأصد نفسي عن جناك متى دنت
بخشوع مبتهل إلى الديان
فأذوق أقسى الهجر وهو مجانبي
وأعاف أحلى الوصل وهو الداني
عيناك
ساءلت وحي الشعر عن عينيك
والشعر أطياف تحن إليك
صبغت بألوان الضياء فوردت
خديك ثم زهت على شفتيك
وتجمعت ظلا ونورا حائرا
في حاجبيك وفي هوى عينيك
لا تسألي الفنان وصفهما ففي
لحظيه مرأى الوصف عن لحظيك
يرنو إليك ولا يرد، ومن رأى
عينيك يؤخذ بالحنان لديك
متعة العذاب
بددت آهاتي ونثر دموعي
ورضيت نار فؤادي المفجوع
وصدفت عن قلق النسيم للوعتي
وعن الرياض تشبثت برجوعي
وعن المباهج في الطبيعة كلها
حين الطبيعة روعتي وخشوعي
واشتقت تعذيبي كأن تبتلي
هذا العذاب وللشقاء نزوعي
خلي صدودك يستطيل فإنما
أحيا حياة مكفر مفزوع
قد مضه الحرمان إلا شعلة
تذكي لهيب الشاعر المطبوع
فيذوب في الشعر الحزين فؤاده
ويضوع بين تحرق وولوع
فيعيش بالوجد الأليم كأنما
هذا العناء له دواء الجوع
الحسن إن فات الحياة فأثره
ظلم، وما المطبوع كالمصنوع
ما قيمة الذكرى؟ وهل يغني المنى
عن شمسها نور كنور شموع؟!
أصبحت أسترضي العذاب كأنني
أخشى وصالك بعد طول هجوعي
أفنى يسامرني الشقاء ولم أجد
غير الشقاء مجففا لدموعي!
في عرس الربيع
فرحت بطلعته السماء فأرسلت
هذي التحية في دموع حنان
غسلت بها وزر الحياة وكم ترى
هذي الحياة كثيرة الأدران
حفلت شقيقات الربيع بعرسه
فإذا الوجود مثالث ومثاني
وتجلببت صور الحياة بكل ما
يجلو الحياة كدمية الفنان
عرس يجدده الزمان وإن يكن
جم الفنون منوع الألوان
ونشيب نحن وما يزال شبابه
غضا على الأحداث والأزمان
نلقاه حينا كل عام ثم لا
يبقى سوى حلم ورجع أغاني
النجوم
بعثرت في السماء حتى تراءى
خالق الكون مسرفا في نظامه
حاكت الضائعات من مهج الخل
ق، فكل بشعلة من غرامه
وتراءت حينا لنا قبلات
من فم الدهر في عصور ابتسامه
ثم حينا تلوح مثل ثقوب
خلفها الغيب رابض في غمامه
ينفذ الشاعر العظيم إليها
حين يخشى القضاء بأس اقتحامه
فإذا عاد بعد إسرائه الكا
شف أعيا الأنام مغزى كلامه!
حرب الإكراه
هيهات تنعم نفسي في مجانبة
بل تستحي من عدو لا أعاديه
روحي السلام، فما ذنبي إذا لمحت
في الحرب حين عدوي في تغاليه؟
إني لتطفئ نار الحقد ما رزقت
نفسي من الحب مهما اشتد عاديه
لكنني عاجز عن طب ذي مرض
يعيش للسوء في حظ وتأليه!
التقديس
أنى رأيتك رف القلب من شغف
وحاصر الحسن في تقديسك الأمل
جسم من النور تنبث الحياة به
ومنه للناس ألوانا وتشتعل
لو كان لي حظ تقبيل لما قنعت
روحي بما ألف العباد أو أملوا
وكنت أغزوه تقبيلا، وأنهكه
رشفا، كما يتمادى الطائش الثمل
حتى أراه طعينا كله وبه
من الغرام جراح كلها قبل
هذا هو الحب تقديسا لعارفه
هذا هو الفن يستهوى ويحتمل!
سيادة القناعة
ذروني أعش في طاقتي عيش سيد
ولا ترهقوني بالديون إسارا
فحسبي قيود من حياة شقية
وقد بات حولي المنقذون حيارى
وما قيمة المجد الذي تشتهونه
إذا كنت أفنى بالهموم مرارا؟
قنعت بعيش النحل يحيا لغيره
ولكن عزيزا لا يطيق صغارا
يجيء إلى الدنيا كريما وينثني
ويعطي الذي يعطي جنى وثمارا
ويقنع بالقوت اليسير كأنما
يصون له القوت اليسير يسارا
ويمتلك المجد الأصيل بسعيه
إلى أن يضحى كالشعاع نهارا
فحسبي إذن بذلي حياتي ونعمتي
لقومي مثالا عاليا وفخارا
هو المجد حين المجد في غيره دنى
وحين أرى حظ الغني معارا
لخير لنفسي الهم في نفع أمتي
من الهم في دين تأجج نارا
نعيش بدنيا تشبع الحر قسوة
وتجزيه ظلما صارخا وبوارا
وترهقه في الغل حتى كأنه
غريم أثيم لا يكيف عارا
فبتنا سكارى الهم واليأس حينما
حسدنا الألى قضوا الحياة سكارى!
الكون المتشائم
حان الربيع ولكن غاب مطلعه
فما الرواء بنهر جف منبعه؟
ردوا الكئوس فما راح بمسعفة
إذا تشاءم هذا الكون أجمعه
حجبت عن ناظري الصديان فاكتأبت
دنيا الجمال وعاف الفن مبدعه
وشاطرتني الأسى، حتى النجوم لها
دمع وشجو وبث كدت أسمعه
تتبعت شاعرا في العمر بادلها
حبا وألهمها عمرا تتبعه
فكاد يصدم مجراها تأوهه
وكاد يصدع مبناها تصدعه
وأنت يا نعمتي في الهجر ناعمة
والهجر للحسن تقتيل ينوعه
أواه من ظمأ قاس على ظمأ
ومن ظلام بوادي الموت مشرعه
الشاعر الخالد الفنان مندحر
والساحر النور خلابا يضيعه
تخاصما فأذاقا الكون لوعته
وأغرقاه بيأس كاد يفجعه
والفن للكون إلهام يضيء به
فإن خبا فحداد الكون مطلعه!
كن أنت نفسي
كن أنت نفسي واقترن بعواطفي
تجد «المعيب» لدي غير معيب
شعري - الذي تأباه - أنفس مهجتي
وكفاه أن يحيا بنفس أديب
عبثا تحاول فهمه بتحامل
إن العداء يرد كل حبيب
لو طرت في دنيا خيالي لم تكن
إلا رفيق مسرتي ووجيبي
ما كان هذا الشعر من لغة الورى
لكنه قلبي وروح حبيبي
السلوان
ذكريات الحب الأول:
ما لي أروم من الجمال عزائي
فأعود مغمورا بروح شقائي؟
هيهات لي السلوان إن تعلتي
ألمي، وإن تصبرى برحائي
الذكريات غذاء قلبي، بينما
لم ألق فيها غير مر غذائي
أحيا على الألم الدفين، وإنه
حرقي وإن حسبوه بعض شفائي
وأسائل السلوان حين يصدني
قلبي وصبح طفولتي ومسائي
إني ربيت على غرامك وحده
فالآن كل هوى رفيق عنائي
والآن كل ملاحة أشتاقها
ألقاك ماثلة بها لرجائي
وكأنني المحموم من حرمانه
فإليك - إن نادى سواك - ندائي
والناس تحسبني السعيد، وربما
بعض السعادة صورة الأرزاء!
الطائر التائه
أيها الطائر عن وكري الحبيب
أيها التائه في ليل الغريب
أنا في بعدك في سكر وتيه
شد ما ألقاه من قلبي السفيه!
تظلم الدنيا لعيني حين عيني
تخطف الأضواء من لون ولون
وترى في بعدك اللذات وهما
بعدما كانت ترى الأوهام نعمى
أي سحر يا حبيبي حال حسي
فنسيت الكون بل قلبي ونفسي؟
أسأل الغفران! ما نفسي إذا ما
أصبح الكون شتاء وظلاما؟
أيها الطائر من لي بدليل
ينقل الروح إلى الروح الجميل؟
أنا لن أنساك مهما غبت عني
توأمي بل ملتقى ديني وفني
طفت بالروح بدنياي جميعا
فإذا بي عدت مكلوما صريعا
أي داج غبت فيه يا حبيبي
غاب عن ألف رقيب ورقيب
حينما لم تغلق الدنيا لعشقي
حيثما لم تحجب الأخرى لشوقي
كيف حجبت لحسي وخيالي
وأنا الطائر في دنيا المحال؟
أترى أبدعت دنيا من خيالك
ساكنا فيها ضنينا بجمالك
هكذا الأرباب عشاق الخفاء
والبرايا في دعاء وشقاء
فأجز لي لحظة أحيا بها
كل نفس بضعة من ربها
أو فراقب مهجتي بين اشتعال
وهي تفنى في تضاعيف الليالي!
في الواحة
فى الواحة.
نأت عن لذة العمران حتى
كأن النسك تعشق والتخلي
ولم تعرف سوى الصحراء مأوى
تفر إليه من خصم وخل
ولكن الحياة أبت عليها
وحاد العيش في موت وذل
فأطلعت العواطف في رباها
وأعطتها التأمل والتملي
فصارت وهي في نسك مقيم
مثالا للتبتل والتحلي
كما أخفى خفوق هواه شيخ
يحجب لوعة الحب الأجل
سما فيها النخيل بباسقات
شواعر بالضياء وبالتعلي
نوازع للسماء على صلاة
شوامخ في شعور المستقل
وكم حل التناقض كل شيء
فلم نعدمه في أدنى محل
فما تلقى القنوع بها قنوعا
وإن فتشت في فرع وأصل
وما هذي الرمال وقد تعالت
بأرفع من وهاد في تدلي
ولا العشب الموزع ثم يحيا
ذليلا، بل تراه كمستذل
ولا الماء الذي يزجيه نبع
يسير بغير إحساس ودل
وما صور الضياء وقد تناهت
بظل، بعد ظل، بعد ظل
بأبدع أو بأكمل من ظلال
للب ذاق من جزء وكل
وتلقى للصلاة بها تجلت
مثابة شيخها أبهى تجلي
فجملها بربوتها بياض
وزينها التقشف والتملي
وجلسة شيخها بالباب حينا
يسبح في خشوع لم يمل
لدن تلقى الصبا فيها طريحا
قريرا أو بتحنان المطل
حوت فيها العبادة كل شيء
فكل في طريقته يصلي
الأوتار
سمعنا من الهرب
8
الذي هو قائله
وما صوته إلا خيال نسائله
نظرنا إلى الحسن المجرد قربه
يرف عليه نوره وأنامله
فلم نلم الدنيا على ما تسوءنا
وشاق النهى من عمرها ما تقاتله
تجسم فيه النور، والنور لم يكن
يجسم يوما أصله وفصائله
وكم عبد النور الزمان وسبحت
بآلائه من كل عصر أوائله
9
وخاطبت الأرباب أرواحنا به
ففيه لسر العبقرية نائله
عشقنا به هذي الحياة ولم نكن
لنعشقها لولا جمال نغازله
ونغرق في هذا الضياء هناءة
ونغرق يأسا حين يبلغ ساحله
ولا تذبل الآمال ملء شعاعه
وفي البعد عنه أنضر الأنس ذابله
موائد للألباب حول ابتهاجه
ومن دونها لن يشبع اللب كافله •••
سمعنا رضى الأوتار والنور باسم
وفي نبضها من خفقنا ما تماثله
وما وحي «أفروديت» لما تطلعت
إلى الغيب إلا وحيه ورسائله
وما هذه الأوتار فاضت بلحنها
من الدهر إلا بحره وجداوله
تعاشق فيها النور والظل فاغتدت
وجودا سما فوق الوجود مسائله
10 •••
ترشفت هذا الحسن من كل نفحة
حباني بها، والحسن شتى مناهله
وأسمعت باللحظ الأسير فنونه
ومن متع الإيهام كانت حبائله
وذوقت موسيقى الخلود وإن تكن
خيالا، وفي جود الخيال فضائله!
اللهيب المقدس
قد رشفنا منى الحياة بثغر
وارتوينا من اللهيب المقدس
تتلاقى الشفاه وهي ظماء
ثم تظما على ارتواء وتنعس
وتطيل اللقاء وهي سواه
عن حياة بوجدها تتنفس
من يلوم الأسير إذ يغنم اللح
ظة للعيش حينما العيش أسلس؟
لحظة كلها جنون، ولكن
كم جنون من الرجاحة أنفس! •••
قبلات نظمتها للأغاني
رب سحر لسحرها يتلمس
لم أجد مسمعا بها اليوم أولى
غير سمع التي لها القلب ينبس
من جنى ثغرها قبست نظيمي
ومن النور مبدع اللحن يقبس
رب شدو بها أطال حياتي
فحياتي من اللهيب المقدس!
وحي المساء
عودي إلى ظل المساء فنلتقي
روحين للدنيا بغير رقيب
إلا الهلال وأنجما حنت له
فتخال بين حبيبة وحبيب
تمشي على أرض من الأحلام لم
تبسط لغير الحسن والتشبيب
وتخصنا الأطيار والأشجار وال
أزهار بالتغريد والتطييب
فأبثك النجوى من القلب الذي
كالطفل لا يسلو مع التأنيب
ونسير لا ندري إلام مسيرنا
ونلوح بين غريبة وغريب
في حين نمتلك الوجود بأسره
ونود دون مسائل وحسيب
الأطياف
تمر أمامي الأطياف سكرى
وبين جموعها مر الممات
فحن إليه قلب لي عليل
ولكن جاذبت قلبي الحياة
وقالت: إن عشقت كما علمنا
فإن الموت يأباه الهواة
تجرع هجرها صابا مساغا
فمر مذاقه العذب الفرات
وإن الحب سحر عبقري
وطوع العبقري المعجزات!
تمر أمامي الأطياف لكن
من الأطياف من غابوا وماتوا
وأخشى بينها طيفي فإني
تحطمني الشجون العاصفات
وما معنى الحياة إذا تولت
لهيكلي الذي أحياه ذات؟
أصبر مهجتي وجراح نفسي
بآلامي الدفينة هاتفات
وأصغي للحياة بلا شكاة
وكم للنفس في صمتي شكاة
وما شاق الممات القلب إلا
وفي معناه دين أو صلاة
يجوع الشاعر الفنان حبا
ويسقى ما يمر ولا يقات
وبعد تعنف الدنيا أساه
وقد أشقاه بالوهم الأساة
وتضحك فتنتي وكأن حظي
من الحسن القطيعة والشمات؟!
إذا غبن الهوى فالصبر موت
وهل تنفي الممات الفلسفات؟!
اعتراف إبليس
جثا على ركبتيه عند خالقنا
وقال: لست بمن يرجوك مغفرة
فقد ألفت حياتي وانتهيت إلى
ما رضته من حياة كلها هول
لكنني ناشد للحق منزلة
وإن عددت حياتي وصمة الحق
هذا اعترافي، ووزري لست أنكره
فقد حييت دعيا أصغر الناسا
وقلت إني الذي علمتهم حيلي
وهم تلاميذ أهوائي وأحكامي
والآن أشهد أني كنت واحدهم
وبينهم من لهم حذقي وتعليمي
ولا أرى لي ذنبا قد أسفت له
غير انتقاصي الألى حذقي يدين لهم! •••
فلم يجبه إله الناس، واستمعت
له الحياة استماع الأم للولد
وهونت عبئه فالكل قد نشأوا
في حضنها ولو ان الكل في حسد!
الألم الإلهي
حملت عن الناس أحزانهم
وأشبعت نفسي وجدانهم
كأني الفداء لأرواحهم
وأني ضحية تبريحهم
فما قنعت مرة بالخيال
منى مهجة تستطيب المحال
وتأبى إباء حياة القيود
وتفتن من كل حلم فريد
وتعمل للمثل العاليه
فتطعنها المثل الباليه
ويثأر منها الزمان الحقود
ويسخر منها ظلام الوجود
ولكنها إذ تعاني الألم
ترى فيه معنى يفوق الشمم
ومن يتمرد على دهره
يذق راضيا منتهى شره
رسالة حي يريد الحياه
سموا تناهى إليه الإله
وليست وجودا قرين الممات
يصد الجمال ويبقي الرفات
تضمن قلبي جميع الوجود
وقدسه في شعور يجود
شعور من الألم الدافق
حوى لوعة الخلق والخالق
صائد النغم
هلما صديقي العزيزين واغنما
من الصفو ما يهواه مستمعان
ففي كل شبر للهواء عواطف
وفي كل خفق للأثير أغاني
تناجت بها الأرباب من كل جانب
ويخطفها العباد وهي دوان
فتغنم أعمار من الأنس حولها
وتولد أحلام لهم وأمان
أدرها على سمعي كأني بسمعها
أذوق سلاف الخلد بين غوان
سمونا إلى الأرباب بالروح والمنى
ونلنا من الأرباب كنز معان
وليست عصا موسى بأروع سحرها
من السحر في مفتاحها ببناني
تطاوعني أسرارها وبيانها
وقد شملت أسرار كل بيان
أجازت لنا التجوال في الأرض كلها
وفي غيرها في لمح بضع ثوان
فما هذه الدنيا التي نحن أهلها
سوى بعض دنيا سخرت لجنان
ولو أن عصر المعجزات التي خلت
أعيد لدان الناس دون توان
صائد النغم.
هو العلم لم يترك مجالا لجاحد
وسابق أجيالا سباق رهان
ففاز بمجد للنبوة شامل
وهام بشأو للألوهة دان!
ولم يبق إلا أن يحاول مبدعا
عوالم أخرى أو نعيم جنان!
وأن يصبح الإنسان ربا مهيمنا
على الروح يرضى أمره الحدثان!
الزائرة
أجمال الوهم أم مرآك أنت؟
ورؤى الدنيا أم الأخرى أبنت
قبر الحب بصدري، وحياتي
لم تكن إلا مماتا في ممات
كيف حللت لها هذا النشور
وأنا الأعشى فهل أغنى بنور؟!
أنت يا معبودتي أنت أمامي؟
أكذا السخر بحبي وهيامي؟!
لا تزوري حينما روحي لديك
تتلاشى في أغاني شفتيك
لا ترديها إلي في رضائك
إن حرمت القلب عمرا من بقائك
نبئيني: هل هو البعث الأكيد
هل أرجي منك نورا لن يبيد؟
أنت يا من صغت أكوانا عديده
أتصدين منى نفس وحيده؟
هل لها إلاك دين أو وطن؟
أو لها إلاك رب يؤتمن
كل ما أعطيته حظ مديد
كل ما أغفلته عقبى الشريد
آه مما يدفن النسيان آه
بين آجال تلاشت في تلاه
نبئيني يا حياتي: هل رجعت؟
أم أطلت النأي إذ لحت وبنت؟
رب وصل هو هجر في احتيال
رب صدق هو وهم وخيال
نبئيني واغفري صمتي الطويل
في سكون ملؤه الحلم الجميل
في ذهول بين ألوان الجنون
أتملى النور والحسن الحنون
في عبادات تولت بي سراعا
وسقتني خمرة الخلد ابتداعا
وإذا الأطياف حولي راقصات
وإذا الأرباب بالخمر السقاة
وإذا النشوة تحدو بي للثمك
وإذا اليقظة تأبى غير رسمك
نبئيني! هذه البسمة نمت
إنما نفسي بآمالي تغنت
وغناء النفس للحب طويل
ودموع النفس في ستر ظليل
فابسمي يا ربتي فالنور طبي
وانشري النور على دمعي وقلبي
واذكري لفظة عطف تغتنم
ترقص القلب على سحر النغم
كم تفانى راقصا كالثمل
حين سكر الهم سكر الأمل
وله الآن حقوق في حماك
لن يرى الحب سواها وسواك
حدثيني عن أعاجيب الجمال
كيف يطوي حينما يبني المحال
كيف يرضانا رعاياه ويأبى
أن نغذى منه إلهاما وحبا
هذه الوقفة طالت في خشوع
وفؤادي مثل عيني في دموع
وقفة كانت سجودا من شعوري
نظرة كانت خشوعا في ضميري
لحظة قد خلتها العهد الطويل
زخرت بالمستعز المستحيل
وبها الآمال تجري والشجون
في سباق واصطدام وجنون
وبها الألوان من أحلام شاعر
تتجلى بين مأسور وآسر
وأنا العبد الذي ناجى الإله
ورأى رؤيا عيان منتهاه
ورأى ألف ذنوب وعذاب
ورأى الغفران من بعد الحساب
ورأى المعبد في رقعة أرض
ورأى الجنة في لمحة غمض
ورأى الثأر من الدنيا ينال
ورأى الإحسان معنى للجمال
فإذا لقياك يحدوها الوداع
بسمة مرت كخطف من شعاع!
المعاني
وهبت لك الفؤاد فما لقلبي
ملاذ غير حسنك أو أماني
إذا ما غبت عني كان حالي
كحال مشرد في البؤس عان
وما لفتات لحظي للغواني
سوى لفتات قلبي للمعاني
أحاول أن أرى فيهن مغزى
جفائك لي ومغزى من حناني
فتضطرب المعاني في خيالي
وتضطرم الأماني في جناني
وأحرق مهجتي الحيرى صلاة
وقلبك صادف عني وهاني
وأرجع خائبا من غير معنى
سوى معنى التحرق والتفاني
تمر مشاهد للحسن حولي
فيعشقها ويطريها لساني
ويأباها فؤادي في جموح
كأن رضاءها بعض الهوان
ومن عرف الغرام لديك ينسى
معاني للغرام وللحسان
الجمال الموحد
روح الأنوثة والجمال تمثلت
بك، ثم روح طفولتي وغرامي
ألقاك لقيا الخلد والدنيا معا
وأراك رؤيا الحظ والأحلام
فإذا نأيت جعلت ألتمس الهوى
والحسن بين مصادر الإلهام
فأعود محروما وإن حسب الورى
همي صفاء الشاعر المتسامي
وحدت فيك صبابتي وعبادتي
لما جمعت مفاتن الأيام
وعجزت دونك أن أبل تعطشي
من كل نبع للجمال أمامي
أنا لا ألام بحيرتي وتلهفي
لما نأيت، وكيف كيف ملامي؟!
من كنت أنت له الغنى لم يغنه
عوض من الإحسان والإنعام
نعمة الحياة
ولو أنني لم أحي إلا لكي أرى
جمالك في هذا الوجود قريبا
لما كان عيشي غير نعمة ظافر
فكيف وقد بات الجمال حبيبا؟
فلا تحرميني نعمتي وعبادتي
ببعدك في دنيا خلقت جمالها
ولا تحسبي هذي المرائي كفيلة
بأنس إذا لم تمنحيها وصالها
المسحورة
الزنبق المسحور يرقب حسنها
ويهم يلثم وجهها ويثور
فيصده الطهر المعز جمالها
والنور يعبد نورها ويمور
عرضت عليه فتونها في جلسة
الحلم فيها الفاتح المنصور
ونضت ثياب الناس حين دثارها
مهج وفن رائع وسرور
نامت كنوم الزهر وهو معطر
والجو من أنفاسه مغمور
وتزاحمت للذكريات أشعة
والذكريات جميلها موفور
نامت على إلهامها ونعيمها
ومن التخيل نعمة وحبور
وقد احتواها الصمت في إيوانه
وكسا الجمال المستقل النور
يتأمل القدر العتي بهاءها
طربا ويرعى الحسن وهو فخور
ما كان مثال يقدس فنه
بأحق من وحي له التعبير
جمع الجمال مع الجلال حيالها
فتشربته عواطف وشعور
يتذوق الفنان من تكوينها
وكأنه نغم سرى وعبير
ويحار في السحر الذي خضعت له
حين الوجود إزاءها مسحور
وكذا الحياة عزيزها كذليلها
ولقد يساوي الآسر المأسور!
نفرتيتي والمثال
نفرتيتي والمثال: «تمثل هذه الصورة الفنية المثال تحتمس وهو مكب على نحت تمثال للملكة نفرتيتي الجالسة أمامه في القصر الملكي بمدينة أخيتاتون
Akhetaton «تل العمارنة» عاصمة المملكة المصرية في ذلك العهد، وقد تملكه حبها فجعله يتلكأ طويلا في نحت التمثال، ثم أخذه إلى بيته وجعل من إحدى مقاصيره هيكل عبادة لهذا التمثال الذي مات صاحبه دون أن يتمه مفتونا بروعتها وجمالها.»
سماء لديها يعبق الحب والمنى
وفيها خيال العابدين تناهى
تقمص فيها الفن إحساس عاشق
يمثل حسنا بل يصوغ إلها!
تملكه الروع العظيم فإنه
يترجم عن روح الحياة مداها!
فيرفع لحظا ما تعود رفعه
إلى من أذلت بالجمال جباها
هو الفن سلطان على كل دولة
يبدل من ضعف النفوس قواها
ويكسبها من بعد فقر لها غنى
وأي غنى لولاه بز غناها
تأمله بين الحب والفن مبدعا
له جرأة في خشية تتلاهى
وهاتيك بنت الشمس في عرشها استوت
وحسبك من روع الشموس سناها
تجلت لنا في عزة حينما بدت
له مثلا أعلى وليس سواها
ففي كل مرأى حولها عالم له
يفيض بإحساس ويشرق جاها!
وما فاح عطر للبنفسج قربها
كعطر ومعنى للملاحة فاها!
تحدث منها كل لون ونشوة
حديث فتون للنفوس كفاها
وتلقى تهاويل الجمال حيالها
رهينة تقديس تؤله فاها!
فيا غبطة الفنان والدهر حاسد
روائعه والفن بات رضاها
تطاوعه في جلسة الصمت لذة
ويفصح هذا الصمت فوق لغاها
ويجبل للتمثال حسنا، وعنده
تفننه عجز وليس مناها!
وقد تخجل الأصباغ في ريشة له
من الوصف عما شاقه وحكاها!
فيبقى مدى الساعات في اليأس والمنى
وينشق ما شاء الزمان شذاها
ويخبأ في البيت المقدس معبدا
مفاتنها: تمثالها وحلاها!
فينصفه حتى الزمان بحرصه
قرونا على إبداعه وهواها
ولم يكمل التمثال، والفن صافح
فمن ذا الذي صاغ الجمال إلها؟!
شراب الفنان
جاءت متوجة تأله درها
في ثورة ويحفها الإزباد
فكأنما سالت بخفق جوانح
وبكل خافقة
11
هوى وفؤاد
ويذوب مثل الحظ تاج سنائها
إن سوف العشاق والعباد
صبت من الدن الطهور وعمرها
حدث، ويخطئ عمرها الميلاد
وتوهجت بالحب في زهو الهوى
وصفت وملء صفائها الأعياد
قطفت من الأفلاك في عيد لها
فتبسمت وتبسم الأنداد
شربوا على نخب الولاء لأهلها
12
فأضاء فيها الكوكب الوقاد
ليست مذابا للشعير وإنما
في طيها اللذات والآباد
أرغت كعابسة الغيوم هنيهة
ثم استتب لها هوى ومراد
فإذا الحياة لآليء في تاجها
نشتاقها، وإذا الممات بعاد
هات اسقني هذي الحياة بما وعت
أيكون من دون الحياة معاد؟
أو هاتها أخرى تجدد نعمتي
فيكرر الإحسان والإيجاد
ما العمر إلا ما تذوقه الفتى
إن الحياة مرارة وشهاد
فإذا شربت فأنت خالق ما ترى
ويعيش ملء شرابك الأجداد
عيش يباركه الزمان وما له
حد، وما يهوي إليه حداد
هذا هو الطرب الشهي، وربه
رب تبدد دونه الأحقاد
ويصفق الفن القرير بروحه
ويرق منه شرابه ويعاد
غذاء الآلهة
خطفته من زهر الجنان وأقبلت
كالحور رش ثيابها النوار
وتعطرت بنوافح علوية
جادت بها الأملاك والأقمار
صبت على الأزهار في أضوائها
ونمت بطهر غذائها الأزهار
خطفته عاجلة كأن حياتها
هذا الرحيق فهانت الأخطار
ومضت به والجو مضطرب الذرى
ومن الأشعة جحفل جرار
والشمس تحسدها وقد حملت غنى
هو للحياة تحية وشعار
خاضت به بحر الأثير وأقبلت
بالكنز يحرس سعيها المقدار
وتلقفتها الصاحبات وأسرعت
فإذا الخلية روضة معطار
قد بارك الأرباب ما ذخرت بها
واستمرءوا هذا الغذاء وطاروا
خفت به أرواحهم فكأنهم
في الحلم ما تتخيل الأشعار
وكأن هذي النحل آلهة فما
ترضى سوى ما تلهم الأقدار
عاشت بإكسير الحياة وعمرت
أقراصها الأسحار والأنوار
يترقرق الشهد الجميل بها كما
في الفجر يبتسم الهوى السحار
من لم يذق هذا الشهاد فما له
في الخالدين مكانة ومنار
حرصت عليه فجندت ما جندت
وهفت له الأسماع والأبصار
واستوثقت منه بختم بيوته
وكأنه الأسرار والأعمار
وغدت ترتل حوله صلواتها
ويخال ملء صلاتها المزمار
فخشعت في حبي لها، وكأنني
منها، فقد تتحول الآثار!
ممات الحب
إن كنت آثرت حرماني الهوى الآسي
فأين أين ضراعاتي وأنفاسي؟
أين اللهيب الذي أحرزته قبسا
من شعلة الحب: من قلبي وإحساسي؟
أين المعاني التي أرسلتها قبلا
إليك ساخرة من أعين الناس؟
أين الجمال فنون الشعر أعصرها
من مهجتي لك قبل الراح في الكاس؟
ردي إلي ديونا قبل أن تضعي
حكم الفناء وترضي خطة الناسي
ردي قليلا وقصي مصرعي صورا
من الوداع بسمع الورد والآس
وعذبيني لقاء كله شغف
وقطعيني وصالا كله قاسي
حتى أموت قريرا موت فائرة
13
تفجرت بيد كانت يد الآسي
هذا هو الموت أحلى ما يكون هوى
بئس الممات بكأس من يد الياس
وصف
ناشدت وصفك حين وصفك نام
في هذه الخطرات والأنغام
تتأمل الأحلام في عينيك ما
يتأمل الهاوي ويهوى الظامي
دنيا من النعم التي ما حدها
حد من الأحزان والآلام
عودي إلى رقص الشباب بخفة
من كل فتان ومن بسام
وتفنني بالوضع في صور لها
صور من الإنعام والإلهام
وتدفقي نغما يسيل مع المنى
كمسيل رقصك في خلال ظلام
صوت تحن له ملائكة السما
ويبث في النور الطروب أمامي
غني وغني، وارقصي وتبسمي
وتفنني للحب والأحلام
أنت المؤمرة العزيزة دائما
فالفن مخلوق لعيش دوام
تتجمع اللذات حولك معرضا
كتجمع الأشواق للأيتام!
وتدور حولك للخيال سوابح
سبح العواطف حول شمس غرامي!
لا عاش من لم يغتنم بك لذة
من هذه الألوان للأيام!
قطفت لوجداني الحزين صبابتي
منها الشفاء وللفؤاد الدامي
وأخذت أنظر ثم أنظر ناهلا
عذب الدواء لجرحي الملتام
حتى شفيت، فكان وصفك هكذا
دينا علي، فهل رضيت هيامي؟
ذكرى سيد درويش «لمناسبة مرور خمس سنوات على وفاته»
تبسم! فهذي نفحة منك طالما
تبسمتها لحنا فطاب غناء!
تبسم برغم الموت فالموت صورة
من العيش تستوحى، وليس فناء
مضت هذه الخمس السنون ولم نزل
حيارى وحار المبدعون سواء
أقلب طرفي فيك والرسم مفصح
ظريف يحيي الشعر والشعراء!
فأذكر بؤسا للنبوغ بأمة
أحق بها أن لا ترى البؤساء
وهبت لها إبداعك الحر زاخرا
ومت فما جازت نداك نداء
أتهتف بالأسماء من كل بقعة
وتنسى هزار «النيل» حين تناءى؟
كأنك ما غنيت فيها ولم تصغ
لها معجزات العازفين هناء!
وبالأمس كم عوديت من كل مدع
فعادى مناها من رماك عداء
يظل رجال «الفن» بعدك هكذا
يودون عهدا كنت فيه رجاء
يئنون في ألحانهم من تذكر
فكل أنين بات فيك رثاء!
على أنني لو كنت خير ملحن
وكنت المجلى روعة ورواء
لأنطقت من قيثارة الفن آية
أجل تزيد «الدهر» فيك بكاء!
وأرسلتها ثأر النبوغ ببيئة
يلاقي بها شر العقوق جزاء!
الفن الشهيد
الذكرى التاسعة للمرحوم الشيخ سيد درويش، 15 سبتمبر سنة 1932:
ذكرى تجل على مدى الأعوام
كالفن في ملكوته المترامي
طبعت مآثرها بأحلام النهى
وزهت على الأشعار والأنغام
من أي نبع أو بأية آية
لسواه يحمد ذلك المتسامي؟
الميت الحي الذي من وحيه
لغة القلوب ونشوة الأحلام «السيد» الغرد الصناع بنفسه
والخالق المعصوم من إبهام
الضاحك الباكي بكل يتيمة
ولدت من الأتراح والآلام
خلدت وإن أفنت أبوتها كما
يفنى الضياء مسارح الإظلام
مصرية النفحات إلا أنها
كالنفس أخلد من لغى وكلام
وطن البلابل والأزاهر زفه
للفن بين كواكب الأعلام
المحسنين إلى الحياة بروحهم
كالأنبياء تقدسوا عن ذام
الفن طهرهم كما قد طهروا
صور الوجود بنغمة وسلام
ولو ان منهم من تذوق عمره
سوء الجزاء مرارة الظلام
الهادمين العبقرية حينما
لا يهدمون مصائب الأيام
دنيا أعاجيب يحار لها الحجى
وتغيب حكمتها عن الأحلام
حتى كأن العيش ليس سوى الردى
وكأن هذا الموت عمر دوام •••
اليوم يومك يا شهيد غرام
يا بائع الإبداع بالأسقام
يا واحدا في روض مصر تطلعت
شتى الرياض له وللإلهام
أوحيت ذكرك لي ولحنك مالئ
لبي ورقص الفاتنات أمامي
العارضات جمالهن قصائدا
للحب في صد وفي استسلام
والنابضات بكل ألحان الرضى
والحظ بين تهافت اللوام
شعر الحياة ووقعها ما أبدعت
هذي النماذج من جمال سام
ما كن أجمل لي من الرسم الذي
لك في عواطف وجهك البسام
الساخر الهازي من الدنيا التي
خذلته بين مظاهر الإنعام
حتى انتهى ومضى بحسرة يائس
جم الغنى عن دهره المتعامي
والناس في جهل بآية فنه
والآن كل في التحسر ظامي
ويرتلون لك الرثاء ولم تزل
أنت الغني عن البكاء الهامي
ما أصغر الدنيا التي تفني العلى
وتعود تبكيها بقلب دامي
الجحود
وكم مغرق خصني بالمديح
تخيلته مثل هاج يغالي
أقضي الحياة على غصة
وأسقى الهموم على أي حال
ومن لم يطق أن يبل الصدى
فهيهات يغنى بنهر زلال
مرضت وقد بخلوا بالدواء
وجادوا بأوسمة للمعالي
وماذا انتفاعي بأمداحهم
إذا مت من حرقة واشتعال؟!
أضعت السنين لهم رائدا
وما ندمي للسنين الخوالي
ولكن شجوني على حالة
يسام بها الحر خسف الضلال
ويلقى الجحود جزاء له
جحود الفعال وبر المقال!
فيا مادحي لا تكن مسرفا
فرب مديح كرشق النبال
ورفقا بقلب برته الهموم
وما زال في خفقه لا يبالي
يكافح حتى الشعاع الأخير
ويخذل ما بين صحب وآل
ولو أنهم قدروا نبله
وصانوه مما جنته الليالي
وأحيوه من بؤسه وهو قبر
ومن شقوة فوق كل احتمال
لألبسهم من معاني الفتون
وخلدهم في بيوت الجمال
صائد الخيال
وقفت على ضفاف اليم ألقي
شباكي طالبا أقصى المحال
وما بحر الحياة بمستعز
على من كان صياد الخيال
فما لي قد عثرت وضعت مني
وخانتني الشباك وساء حالي؟
فهل دنيا الخيال تهون صيدا
وليس بهين صيد الجمال؟!
الماضي
ودعت من قلبي الوفي حبيبي
ومن الوداع حلاوة التعذيب
سأعيش للماضي العزيز فإنما
أودعت في الماضي أعز حبيب
ما كان عيشي الآن أو هو في غد
إلا من التشريد والتغريب
تزكو القلوب بنفحة لروائها
وتجف إن حرمت حنان قلوب
عاصفة الربيع
ضنت الشمس بألوان الربيع
أم كبا النور كحظي بدموعي؟
عصف الجو بلفح من ضرام
وعجاج كشقائي في غرامي
أتراه من زفير وأنين
سوف يمضي كعذاب العاشقين
ويعود الجو أصفى ما يكون
كصفاء الحب من بعد الجنون؟!
ضنت الشمس وكم ضنت وضنت
حينما أنفاسي الحيرى تمنت
ضنت الشمس وكم للشمس بخل
بينما يستبعد الحرمان عقل
وكذاك الحسن في البخل عجيب
حينما الحسن غذاء للقلوب
من ترى يرعى هواها ومناها
وهي تفنى في تناسي من براها؟!
أكذا في النور يغشانا الظلام
ونعاني في حمى الطب السقام
أي معنى لربيع فيه نشقى
ونذوق الحب إرهاقا ورقا؟
يا حياتي كيف ترضين البعاد
في أوان الحب حتى للجماد؟!
أعرفت الهجر من هذي «الطبيعه»
أم تلقت عنك ما أضحت مذيعه؟!
ابسمي يا ربتي يبسم وجود
كل ما فيه جحود في جحود
ما زفير النار في هذي الجنان
وبها الإحسان من طبع الحسان؟!
إنها سخر من الدنيا بقلبي
بعد ما عذبته من أجل حبي
أقبلي فالطير نادى إلفه
ثم ألقى كل عان خوفه
وتخلى عن مآسيه اليتيم
وتبناه ضياء ونسيم
واستعد الكون للعرس الجديد
فإذا بالعرس مأساة الوحيد
آه مما يصدع المهجور آه
بينما الدهر بسخر متناه
فيلاقي الصيف إبان الربيع
ويعادى حينما عز الشفيع
وإذا الإعصار أدنى ما يلاقي
وإذا الإظلام عنوان الفراق!
صوت الشهب
حرمنا من العيش الهوى والأمانيا
كأن لم يكن فرط الفجيعة كافيا!
ومن يكرع الأحزان لا يرتوي بها
ولم أر مثل الدهر بالحزن ساقيا
وما بسمتي والوجد ثاو بمهجتي
سوى بسمة النيران تشعل داجيا
فيا نفس عيشي لاحتراق مجدد
ولا ترقبي إلا التألم صافيا
ولا تأملي إلا الدخان مصافيا
ولا تحسبي غير اشتعالك آسيا
ومن ينشد الحب الذي ما له مدى
يمت كممات الشهب حيران هاويا
بذا قضت الأحداث في كل عالم
وما شذت الدنيا لمن طار عاليا
نفسي
أجوب بنفسي باحثا وكأنني
بكون يحار البحث فيه بل العقل
يتيه بصير في مداه وأحمق
كما يتساوى عنده العلم والجهل
جبال وأبحار ودنيا عريضة
ضللت بها في حين أحجى الورى ضلوا
ففيها الصحاري والمجاهل مثلما
بها من فراديس المحبة ما يحلو
عييت بكشفي عن مداها وسرها
وحالي كحال الرائد الحر لا يألو
ومن كان في تيه بعالم نفسه
أيبلغ سر الكون وهو هو الأصل؟
شتاء الحياة
تشجع أيها القلب المعنى
فقد بات الشتاء دجى يطول
تحف بك العواصف وهي ثكلى
ويفجعك التناوح والعويل
تنوح على الفصول وقد توارت
بآلاء لها تلك الفصول
كذلك أنت يا قلبي بعصف
تزول الحادثات ولا يزول
ومن طبع الشجا فيه انطباعا
أيغسله الترنم والهديل؟
وقد غمر الأسى شتى المجالي
فغاب البشر والطبع الصقيل
كما هوت الثلوج على مروج
فكفنت الحزونة والسهول
تشيم بها الحياة ولا حياة
وتلقى الدر غايته الوحول
كأن الأرض عمرها نفاق
وأفسد نورها نور دخيل
تشجع واحتمل يا قلب فردا
فليس يدوم للعاني خليل
وليس بمخضع للدهر حصنا
سوى من لم يرعه المستحيل
عبث الدنيا
للشعر وحي لا يحن لعالم
إلا إذا لاقاه بين عوالم
وحقائق الدنيا المجردة الأسى
ومغارم موصولة بمغارم
مهما كساها الشعر حلية فنه
فالقبح سوف يطل بين مباسم
دنياك يا خلي مسارح نضرة
لكنها سكنت بهم دائم
أنا لا ألوم سخاءها لمنغص
أفراحها ووفاءها للنائم
طبع الغواني اللاهيات طباعها
الماشيات على بساط جماجم
يجمعن بين مفاتن ومصائب
ويسرن بين أزاهر وأراقم
لم يبق للحر النزيه حيالها
إلا التدرع بالثبات العاصم
الحر يأبى الظلم من أربابه
ولنفسه تلقاه أقسى ظالم
عش بالكفاف إذا استطعت محررا
عن زهو عيش في إسار هازم
الإقدام
إلى الصديق الدكتور محمد شرف بك لمناسبة مثول الطبعة الثانية من معجمه الطبي العلمي الشهير للنشر:
أعدت جميل الطبع في طبعة حوت
من العلم ما يثني عليه قصيد
وما «المعجم» الحالي الذي عاد باسما
سوى نور عيد حين يشرق عيد
تلفتت الآداب والعلم والنهى
إليه، وحيا بهجتيه نشيد
حوى بهجة الإتقان في كل صفحة
ففي كل وجه للبيان نضيد
وحاز له من ثروة الفكر بهجة
ونزهة من يلقاه وهو عميد
14
ألا في سبيل النفع ما قد بذلته
وللمجد هذا الفضل كان يشيد
فأنفقت عمرا دائبا في تفرد
لتغني، فتم الكنز وهو فريد!
بعثت ألوفا من معان دقيقة
يزاد على نبراسها وتزيد
وكنت فتى الإقدام رغم مصاعب
ترد نشيط العزم وهو بليد!
سنون توالت في هموم أثيمة
وأنت صبور جاهد ورشيد
تفتش عن لفظ مئات صحائف
كما فتش الغواص وهو وحيد!
وتنفق مالا دون عد محققا
وتنسى الذي أنفقت وهو عديد!
وتقضي الليالي ساهر الطرف عانيا
إذا بات يلهو غافل ووليد
وتمضي ارتحالا دون نسيان واجب
وكم في الصحاري للجهود شهيد!
15
وتنفض أجواز الفلاة ولم يكن
يصدك بأس القيظ وهو شديد
فضيعت عمرا للمعارف والورى
وما ضاع عمر في الصلاح أكيد
غنمت بما أنفقت عمرا مخلد
وإن قيل حظ النابغين شريد! •••
فيا «شرف» يكفيك أنك موجد
حياة يراها مائل وبعيد
بل انتعشت «للضاد» في عالم لها
كرامة علم، بل وعاد فقيد
وعيدت الفصحى لأجلك مثلما
تسامى لها صوت كذاك جديد
فإن لم تنل في «مصر» قدرا مبجلا
فكم هان فيها نابغ ومجيد!
وما زال فيها للأصاغر دولة
وكم مات تحت الأدعياء شهيد!
فحسبك مجد لن يموت وهمة
تفل صعاب البحث وهي حديد!
وحسبك ذخرا لذة العلم وحده
ومن نال هذا العلم فهو سعيد
وحسبك ميتا في الورى ألف حاسد
يعض بنان العجز حين يجيد!
ألست الذي ألفت ما لم تقم به
محافي
16
بلاد جهدهن جهيد؟
ففي ذمة التاريخ إقدامك الذي
يتابعه الرواد وهو تليد
وللفن والعلم الشريف تحيتي
وما الشعر في هذا الجلال زهيد
دوافع توحي الشعر غير مسخر
وما كل شعر الحامدين حميد
ويا ليته كان الوسام الذي له
كفاء غنى أسديت وهو سديد
التاج
عبث الذين بنوا لمصر رجاءها
برجائها في شهوة الأحقاد
كل يرى العار الشنيع لنده
وكأنهم ليسوا من الأنداد
يتقاتلون ومصر ترزح تحتهم
وتداس بالأقدام بين عواد
ولو انهم عرفوا الحقوق لأنصفوا
إن العناد مولد لعناد
اليأس يملأ مهجتي في حسرة
وأعب منه كما يعب الصادي
تجري السنون ونحن نصغر إثرها
وكأننا نفنى فناء جماد
لم يبق ملتجأ يطاف بصرحه
إلا حمى الملك العظيم «فؤاد»
فالملك عبء للهموم، وتاجه
ألق يلاذ به وليس يعادي
الوهم العميم
غذينا بالتفاؤل فابتلينا
بسوء الهضم والطبع السقيم
فوا أسفى على خدع توالت
يهيئها الحميم إلى الحميم
ووا لهفي على زمن لبثنا
نضيعه على الوهم العميم!
ويبهجنا ارتشاف السم حلوا
وليس مرارة الطب الحكيم
علام تفاؤل الأعلام فينا
ونحن من العديم إلى العديم؟
ولو شاء المنجم أن يرانا
لحار من التوسل بالنجوم
ونحلم بالنزاع ونشتهيه
كأن الخلف من خلق الكريم
ويرجم بيننا الرجل المضحي
ويرفع فوقنا الرجل البهيمي
كأن مبادئ الإعزاز حالت
وبات المجد وقفا للئيم
وصار المحسنون يراع منهم
ويخشى الفضل كالذنب العظيم!
الوصايا المنبوذة
لم تبق من «سعد» لمصر وصية
إلا تهاونا بحق بقائها
العام مر، فمر بعد وفاته
حلو الإخاء لمصر في أبنائها
أسفي على الأعذار وهي كثيرة
جعلت مواطن دائها بدوائها
تهم تكال بلا حساب مقنع
للساكنين الخلد من شهدائها
كل يبالغ في العداء لنده
ماذا ترى تركوا لدى أعدائها؟!
كل يفاخر بالشتائم عدة
ويلوم حين يلج في غلوائها!
لو صح هذا الاتهام لقوضت
هذي المصائب من شموخ رجائها
أسفي على روح التحزب إن قضت
بالطعن في الأخيار من عظمائها
ما النفع من هذا الغلو بكيدكم
ما دام يعني الرزء في أحيائها؟
إنا ليعوزنا هدى قومية
في سعينا الأوفى إلى إعلائها
إنا لأحوج من دخيل غالب
لنبالة الأحكام في إرضائها
وأرى المحال النصر بين تفرق
وتنابذ مفض إلى ضرائها
فإذا حسبتم في الخلاف سياسة
فأرى الوفاق معززا لمضائها
وإذا ظننتم في التحزب حكمة
فأرى التوحد منعة لبنائها
من عاش عيشة نفسه أو حزبه
في أمة فلقد يعيش كدائها
والحب أنفذ من عناد باطل
بأسا، وأشرف غاية لندائها
الشعراء شيء والعالم شيء آخر
1
قالوا: نأيت عن الجمال الضاحي
وهجرت صورته إلى الأشباح
قلت: اطمئنوا فالحياة ذميمة
لولا بقية سلوة في الراح
الكأس أطهر من سريرة كاذب
وأعف من متملق ووقاح
ما عابني إلا سلامة نيتي
وترفعي عن أخبث الأرواح
إني خلقت من الدموع فلا أرى
إلا جمال مدامعي ونواحي
أقسمت بالورد الذي أصبو إلى
أنواره وأريجه الفواح
وبشعر «أحمد» أنني لا أتقي
في الورد غير الشوك شر سلاح
خير لمثلي أن يموت تعففا
عن ماء قوم لم يكن بقراح! •••
قل للطبيب الفيلسوف: ألا ترى
رأيي فإنك حجة الإصلاح؟
أولم يقل بالأمس قولة نابه
نمشي بنور ذكائه الوضاح: «والسيد الربان يبلغ شطه
فينام نوم الظافر الملاح» «يغفي فيحسده دعي لم ينم
والنوم رمز تغلب الطماح»
17
هذا وربك بعض ما أدركته
بين الرفاق وأنت أعدل صاح
كم طرت بين صحابتي وعشيرتي
في العالمين وكنت أنت جناحي
أعزز علي بأن أراك معاتبا
في عتبه مقة وبعض تلاح
لك ما تشاء من العتاب وإنما
أرجوك ألا تنبشن جراحي! •••
يا سيد الشعراء في تجديده
وأخا البيان وحجة الإفصاح
مر ذلك «الشفق» الذي أطلعته
أن «يبكين» لليلتي وصباحي
فحجاك موفور وقولك حجة
ورحيق شعرك نشوة للصاحي
والعطف كل الشعر فابعث وحيه
في الروض بين قرنفل وأقاحي
محمد فضل إسماعيل
2
هون عليك فما عتبت مخاصما
ومن العتاب مدامتي ومزاحي!
واشرب كئوس الراح غير مذمم
فلرب شعر فيه لطف الراح
لك ما تشاء من الوجود وأنسه
واترك حديث مدامع ونواح
ما صوح الأمل الجميل سوى الأسى
حين الرجاء مبشر بصباح
فدع الأسى وارقب صباحا آتيا
وانشق شهي أريجه الفياح
سبق الأشعة مثل أحلام الصبا
وأطل فوق بنفسج وأقاحي!
فاملأ فؤادك من ذخيرة آمل
وانظم بروح الشاعر المفراح
إني الغني عن الشروح، فلست من
يصغي لريبة شانئ ووقاح
فتخل عن أوهام ودك آمنا
ما كنت من ينسى وفاء الصاح
وتعال في نهجي الكفيل بنعمة
من فضل بشر «للطبيعة» ضاح
حيث العوالم إخوتي، وسعادتي
ممزوجة بتحرقي وكفاحي
لي كل ما جمع الوجود من المنى
في النور والأزهار والأدواح
ولي العظائم في التأمل سابحا
في الكون خلف الكوكب السباح!
ولي الحقيقة تاج كل معارفي
وكذا الحقيقة في الحياة سلاحي
ولي الحياة كتاب شعر مفصح
أتلوه في شغف بنشوة صاح
ولي التبسم لا الدموع مبلغ
صلتي بدنيا الحب والأرواح
فأعيش عيش الحلم لكن دائبا
مترفعا عن ريبة وتلاح
والله لن تلقى الحياة ذميمة
إن شئت بل تلقاك بالأفراح
حزن الحياة كصفوها، وجميعها
صور من الأوضاح والأشباح
فإذا أسيت رأريتها ظلما على
ظلم، وإن لم تأس طاب مزاحي
أحمد زكي أبو شادي
بسيش وسربروسي «الحورية الحسناء وحارس قصر الموت»
1
أهلا «بسيش»
18
حييت أنت مثالا
للفن نستوحيه ما يتعالى
خلدت حسنك للمصور تارة
وهنيهة للشعر طبت خيالا
ويكاد «سربيروس»
19
وهو مروع
يشتاق حين يصور الأهوالا
يا دمية للحب، بل يا معبدا
للروح تستجلي به الآمالا
كل الذي مثلته وعشقته
حتى الممات نراه فاض جمالا! •••
كانت كمالا لج في تأليهه «إيروس» لم يعشق سواه كمالا
غذى آله الحب من تكوينها
مرآه نورا رائعا وظلالا
وقع الأسير لها، وكم من آسر
أضحى أسيرا للجمال مدالا
أوفى عليها في إطاعة أمه
من ذا يرد لأفرديت مقالا؟
أوفى كمنتقم لغضبة ربة
جعل الجمال لها المحال محالا
غارت من الحسن الذي خلب النهى
وأغار في ملكوتها يتلالا
فإذا ابنها يلقي السهام مكبلا
بالحب، وهو الصانع الأغلالا! •••
لم لا تثور لأفرديت عزة
و«بسيش» تعبد كالإله تعالى؟
ينسى الرجال حقوق ربته وقد
تركوا هياكلها الحسان ضلالا
فتنتهمو الحورية الحسناء من
سحر الرشاقة وهو لا يتغالى
ومن السذاجة وهي كنز مفاتن
فمن السذاجة نعبد الأطفالا
إن الجمال هو الألوهة، فالورى
لا يسجدون لغيره إجلالا •••
لم لا تروع «أفرديت» لملكها
حين ابنها عن طوعها قد حالا؟
من ذا يصدق أن رافع مجدها
بسهامه يرتد بعد نصالا؟!
إن العقوق هو الممات بعينه
لمن استساغت طاعة تتوالى
عشق الفتاة وهام في تقديسها
وأرادها زوجا له فاحتالا
والحب أقدر من يخادع فاتحا
حتى ينال من الحرام حلالا •••
قضت الألوهة حينما حورية
تبني برب لا تراه مثالا
يستمتعان كما يشاء له الهوى
ولها، ولكن في الظلام وصالا
قد صانها في مخبأ لغرامه
جهلته حتى «أفرديت» منالا
فتملكتها للشكوك عواصف
ألقت عليها حيرة وسؤالا
كانت إذا أرخى الظلام سدوله
ألفته نعمى لا تحد نوالا
حتى إذا جاء الصباح تبددت
أحلامها ورأته هما طالا
وحدا بها الشك الأليم لظنه
خصما لدودا جانيا ختالا •••
فأبت إباء أن تعيش جهولة
بمآلها مهما استعز مآلا
ودنت قبيل الفجر نحو سريره
فإذا الجمال يزيدها إقبالا
وإذا الحنو لمن رأته جلالة
للحسن يرعش جسمها إذهالا
والزيت يسقط فوق كتف محبها
كالحب يشعل قلبها إشعالا
فصحا شقيا موجعا في نكبة
للحب حين طغى النعيم فزالا!
2
لقيت فتاها «أفرديت» فأدركت
ما كان فاصطخبت عليه ضراما
ريعت لثالوث الخيانة واشتكت
لزيوس
20
ترجو نقمة تتعامى
سألته تسليم الفتاة لبأسها
حتى تريها الذل والإيلاما
أما «بسيش» فقد تملكها الأسى
فرأت توعد «أفرديت» سلاما
لم تلق غير الموت بعض جزائها
وأبت لعمر في العذاب دواما
قد عضها التأنيب حين حنينها
لمحبها قد ضاعف الآلاما
ما سخط «أفروديت» مهما بالغت
في الثأر ثأرا، لا وليس حراما
فمضت تناجي «ربة الموت» التي
تهب الممات جمالها البساما! •••
وقفت «بسيش» بباب مملكة الردى
والموت من لسن له يترامى
ما كان إلا «سربروس» موكلا
بحراسة السر الرهيب دواما
فرأت ثلاثا من رءوس بشاعة
ورأت أفاعي بينها تتسامى
مرأى من الفزع المجسم حازه
شبح تجسد وحشة وظلاما
هو «سربروس»! فيا له من مشهد
يسبي العقول ويخذل المقداما!
لكنها رغم ارتياع جنانها
وقفت كما لاقى الحمام حماما! •••
راحت تيمم «برسفون»، وقصرها
كالموت أعيا سره الأفهاما
رأت الحياة زمامها في رشوة
للخلق حتى من يعاف حطاما
فتحايلت ترشو الممات فأدركت
عبر المحيط حصونه إقداما
عبثت بشارون
21
العجيب وبلغت
من «سربروس» هزيمة ومراما
شغلته بالكعك اللذيذ وسارعت
للقصر - قصر الموت - حيث أقاما
وهناك ألفت «برسفون» عزيزة
في عرشها بسامة أحلاما
قالت «بسيش»: «لقد جنيت جناية
كبرى وجزت لأفرديت مقاما
وسلبت «إيروس» الجميل غرامه
حتى غدوت به أذوب غراما
شقيت بنا الأم الحزينة حينما
فقدت بشاشتها أسى وسقاما
فلتمنحيها يا مليكة قبسة
من سحر حسنك شافيا قواما»
فتبسمت وتناولت قارورة
جاءت بها لتضمن الإلهاما
ومضت ولم تنبس بأية لفظة
وأتت بطب حير الأحلاما
ملأت به القارورة الحسناء من
سر خبيء عز ليس يسامى
فتناولته «بسيش» وهي بفرحة
تذر الخطوب أمامها إنعاما
ومضت كما جاءت إلى أن جاوزت
ملك الممات ولم تجز أوهاما!
3
حسبت لمسعاها المكفر رحمة
من بعدما ريعت به ألوانا
واستعذبت طعم النجاح فقبلت
في النور أرض معادها شكرانا
وتطلعت نحو السماء فأبصرت
فيها «أپولو» باسما جذلانا
وتنهدت للحب نهدة ظافر
فالحب يغمر كل من يتفانى
حنت «لإيروس» الجميل وهل سوى «إيروس» أهل أن ينال حنانا؟
رب الغرام فلن يعيش لغيره
سحر الغرام إذا تحجب آنا
حنت إليه وقد تملكها هوى
لا يعرف التقدير والحسبانا
واستعذبت روح التحدي في الهوى
إن التحدي يخلق الفنانا
لم لا وقد ملكت براحتها سنى
يذر الجمال مقدسا فتانا؟
لم لا وفي يدها الألوهة أودعت
فرأت بها خطر الممات أمانا؟
فالآن تعجز كل بأس قاهر
وترى الهوى مجدا حلا وتدانى
لكنها في حين فضت سرها
سقطت صريعته فهد وخانا
ما كان إلا الموت ما قد طالعت
من «برسفون» وإن يكن إحسانا
ما حسن ربته سواه، وما لها
إلاه حسنا خالدا ريانا! •••
ماتت ممات الحب في غلوائه
والحب تبعث روحه الأكوانا
فارتاع «إيروس» الجميل لموتها
واستلهم الأرباب والوجدانا
حتى أعاد لها الحياة فأمتعا
هذا الوجود ملاحة وجنانا
والحب يحيي إذ يميت، فلن ترى
إلا الممات يمثل الحرمانا
ميلاد الفجر
الشاعر الغزل الذي سحر الهوى
وسبا الجمال ورقص الأنغاما
فتنته معجزة السماء فلم ينم
يرعى النجوم وينشد الإلهاما
حتى إذا ما الفجر أقبل وحيه
والأرض تنفض حولها الأحلاما
ملكته أحلام الخيال فغاب في
لجج الخيال وفي الصلاة تسامى
خشعت مشاعره كأن أمامه «عيسى» يبدد وحشة وظلاما
لم يعرفا
22
بأب وزان كليهما
أم تضيء بطهرها الأياما
تبع «المسيح» الفجر في استهلاله
عهدا يرد الشك والإحجاما
غنت ملائكة الجمال بذكره
وأست بحلو غنائها الآلاما
فإذا الهواء تشبعت أمواجه
باللحن وامتلأ الفضاء سلاما
والبحر يرتقب الشعاع كأنه
لوح القضاء يسجل الأحكاما!
سكنت به الأمواج إلا موجة
ناجت فؤادا صاخبا وغراما
أمت رسول الشعر حتى قبلت
قدميه، مطفئة أسى وضراما
فشدا بلحن الحب ثم تشبعت
صور الوجود نشيده البساما
فحبت طلوع الفجر بالحسن الذي
سمعته منه مرتلا أنغاما!
القلق
أستقبل النعمى كأني حالم
ولكن أطلت العمر بالأحلام
وأنالها والحب في قلبي لظى
والخوف ألف شجى وألف ضرام
فكأنني النهم الذي تزجى له
طرف التنعم ساعة الإعدام
23
يترشف اللذات وهو كأنه
يترشف المعسول من آلام
هذي هي الدنيا: أحب جمالها
قلق وشعلتها دليل ظلام
24
الحزبية
وإني إذا آثرت رأيا أعزه
فلست على الإيثار بالرجل الحزبي
أرى الحق في الدنيا مشاعا موزعا
فكيف أقيس الحق بالبغض والحب؟
وأقهر نفسي إن تمادت بنزعة
فإن التمادي يشبه السم في الطب
قليل له فيه التعافي، فإن غدا
غلوا فقد يدني الممات إلى القلب
وما الفخر للعقل الحصيف بنزوة
يرى أنها تنئي عن الخير للخطب؟!
وأي جمال للتغالي إذا قضى
على الود بين الناس أو أمل الشعب؟!
إذا شغل الحراس شغلا بلهوهم
فلا تلم العادي إذا افتن في النهب!
فكيف إذا باتوا خصوما وكلهم
يكيد لمن بالأمس كان من الصحب؟!
هزيمة نفسي في مجال محبة
أحب إلى نفسي من النصر في الحرب
العزلة
لي فيك خير مؤانس وحبيب
فالدهر لج وزاد في تعذيبي
أم حنون أنت، أنت صفيتي
هيهات تخدعني خداع جنيب
محضتها حبي فما عبثت به
في حين قد عانيت لهو حبيبي
غاب الشعاع وأظلم الأفق الذي
كم كان مبعث شعلة لأديب
وأتى المساء فليس لي غير الرضى
بالليل معتكفا على تأديبي
جاوزت حد الأربعين ولم أزل
كالطفل محتاجا إلى التهذيب
فلجأت للأم التي هي موئلي
أولست أنت طبيب كل طبيب؟
كافحت عمري لا أمل لأمتي
وأنا أعيش بأمتي كغريب
وسبقت جيلي والزمان مرحب
فإذا الجحود طبيعة الترحيب
بلد تسود به السخافة وحدها
ويمجد المفتون بالتخريب
فترى المآسي فيه شبه مهازل
وترى العجيب لديه غير عجيب
وترى الفتوح هزائما لا تنتهي
وترى البطولة في سقوط مريب
ومن العجائب أنني عبد له
وكذا الأريب هواه غير أريب!
حظوظ الشعوب
يموت اللئيم ولا يخجل
ويشقى الكريم ولا يسفل
وما قيمة العلم عند النفوس
وليس لها معدن يصقل؟
جمال النفوس بتكوينها
وليس الجمال بما تحمل
وكم فنيت في الزمان الشعوب
وقد راح يحصدها المنجل
وعاشت على رغمه في الدهور
شعوب متانتها أكمل
حظوظ الشعوب حظوظ الدماء
فإن الدماء الغنى الأول
وما كرمت نطف للهوان
ولا حقرت عندما تنبل
لأهون أن يستعاد الزمان
من المجد فيمن هووا وابتلوا
وأدنى إلى العقل غزو النجوم
من الفضل في أمة تهزل
أبو الدستور
رثاء ثروت باشا
رويدك يا دنيا عبثت بنا ظلما
وكل رجاء فيك صار لنا حلما
عصفت بأعلام الديار فهدمت
نزاقتك الآمال في رزئنا هدما
ولو كان حي عمره مثل قدره
لهان علينا أن نرى عندك اليتما
فكيف وقد غيبت عنوان نهضة
لنا الأمس ثم اليوم قائدها الأسمى؟
فتى رغم سن للشيوخ وعلة
بنى مفردا أعلام قوتها الشما
مضى والد «الدستور» وهو سجيننا
حزينا كأن الرزء أورثه الحمى
مضى يوم أن صرنا نحس ببأسه
وحاجتنا منه زعيما ومؤتما
مضى تاركا ميراثه صدق حكمة
لدن كان أحجانا وأحصفنا أعمى
فبوغت «وادي النيل» في ليل نعيه
بكارثة خسرا وداهية سقما
أهابت بنا الدنيا لنعرف قدره
فلما عرفناه تولت به لؤما
وقد كان هذا الخطب إثما مروعا
ولكن لؤم الدهر ضاعفه إثما
يمر زمان قبل جود بمثله
وكم تورث الأحداث للأمم العقما
لقد كان بنيانا «لمصر» مبجلا
كما قد بنى تاريخها الناصع الفخما
مضى الرجل الصبار والجاهد الذي
يمثل عنصرا سوف نكرمه دوما
وما ريع في يوم الهزيمة، مبقيا
لسيرته الإجلال والأدب الجما
وشتان بين النصر والنصر ريبة
وبين جلال الهزم إن لم يكن هزما
مضى المدره الواعي البصير ومن له
مواقف تأبى في النوازل أن تدمى
همامة نفس كل صعب تروضه
تحوله سهلا وتجعله غنما
وتدفن في طي الرغام خصومة
فليس العظيم النفس من خاصم الخصما
تولى قضاء الناس حتى أبت له
مواهبه إلا قضيتنا العظمى
مضى ليس يزهوه الشموخ وإن تكن
مآثره تسمى لمجد ولا تسمى
لقد حاسب التاريخ قبل وفاته
وخلفه المديون يحمده اليوما
وكم من عظيم مجده مجد غيره
وقل الذي يعطي الورى مجده الضخما
ليكرع بنو «مصر» الردى فيك مثلما
تجرعت في إنقاذ سمعتها السما
ليبكوا بكاء النادمين وإن تكن
مضت فرص كانت أجل لهم حكما
ومن لج في العدوان من دون حاجة
فلا بد من يوم يمر له طعما
فيا علما قد عد «كافور»
25
شعبنا
لتهنأ! فلن تلقى بك الكفر والوصما
بحسبك لو عوديت من ألف مدع
هوى «مصر» من فديتها مخلصا أما
حرام ملام الكاشحين فإنما
أخص ملامي بالذي يفهم اللوما
إذا ذهب الفرد العظيم فموته
حياة له تبقى على الدهر بل تنمى
وما شئت أن أرثيك عمدا، ولم تكن
بعوز، ولكن لم أطق للجوى كتما
وقد يخرس المنكوب مثلي، وكم فتى
له مثل شعري عولة هزت الصما!
وعدوك لغزا في الحياة مشابها «أبا الهول» في صمت ينم وما نما
فيا لك هذا اليوم من مفصح له
دوي بهذا الصمت يملؤنا وجما
أفقنا بروع حينما أنت دائب
فقد كنت نجما حال في موته نجما
وقد كنت ذا القسطين في المدح والقلى
فأصبح ذاك القدح مدحك لا الذما
سواك يرى أن السياسة صدمة
وكنت تعاف العنف مهما يكن حسما
دهاء به اخترت المعارك لم تدع
لها الحكم فيما اخترت أو عفته جرما
وحرص وحذق وانتباه موفق
إلى فرص السواس كالنسر إن هما
وكنت عتيا في الصلابة لينا
فكنت حمى العاني ومورد من يظما
وأولعت بالتاريخ حتى وهبتنا
حياتك سفرا رائعا يأسر الفهما
وقالوا تجلى في مجال محدد
ومن ذا الذي للنصر قد حدد الحزما؟
وقائع إن تحسب عليك صغيرة
فقد مهدت للشعب ما عز من نعمى
فإن نخسر النصر الأخير فذنبنا
وحسبك أن ضحيت مستبسلا شهما
وما كنت يوما خانعا وقت شدة
ولا كنت إن واجهت حقا ترى الوهما
خبير بتصريف الأمور فإن أبى
أبى الطيش والأهواء والجبن والضيما
وقد يبلغ النكس
26
الجبان بصيحة
مسامع قوم حين لا تسمع القوما
فإن صدفت عن صوتك الأمس أنفس
ضعاف تظن الضعف في صيحة عزما
فقد أسمع التاريخ صوتك للملا
فنم هادئا لا الحنق تدري ولا الكظما
ومن يحسب الهم الحقير لكابر
فقد أعلن الهم الحقير الذي ضما
وسمت بطبع العبقري مقدسا
كرامتك العظمى فأعظم بها وسما
فلم تحتقر إلا ضلال مهرج
ولم تستسغ إلا لمأثرة رغما
ومن يصغر النفس التي هو ربها
فهيهات أن يرقى بأمته روما
سلام على روح كروحك رفرفت
على «مصر» توحي الحب واللطف والسلما
كبيرة هم دائما، وهي لم تزل
تلقننا أن نكبر العقل والحلما
بنيت بها أكناف مجد موطد
وإن كنت لم ترفع لمجدك ما تما
هدم الأساس
الفاشية المصرية يوليو سنة 1928م:
آمنت بالنكبات فهي مواعظ
لكن أبيت - وقد عقلت - جنوني!
لتلقن الأحداث خير دروسها
للغالب العاتي وللمفتون!
وليدأب المتطاحنون بحربهم
والغابن المسرور كالمغبون
لكن وحق العقل خلوا سخركم
بعقولنا بسخائف التبيين!
من كان هدام الأساس فما له
مجهود إصلاح ورشد أمين
هل بعد أقسام الولاء وحنثكم
بجميعها تتشدقون بدين؟!
صونوا المبادئ للعقيدة أولا
ثم استحلوا كل ما يغويني
فأنا الضنين بمسمعي لمذبذب
وبمهجتي للحر غير ضنين
وهل الذي قد داس أس يقينه
لو كان يوما مؤمنا بيقين
وهل الذي من أصغى لشرح نفاقه
أو من أقدس فضله كخئون؟!
أفسدتم الفرقان ثم زعمتمو
هذا الفساد نهاية التزيين!
وطلبتمو الثقة التي من حقكم
لجنونكم، لكن أبيت جنوني!
الرجل الأبي
محمد سعيد باشا «18 يناير سنة 1863-30 يوليو سنة 1928»:
نعيت غداة الروع في نكبة لنا
كأنا جميعا في القيود عبيد
27
ومن نال هذا الموت من بعد سيرة
تطيب طوال الدهر فهو سعيد
وما كان قبل اليوم مصرع قائد
أجل، ولا أربى عليك جليد
حييت مثالا للرجولة نابغا
ومت مثالا للرجال تعيد
وأترك عمدا كل علم وحكمة
لديك، وحذقا لم يسغه عميد
28
وأترك ذكرا للمروءة لم يمت
وإن قيل ذكر ماجد وفريد
29
وأترك شتى من مواقف خلدت
وقوة بأس ذاب وهو حديد
فحسبي ادكاري من إبائك ساميا
وصونك أرواحا وأنت شهيد
فمت غنيا عن قصيد ومدمع
وما بات يغني عن رثاك قصيد
ولو كان يغنى ما غنيت فإنني
أحس بأني فاقد وفقيد
30
الفضيحة
لمناسبة إقالة الوزارة النحاسية في 25 يونية سنة 1928:
سمعت قوما تنادوا «يا هول هذي الفضيحة!»
وهم بصفو ورقص منوع في شماته
منهم فريق تبدى كأنه ذو ذيول
وآخرون أطيلت آذانهم في حبور
وغيرهم في ضجيج يعتز من تعداده
ومن غلو برأي لحزبه وبلاده
تراشقوا باتهام وأسرفوا في عداء
كأنهم غير أهل أو أنهم أطفال
وثم في البعد عنهم «مصر» تئن وتبكي
وقد أحيطت بنار من قهرها ودخان
والغاصب المتمادي يرنو لها في ابتسام
وأهلها مسعفوه بما يزيد اللهيبا
وهكذا حجبوها عنهم بسور الدخان
وأسرفوا في سباب كما تشاء الحماقه
وكلهم في انهزام مقسم أو جنون
بينا الجميع تنادوا: «يا هول هذي الفضيحه!»
الصنم المرهوب
لم يخلق الصنم المرهوب في زمن
إلا الألى خلقوا في الذل أنفسهم
خافوه والخوف مجبول بطينتهم
وحاذروه وما خافوا وساوسهم
لو يعقل الناس ما هانوا ولا وهنوا
ولا ارتضوا أن يكون الظلم سائسهم؟
مصر الجريحة
همسة في الأذن
تكلمي! تكلمي!
ولتسلمي ولتغنمي
تكلمي يا ساحره
تكلمي يا آسره
تكلمي! تكلمي!
قد أقسموا بحبهم
وأسرفوا بطبهم
وصوروا الدنيا لهم
ومجدوا أهوالهم
تكلمي! تكلمي!
باسم العلى تحصنوا
وفي حماك آمنوا
كل بدعواه يصيح
والموطن العاني جريح
تكلمي! تكلمي!
حملت أعباء كثار
والكل يزهى بالعثار
ساءوك والحلم الجليل
من طبعك الصافي الجميل
تكلمي! تكلمي!
اليد النكراء
جهادا أيها الشعب الذليل
فإن السخط أقتله القليل
أيغني البث في زمن عليل
وهل يشفى من البث العليل؟
خبرنا مبضع الجراح أجدى
إذا اقتحم الورى الداء الوبيل
أبنت «أمون» ترهقها العوادي
ومثلك لا يثور ولا يديل؟
تقدم وارفع الجبار لكن
على صلب وإن هان القتيل!
فبئس «يد الحديد»، وبئس شعب
يحاذرها، وهذا المجد غيل
وما قطع اليد النكراء إدا
فإن فناءها الحدث النبيل!
تقدم! لا تخف يوما محالا!
وهل في الجبن إلا المستحيل؟!
عهد الذمم
درج الزمان فكل ذهن شائخ
فيما نحس، وكل ذهن عاطل
وتقوضت ذمم النفوس فلم يعش
حر وليس له صديق خاذل
وغدت لنا صور الحياة مهازلا
ومن المصائب لو فطنت مهازل
ما هذه الرمم التي يدعونها
ذمما وليس بها النزيه الكامل؟!
كشف الحجاب فليس يقبل ضيمه
باسم الصلاح على التوهم غافل
ومن ارتضى ذل الخداع بعلمه
فأعز منه على الجهالة سافل
صديقان
ولي صديقان مهما
هفوت صدا عداتي
عدا جمادين لكن
قد شاطراني صفاتي
المجهر المتفاني
في الكشف عن معضلاتي
والهيكل العظمي
منزها عن أذاة! •••
يا مجهري أنت عوني
إذا جفاني لداتي
إليك ملجأ همي
فأنت قاضي القضاة
لم تعرف الكذب يوما
ولا حديث الرواة
إذا حكمت فحكم
من عالم الغيب آت! •••
يا هيكلي أنت خلي
بل أنت والله ذاتي
بعثت حيا وميتا
وفي الممات حياتي
يخالك الناس عظما
معلقا كالجناة
وأنت أنت نجييي
على السنين العواتي
ساجلتني كل رأي
عن غامض الفلسفات
فكنت مثل المعري
وكنت «داعي الدعاة»
لم ألق في الناس حرا
أبثه آهاتي
حتى وجدتك كنزا
من العزاء المؤاتي
أيقبح العيش حتى
نرى الغنى في الممات؟!
السياسة
حسناء لكن لا حنان بلحظها
وفؤادها كالصخر ليس يلين
يغويك مظهرها وعند لقائها
تزهى برقتها وأنت غبين
لا تستحي أبدا برغم تمنع
ووعودها موهومة وظنون
ومقالها حلو النفاق، وما لها
غير الرياء، ثقافة وفنون
لكنها طوع لعقل غالب
في فتحه الجبار ليس يهون
فلأجله كل التحايل عندها
للنصر سوف يهون حيث يكون
الشكوى
لمن ترفع الشكوى إذا الناس كلهم
صغير ومن يشكى إليه صغير؟!
ولدت بخصب كل ما فيه مجدب
وكل عزيز نرتجيه حقير!
فلا منطق فيه سوى منطق الأذى
يعززه - فيما يقال - ضمير
وكم معرض عني ولم يدر أنني
عزوف على قلبي الودود أثور
تكلفني الأيام ود الذي له
ودادي حرام - لو أطقت - وزور
وما الناس إلا خادع وهم خادع
فكل بصير يتقى وضرير
غناي من النفس التي لن أضيمها
وأقتل ما ضام النفوس غرور
فليس مضيري وهم من هو شامخ
علي، فحسبي مهجة وشعور
شعور امرئ مهما شكا الدهر أو بكى
تفجر منه للمحبة نور
لمن ترفع الشكوى إذن حينما الورى
ضوار: فكل كاسر وكسير؟
شكوت لنفسي وحدها حين لمتها
فإني على تهذيبها لقدير!
وإني على حمل الفجيعة قادر
إذا قيل غيري بالأذاة فخور
أئن وقلبي طافح البشر هازئ
ودمعي مصاب تارة وحبور
تآلفت الأحداث عندي كأنما
أشاهد ملهى للزمان يدور
وجاورت المأساة فيه مهازل
ففاض على إثر الدموع سرور
فيا قلب ذب أو لا تذب ملء حسرة!
لكل ممات في الوجود نشور
تشابه عندي العدل والظلم للورى
كما تتجلى في القصور قبور!
العابثون
أبينا العلى وعزفنا النشيدا
ورحنا نهيئ للظلم عيدا
فيهتف ما شاء للعابثين
خطيب ويتلو سواه القصيدا
ولو أننا قد عقلنا الحياة
رأينا التصاغر نحسا جديدا
يد في الحديد فرحنا بها
وإن لطمتنا وصرنا عبيدا
غرور الضرير بمهوى له
يلاقي به الويل موتا أكيدا
فهل فطنة بعد هذا الخمول
فنعرف أقدارنا والوعيدا
وهل هبة فيخر الظلوم
ويعرف منا الجزاء المبيدا
دعوا الحلم، ما الحلم يجزي الطغاة
أليس الحديد يفل الحديدا؟
هدية شهد
أبيات شكر ومودة بعث بها الشاعر إلى صديقه محمد أفندي إبراهيم الأسيوطي على ظهر صورة «جنة النحل» وقد وافته منه هدية شهد ثمين:
غنمت شهي الشهد منك، وإنه
لأصفى الذي يشتاق من جنة النحل
كأني وقد عاينته ثم ذقته
أذوق وعود الحب دانية الوصل
له عطر أحلام الغرام، ولونه
كلون نقاء الحب جل عن الختل
رأيت به أصفى ودادك ريقا
على الرغم من بعد تحملته مثلي
وقال صديق: كم ملايين نحلة
أتتك بهذا الشهد منسية الفضل!
فقلت: أرى فيه هدية عالم
من الحب قبل النحل في الجمع والبذل
به تحفة الأزهار للنحل مثلما
به تحفة الإنسان للصادق الخل
فأهلا بمعسول الولاء، وعله
دليل إلى حسن وطب لمعتل
متى ذقته صورت للقلب رشفة
من السحر أحيت خير من عشقوا قبلي!
فأحيا بأحلامي، وماذا لشاعر
سوى عالم الأحلام في الحب والنبل؟ •••
زففت ثنائي للصديق «محمد»
فما اخترت إلا طاقة الورد والفل
ونمقتها في غير عمد، فحسبها
ودادي، وعرف نم عن جنة النحل
الحياة الميتة
إذا شئت أمنا بهذي الحياة
وآثرت ألا تلاقي الخطر
فعيشك أدنى إلى ميتة
كمغترب في جبال القمر
خلت من جراثيم أسقامنا
وفيها الحياة ممات أمر!
العائدة
يا صورة عادت فؤادي العليل
هل يخدع الطب ويأبى الجميل
من مبلغ الحسن - وفي بعده
ناري - حلال له أن ينيل؟
يا هاجرا - يحسب في هجره
طبي ونفعي - قد عداك الدليل
هذا دوائي من جناك الذي
حرمته حتى غدا المستحيل
ما لي سواه فالهوى نفحة
للروح لا صورة وجه جميل
هل يجمع الفن بإعجازه
ما أنت من فن عزيز نبيل؟!
أرسلت لي الظل فمن لي غدا
بالخلد من عطفك فهو الظليل؟
لا حرقة النار بهجري، وكم
تستصغر النار بقلبي العليل!
فنائي
لم أدر فيك الحب إلا ثورة
بدمي، وإلا لهفة لفنائي
حسن كحسنك لا يقدس بالمنى
وخواطر العشاق والشعراء
لكن يقدس باشتعال عواطفي
لك كاشتعال النجم في الجوزاء
يفنى بها جسما ونورا ثائرا
ويعيش حين يموت في الشهداء
الثوب الحي
لمسته فكأني قد لمست به
روحا، وخاطبته لهفان فاستحيا
كم طاف حولي أناس لا حياة بهم
وكم رأيت جمادا شاعرا حيا
ما أروع الحب في سحر يحيل به
ما لا يحب جمالا منه علويا!
ثأر الحب
لا تخافي الثأر من نفسي الحبيبه
إنه ثأر عبادات عجيبه!
ثأر نفس تتفانى في هواك
كالأغاني قد حوتها شفتاك
أتناهى فيك روحا وكيانا
كتناهي الظل في النور افتتانا
إنما روحي وجسمي توأمان
يحرمان الحظ أو لا يحرمان
فدعيني في عبادات الجمال
أجمع الحس وأطياف الخيال
فإذا بي فاقد كل وجودي
لك يا مرآة أحلام الوجود
لست من يحيا للون من هيام
إنما أحيا وأفنى في الغرام
أشرب الكأس ولا أنسى الثماله
كالندى إذ يرشف الصبح جماله
كيف أرضى رشفة منك وأنسى
أنك الكأس التي تفتر أنسا؟
علميني رشفها حتى النهايه
حبذا هذا التغالي في الغوايه
علميني رشفها حتى فنائي
هكذا الحظ بموت الشعراء
فإذا بالثأر من قلبي ومنك
وإذا بالثأر نعمى من لدنك!
البوهيمي
يا حب ما لك لا تدين بأمة
أبدا، وما لك لا تدين بدين؟
ساويت بين الناس حتى أصبحوا
لك كالرعايا في منى وأنين
وتعد في الأرباب حين نراك في
قلق على قلق وحظ غبين
شعر الجمال (1)
رسالة وإجابة من الأستاذ أحمد الشايب:
من القاهرة: قلب مصر النابض، ورأسها المفكر، ومقر الجلال الشرقي، إلى الإسكندرية: عتبة الديار، وثغرها البسام، ومهبط الجمال: جمال الشرق والغرب، وقرارة الهوى: هواي وهواك.
لهف نفسي! كيف صبرت على فراق الإسكندرية التي لا يخفق نسيمها إلا بمعاني الرقة، ولا يصخب بحرها إلا من حرارة الوجد؟ فأي عشق صادق بين اليبس والماء: بعيدان قريبان، ملتقيان مفترقان؟ ألست يا سيدي أولى الناس بتصوير هذا الجمال بفنك الشعري وعبقريتك الأدبية؟ ويل لك في الغد من التاريخ إذا قصرت، أما أنا فالويل حال بي . أشكال من الناس والعقول، وطرائق من الثقافة والطباع، أراها متبرما مطمئنا، فما كان أغناني عن تحملها، وما أحوجني إلى تعرفها!
آمل أن تكون مسرورا بعش بلبلك، وأرجو أن توفق إلى وحي الشعر الأول، وإليك تحياتي القلبية. (2)
رسالة وإجابة من صاحب الديوان:
تلقيت منك الود جذلان صافيا
فأهلا بود كان للشعر راويا
31
تسائلني عن موطن الحسن والهوى
وتحسبه قد صار للقلب شافيا
وباسم الهوى والحسن تدعو عواطفي
لتبذل أحلى الشعر «للفن» حاليا
فوا حزني في حرقة الهجر بعدما
تذوقت خمر «الحب» نشوان صاحيا!
أعاد إلي الروح من راح قبلة
وولى سريعا ناسي العهد ساليا!
لمن بعده أحيا؟ وأين تمتعي؟
وهل ألتقي والحب في العيش ثانيا؟
فيا ليته قد فاتني في شقاوتي
سعيدا، فقد أصبحت بالبعث شاقيا!
وكان غذائي الذكر من سالف الهوى
كما كنت أمضي «للطبيعة» شاكيا
فأصبحت أشكو مرتين بحسرة
وأخجل من عذل «الطبيعة» آسيا!
وأرقب ما قد صورت من روائع
ضريرا، وألقى باسم الروض باكيا!
وأخشى هدير البحر من بعد فتنتي
به، كخصيم لج بالسخر داويا!
تجلببت الدنيا حيالي بظلمة
وكل دواء صار عندي دائيا!
فكيف تراني أنظم الحب ثانيا
قريرا، ومثلي يحرم الحب سانيا؟!
وما الحسن في شعر بغير مغرد؟
وما الخير في «عش» إذا كان خاليا؟
وهبت فؤادي «للجمال» فما وعى
غرامي، ولو وافى لعشت الموافيا
وحولت ما يسدي إلي بدائعا
من الشعر يتلوها المتيم جاثيا!
ولكن هي «الدنيا»: تنعم صخرة
وتترك فياض العواطف عانيا!
إذا حرم «الفنان» عطف ملاحة
وحب فلا تسأله إلا المراثيا!
العبادة
عبدتك حتى تساءل دهري:
أما لك في الكون نور شبيه!
وما الدهر يجهل ما في الحياة
ولكنه المستنير السفيه
فهل علم الدهر معناك لي
فمعناك من مهجة تفتديه؟
خلقتك في مهجتي من غرامي
فإن الملاحة ما نشتهيه
خلقتك من مبدعات الخيال
ومن روح شعر عزيز نزيه
فلما عبدتك كنت المثال
لفني، وكان مدى الفن فيه
إذا صاغ مثلك حب الإله
فحبي اصطفاك لما يصطفيه
وخص بك الفن من روحه
فصرت المثال لحسن وتيه
وأصبحت مبدعك العبقري
وعارضت دهري بما يدعيه
عبدتك، لكن لفني حق
عليك وإن كنت لم تعرفيه
كم عابد حقه أن يقدس
ما بل حتى صدى يحتويه
وقد خدعته مجالي الحياة
فتاه بليل الحياة الكريه!
لهفة
يا مصر يا وطني الباكي
في الأسلاك
لمن بكاك ونجواك؟
هل عاداك
إلا بنوك وأهلوك؟
الدهر لم يذنب يوما
مهما أدمى
ذنبا نرى فيه الظلما
نارا ودما
كالذنب من لهو بنيك
فتنوا بألوان الطيش
كل يمشي
إلى التطاحن كالوحش
هل للطيش
إلا عواقب تشجيك؟
قد مجدوا عيش الأحزاب
ومداه خراب
كم من أجير في الكتاب
هيهات يعاب
وهو الوباء لواديك!
لم يبلغوا يوما مجدا
أنى امتدا
إلا بوحدتهم، فغدا
وهما وسدى
ما كان كنزا يغنيك
تنازعوا لقب «الأبطال»
حلما وخيال
وما دروا أن الإجلال
مجهود رجال
قاسوا بماض آتيك
هي البطولة في الحب
لا في الحرب
فأين أين ذوو اللب
وذوو الطب
الحافظون تآخيك؟
يا ويح من جعلوا الأقلام
مسموم سهام
واستسهلوا لهوا بخصام
فإذا الأخصام
أعلام مصر وأهلوك!
نداء الكرامة
نشر الأمير شكيب أرسلان في سنة 1928 دعوة سامية، حاثا على العناية بمقاومة الدعاية الأوروبية ضد المسلمين، فأكبر الشاعر دعوته هذه التي اعتبرها جديرة بعناية الأمم العربية جمعاء لا المسلمين وحدهم؛ لأن ما يصيب المسلمين من سوء يمس أبناء العربية عامة على اختلاف مذاهبهم وقومياتهم، فهي إذن دعوة شاملة، وما كرامة المسلمين إلا كرامة العالم العربي بأسره، ومن يفته البر بوطنه فالغالب أنه لن يبر بالإنسانية:
حماة الحمى وبناة الجلال
أجيبوا نداء لخير الرجال!
أجيبوا نداء الكرامة حتى
تكون الفعال معاني المقال
فلا خير في صيحة أو فخار
ولا في الأماني العراض الطوال
ولا في شكاة مضت بينكم
فعاشت وماتت كطيف الخيال!
ولكنما الخير في بذلكم
لصون الحياة بغال وغال
وقد يستوي العيش والموت إما
تمادت حياة الهوى والضلال
أفيقوا ولا تكثروا من حديث
كحلم الشذوذ الكثير الخبال!
فنحن بدنيا سباق عجيب
وما في السباق حديث اتكال
إذا سوغ القول فيه فهذا
مقال الفعال القرين الفعال
تحاربكم أمم قولها
دهاء، له مثل وقع النصال
أحداثها كسقوط الوباء
تتابع دنياكمو بالوبال!
دعاياتها السم يودي بكم
إذا امتنعت عن لهيب القتال!
حروب تنوعها دائما
وحظكمو الخسر في كل حال
فهلا حفظتم كراماتكم
بحسن الدهاء وروح المعالي؟
وهلا غرستم إخاء الشعوب
بسعي حكيم وجهد موال؟
فتطفأ نيران من بيتوا
لكم ليفوزوا بكل احتلال
دعونا من الفخر في ذكركم
دما للفداء وجودوا بمال!
وكونوا رجالا بأعمالكم
وجنة
32
حزم أمام العوالي
ولا تسكنوا مثل صم السلام
33
إذا ما الكرامة أوحت بقال
فلستم مدامن
34
ماض جليل
ولكنكم روحه بالتوالي
وكشافة لغد يرتجي
تطلعكم لمثال الكمال
مصابكمو كلكم واحد
وخطب «الصليب» كخطب «الهلال»
هو «الغرب» يحسبكم لقمة
له، ويراكم بعهد انحلال
وأحسب حتى على الملحدين
فروضا، فهذا مقام لآل
فكيف إذا غفل المسلمون
وجل المصاب لهم في المآل؟!
أكاد أرى فرض هذا النداء
كفرض الصلاة بروح اتصال!
فمن لم يجبه فما زال يلهو
ويحيا ضريرا بدنيا المحال! •••
رأيت على «الشعر» في وقفه
على «الحق» مستوزرا «للجمال»
ومن فات حقا لأوطانه
أيذكر حق القرون التوالي؟
وأوطاننا موطن «للجمال»
ومهد «الحجى» من عصور خوال
ودار «النبوة» و«الفلسفات»
ومصباحها من قديم الليالي
فلا كان شعري إذا لم يقل
نشيد الجمال لها والجلال!
تمثال النهضة
نظمت قبيل رفع الستار عن تمثال نهضة مصر بالقاهرة في 13 مايو سنة 1928:
ليرفع الستر عن تمثالك العالي
يا نهضة مثلت آمال أجيال
قد طال منا ارتقاب البر في شغف
كيما نحيى معاني وحيه العالي
وكي نصيخ إلى سر يبوح به
للمهتدين فنفشيه لجهال
من قال ذلك صخر لا حياة به
وذلك الفن أحجار بتمثال؟!
وأنها صنعة الإتقان في حجر
ومادة نحتت في مظهر غالي؟!
ما كان إلا رسول الأمس يوقظنا
كما تيقظ «بلهوب» لآمال
و«الفكرة» الحرة الشماء ترشدنا
إلى مناهج أحلام وأعمال
ورمز همتنا من بعد رقدتنا
دهرا فلم نعط حتى قدر أطلال
ومرجع «الفن» من ماضي جلالته
فيبعث العود فينا روح إجلال
هذا كتاب حوى إلهام عزتنا
فمن يفته فمخلوق لإذلال
تأملوه بني قومي فينعشكم
الشعر فيه قرين النحت للتالي
هذي الغرانيق ليست في مظاهرها
لكن بأرواحها الخرساء للسالي
الراويات لمن هشوا لها ووفوا
والناطقات بأحكام وأمثال
منها العواطف ينبوع يجود لنا
عند الظماء بإنهال وإعلال
35
كما ترقرق من صخر لعاشقه
نبع الطبيعة يجزيه بسلسال
تسيل حتى قرار النفس راوية
منا الشعور وتزجينا لإقبال
كأنما هي في إيحائها نغم
بل إنها نغم في جم أشكال
تفيض منها لموسيقى الخلود منى
ملء انعكاس لأضواء بآصال
فهذه نخب الألحان صامتة
العين تخطفها نقلا إلى البال
وتسبق الأذن في تصوير روعتها
إلى النفوس فتغنيها بآجال «الفن» في مذهبي دين أوحده
وقد تنزه عن عجز وأغلال
وكلها رسم موسيقى الحياة وما
من فارق بينها في عرف لال
والنحت كالشعر والتصوير في ألق
فكلها وحدة في حسنها الحالي
تعيش وحيا، وليست مادة عرضت
وكلها جوهر لا مظهر بالي
فليس للناقد الفنان عاشقها
تفاضل بين أقدار وأفضال
جميعها نفحة الرحمن خالقنا
وكلها سير من روحه الغالي
و«مصر» مهد فنون منذ نشأتها
مهد العباقرة الأحياء والنال
36
قد علمت قبل آشورا وما نسيت
يونان في غير إدلال وإخجال
ونحن أولى - بني قومي - بمعرفة
لما تبوح به من سائح جالي
ونحن أحرى بتقديس نوجهه
إلى تماثيل ذكرى النصر والآل
إذن فطوفوا حيال «الفن» والتمسوا
جلاله وهدى من مجدنا الخالي
مجدان قد جمعا في مشهد عجب
ويغنيان غنى عن كل تسآل! ••• «مختار» مصر التي مثلتها شكرت
لك الوفاء لماضي الذكر والحال
وذاك تمثال «رمسيس» برقدته
في «البدرشين» قرير دون تعذال!
37
أحييت فنا قديما من مفاخرها
وكنت رافع آيات وأثقال
وما يجازي نبوغا أنت تعلنه
شكر، ولا توب نقاد وعذال
ولا مباهاة ميدان لعاصمة
النور فيها بمرآة كمختال
ولا مواعظ إلهام يشوقنا
ولا مدائح رواد وأبطال
ولا غلو بتقدير لما وهبت
علاك فوق قياس الصيت والمال
ولا تحدي الليالي أن تبدله
أو أن تروعه يوما بزلزال
لكن حظك أن تلقى مآثره
حي النهوض بأجيال وأجيال !
الفن المجسم
غنيت راقصة بأعذب فتنة
ونسيت من عرفوا بك النسيانا
فإذا بجسمك مثل صوتك مائج
بالحب يغمر سحره الألحانا
وإذا الملاحة والرشاقة والهوى
جمعت فكن غناءنا وغنانا
فنراك مبهوتين رؤيا حالم
يلقى الغناء مصورا إنسانا
أنسيت نفسك والوجود بأسره
لما جمعت الفن والفنانا!
الإنسان الأكمل «ذكرى قاسم أمين»
نظمت لمناسبة احتفال الاتحاد النسائي المصري بمرور عشرين عاما على وفاة محرر المرأة المصرية:
يكفيك ذكرا سما أن عشت إنسانا
تحيي الموات وتعلي الناس إحسانا
وأننا ما برحنا نرتجيك هدى
فما نسينا ولا جدواك تنسانا
عشرون عاما مضت من بعد معركة
أقوى خصومك فيها اليوم واسانا
38
حيتك غادات «رومانيا» مودعة
39
ورددت بنت «مصر» حبك الآنا
لا عتب إن طالت الأعوام في سنة
إلا على الجهل لما كان سلطانا
تلك التحية كانت للوداع، وفي
تحية اليوم بعث الروح إيمانا
بدون طاقة أزهار تكرمها
واليوم تنشق روح منك بستانا
40
وتمحي ترحة الماضي كعاصفة
مع الشتاء، وتلقى الآن «نيسانا»
41
فتبصر الزهر بساما ومنتشرا
وسافرا، وترى البستان ريانا
ولست تسمع أطيارا مقيدة
ملأن سمعك آلاما وأحزانا
لكن تراهن أنغاما ممثلة
فتشتهيهن آمالا وألحانا
ما كنت إلا مثال النفس كاملة
ترى «الجمال» لها دينا ووجدانا
وترفض العيش في ظل النفاق كما
ترى الحياة بذل الأسر كفرانا
وراحما عادلا زين «القضاء» به
فكان في ملكوت العدل رحمانا!
ومصلحا نابغا «للفكر» منتصرا «للعقل» محتكما، «للحق» ميزانا
حياته كلها شعر وفلسفة
وكم تأملتها حسنا وديوانا
عاف التعصب للأموات في زمن
الناس ترضى حياة الموت ألوانا!
وهزنا لنعلي ركن «جامعة»
كما نعلي منارات وصلبانا
وقد رأى المطلب الأسمى لمهجته
طهارة الخلق أرواحا وأبدانا
وملجأ الناس في «حرية» عبدت
والموت أن يصبح الأحرار عبدانا
وكان منصلتا في سيره أبدا
إلى «الحقيقة» بينا الجهل أعمانا
42
أبى حياة لجاجات تسخره
للشر حيث رأى الشرير شيطانا
43
وما رأى حاقدا أحقاده دمن
44
إلا وجازاه إصلاحا وغفرانا
ولا أثيما تبدى نوفلا حردا
45
في الزهو يعتبر الأتباع قطعانا
إلا وحاول تهذيبا لفطرته
وقاده لجمال العيش جذلانا
ورده لشعور الناس مضطلعا
بعبئهم، فيرى الإخوان إخوانا
وإن أتاه عدو يستغيث به
رأى العداوة إخلاصا وشكرانا!
46
ويرفض المدح إن فاض الغلو به
إذ لا يراه له مدحا وعرفانا
47
وليس يرضى انحناء للقوى إذا
كان القوي ظلوما بث طغيانا
ولا الرضوخ لدهماء يسيرها
الختل حينا وهزل الجهل أحيانا
وإن أطاق رضوخ الحر مغتبطا
للحق يرفعه ذكرا وقرآنا
وما يبالي أجاء الحق من علم
أم من حقير، فيرضي الحق إرغانا
48
ونفسه هيكل الأحرار يملؤها
تقديس «حرية» عدته صوانا
49
كذا مضى عمره الوهاج مبتعثا
شعبا، وخلف بعد البعث بنيانا
وخلف النور والنيران موقدة
لطفا وفكرا وإيقاظا وإيقانا
فإن حفلنا فكل الشعب محتفل
بذكر من عم منه البر دنيانا
كان المثال المرجى «للرجولة»، كم
عز «الأنوثة» إنصافا ورجحانا
ولم يكن همه قصرا على سبب
من الحياة، ولكن كان إنسانا
فلنرثه «وحدة الإنسان» في زمن
آت يعد به الإنسان ديانا
وإن عددناه فينا دائما أبدا «عقيدة» كونت من قبل أكوانا! •••
يا هادي «المشرق الأدنى» ومغربه
من بعدما أمعنا في الجهل إمعانا
هذي سطورك آيات منضدة
مثل الرياحين نهواها وتهوانا
وهؤلاء توالي الحمد في أسف
والله يقبل ما قدمن رضوانا
حميت أرواحنا شر الضلال فما
نجزيك إلا وفاء الروح تحنانا
وبنت «مصر» التي دانت بنهضتها
إليك تسقيك كأس البر ملآنا!
50
كانت هموما لنا حتى سمت فغدت
نعمى، وصارت لنا روحا وريحانا!
الشهيد
تأبين نابغة الجراحة المصرية الدكتور علي إبراهيم رامز بك:
أعظم بذكرك أن تموت شهيدا
فتضيف للمجد التليد عتيدا
51
وتقدس الطب الشريف فيزدهي
أبناؤه، وتزيدهم تأييدا
أرخصت عمرك في جهادك واهبا
للعلم أنفسه ومت جليدا
فرحلت تستغنى بروحك هكذا
عن كل إجلال يعد مجيدا
وتركت خلفك في نفوس جمة
من بذل روحك للحياة عديدا
من نال منزلة الخلود بروحه
هيهات يطلب أن يعيش مديدا
ساويت نفسك بالذين أغثتهم
وتركت جيشا حين رحت وحيدا
وجميعهم يهوى فداءك حينما
فديتهم وبعثتهم تجديدا
رجل هو الإنسان في استعلائه
علما وفكرا كالشعاع سديدا
وبناء أخلاق وذروة عزة
للنفس لا يرضى السمو فريدا
قد كان جراح الجسوم بطبه
كالشاعر الفنان خط قصيدا
52
متأنقا بمهارة جذابة
وبرقة تذر الجريح سعيدا
نفس بموسيقى الحياة تشبعت
فتدفقت عطفا يهز عميدا
53
وحنت على حسن النبات فأنبتت
حسنا وحبا زاهرا ونضيدا
وسخت كما تسخو الطبيعة للورى
بالبشر حول كل حزن عيدا
واستعذبت لغة الحنان فأهملت
لغة الكلام بنطقها تجويدا
54
كم بر بالفقراء والغرباء وال
أيتام مشغوفا يصد وعيدا
سيان من مرض أتى أو فاقة
كم عاف أن يلقى العفاة عبيدا
أسدى إلى الدنيا أيادي جمة
وأتى الوداع فزادها تمجيدا
مات الوفي لنبله، ومماته
فخر له ولنا يدوم تليدا
وحياته شعر الحياة، فحقه
في الذكر أن يتلى الرثاء نشيدا
الدائرة
هذي الحياة بدنيانا كدائرة
وكلنا نقط في خطها البادي
وربما لم أكن يوما بمحتكم
حتى على نقطتي إلا بمقدار
فكيف أزعم أني جد مقتدر
على حظوظ الورى أو حظ أفراد؟
وكيف أنسى قصوري في مبادلة
للناس من فيض إحساسي وإضماري؟ •••
عرفت هذا فما أسرفت في جزعي
من الأنام وما أسقيتهم لومي
بل عدت باللوم مهما كنت مضطهدا
على فؤادي لعجز في تفاعله
وصرت أجعل حالي حال دائرة
وكنت قبلا بخصمي غير مهتم
وصرت أحرص في سعيي على صلة
بذلك الخط حتى في تحوله!
التأني
إياك والهم من عبء تنوء به
وانهض بما أنت أهل أن تحمله
ما قيمة البذخ الضافي وأنت به
عان سقيم؟ فدع ما لست أنت له
ينيلك الدأب في صبر وفي زمن
وربما كان أشهى النصر أقتله!
فيم اندفاعك والأيام نائمة؟
لا يغلب الدهر مقدام تجاهله
قلب يضيق بآمال مؤججة
كم عذب الحر مسعاه وقاتله!
الرجل الطيب
صورة فريدة لموظف فريد
تأمل مدى «الرجل الطيب»
تجد تحفة للزمان الغبي
تغنى الزمان له بالمديح
فما قال صدقا ولم يكذب
يزودنا من فنون الغرو
ر ومن كل جهل له أعجب
ويشبعنا من صنوف الدسا
ئس في مستعز من المذهب
ويلطمنا شرفا بالرذا
ئل وهو الجليل الشريف الأبي
يصول ويبطش بالوادعين
ويلهو ويعبث في موكب
ويقتل ما أبدعته العقول
برفس الحمار وطيش الصبي
ولا يملك الحر بنا لما
يعانيه من طبعه المتعب
تعلم منه الزمان الرياء
وإن كان في حضنه قد ربي!
وكم بز طفل أبا في الخصال
فأضحى معلم ذاك الأب
فعش عيش حر تعاني الأذى
بدار هجاها «أبو الطيب»
وإلا فطلق بنات الحجى
وبادر إلى «الرجل الطيب»!
الوطنية
إذن كل آلامي وهمي فداؤها
جزائي عقوق حين حبي جزاؤها
أيخذل في مصر - ومصر ضياؤها
مشاع - فتاها وهو أصلا ضياؤها
لقد سخرت منا الشعوب ولم تزل
فرب دواء عندنا هو داؤها
إلام نرى الأحقاد في مصر حرة
ضواري تطغى والنفوس غذاؤها؟
تهدم آثار العقول وترتقي
عروش النهى حتى يحين فناؤها
فيا أسفى إن لم تنل مصر قائدا
بصيرا لتحيا أرضها وسماؤها
لقد غابت الدولات عنها، وكلها
ضحايا صغار النفس أو شهداؤها
ومن تقبر الدولات فيها لما بها
من النقص لم يصلح لها حكماؤها •••
بلادي على رغمي أحبك دائما
وإن كنت دارا بالعقوق بناؤها
وهبتك عمري قبل مالي وصحتي
وما صحتي ما دام عندك داؤها؟
وضحيت أولادي ورزقي ولم أزل
أضحي ونفسي لا يلبى نداؤها
وكم لائم حبي وآلام مهجتي
وفي يده إنصافها ورضاؤها
إذا المثل الأعلى تملك مهجة
تساوى لديها صفوها وشقاؤها
ولم تشك إلا في سبيل بلوغه
وإلا فأشهى ما تلاقي بلاؤها
فلا تلم المثال والطامح الذي
لأمته يحيا ليحيا رجاؤها
فما اللوم يجديه إذا كان لبه
أسيرا لدنيا لا يحد فناؤها
ويأبى إباء أن يحلق وحده
وإن خصه منها وحيدا عناؤها
القومية
لو كان فينا رجال!
لو كان فينا رجال
تعشقوا «القوميه»
لما نكبنا مرارا
بشهوة «الحزبيه»
لو كان فينا رجال
لا يتبعون الخيال
إلا لأجل التسامي
لما بكينا المحال
ما هذه الضوضاء؟
أين العقول الرجيحه؟
تخاصم الأبناء
والأم ثكلى جريحه!
مآلهم للتصافي
من بعد خسر عظيم
فما يفيد التجافي
وفي التجافي الجحيم؟
قالوا الخلاف دليل
على نمو الحياة
وقد تناسوا حياة
من الأذى كالممات
إنا بعصر جديد
على التعاون يبنى
فكيف نرجو سوانا
ومنشأ الهدم منا؟
الناس تمشي اطرادا
إلى تآخي الأمم
ونحن نهدم شعبا
لنا بشتى التهم!
حاشاى ألا أنادي
بدعوة للتسامي
لكن أقول جهارا
ما النصر بالأوهام
تناولوا ما استطعتم
وحاذروا أن يضيع
ولتعملوا بعد هذا
لنيل مجد منيع
أما التشبث دوما
بمثل حلم الصغار
بين الصياح طويلا
وبين سخط مرار
أما التجني وأنتم
جميعكم ذخر «مصرا»
كل يشك ويردي
أخاه ذلا وقهرا
أما الخصومة حتى
تضيع كل الفرص
فتلك جرم شنيع
حين المنى تقتنص
أراكمو في ضلال
وكم لكم من عبر
ورب ذنب صغير
حاكى صغير الشرر
فما لكم قد نسيتم
نصح الحكيم القديم؟
إن بات فيكم حكيم
فأين ذاك الحكيم؟
ذكرى سعد «بعد مرور عام من وفاته»
تتردد الذكرى وأنت إمام
لا العام خاذلها ولا الأعوام
ولنا خليفتك النزيه، وكلنا
ذاك الخليفة إن قضى الإقدام
نهدي إليه الحب من أرواحنا
فإذا المبجل روحك البسام
بالذام خص من الطغاة، وإنه
علم فما يرقى إليه الذام
نم في خلودك هادئا فجميعنا
شعب على صدق الولاء أقاموا
ولرب ذي أشر بذكرك في أسى
جزع ويزعم أنه الضرغام! •••
الشعب حج إليك في نجواه مذ
حال الجناة وصدنا الصمصام
وبكل جارحة مثال ناطق
إن يخش رفع مثالك الأصنام!
وبكل قلب كعبة لك حرة
لا العسف بالغها ولا الهدام
55
ما كان مدفنك الجليل منارة
لك وحده حين البنون قيام!
حيث العروبة أنت حي عازف
عن كل صرح للجلال يقام
ولقد غنينا من غنائك فلتدم
في حفرة فيها العظام عظام
56
ولتهزأ الأقدار ممن قدروا
أن العظائم مذ دفنت تضام! •••
لا كان هذا اليوم لولا أنه
يوم له التقديس والإكرام
ذكرى الوفاة ويوم ميلاد العلى
عمر بدأت به وهذا العام!
لم يعرف العظماء إلا فكرة
وعقيدة وجلالة فترام
فليشمت الجبناء ولتسخر فلن
تبقى لهم حتى ولا الأجسام!
خدموا الفناء عبادة بجنونهم
ويضيع في صرعى الجنون ملام
لعبوا بنار الظلم وهي كفيلة
بضياعهم مهما جنوا وتعاموا
ولسوف يرجع بعد عيدك ضاحيا
ويبيد يوم جلاله الظلام! •••
يا يوم «سعد » أعد لنا استقلالنا
هو وحدة القواد لا الأحلام
يتخاصمون ولا أمين ناصح
فيرنح الدخلاء والأخصام
أسفي على من يجعلون خصومهم
حكما وتحمد منهمو الأحكام!
ويرون إخوانا لهم أخصامهم
فتمزق الأعراض والأقسام
ويطول عهد للتطاحن حينما
تترى الجراح بنا ولا تلتام
كنت السياسي العظيم بوحدة
كونتها فمضت بها الأقلام
ونعود للأوهام بعد تيقظ
متخاذلين، فتضحك الأوهام!
فإذا بكيت وفي الديار أئمة
فلأنهم من بعد فقدك هاموا
نبذوا التعاون واستقلوا في مدى
أهوائهم حين الخطوب جسام
ومن التنابذ والتراشق غفلة
ومن العناد إذا غلا استسلام!
وأبوا مداراة الزمان وما دروا
أن الزمان يجد حين ينام!
حتى إذا رجعوا إلى أحلامهم
57
خسروا الحقوق وخابت الأحلام!
فابعث بوحيك للهداة لعلهم
يتنبهون فعندك الإلهام
الناسخ والمنسوخ
نكبة الدستور المصري لمناسبة ذكرى 13 نوفمبر سنة 1928:
فيم السكوت ولم يسكن له البلد؟
والوعد أين؟ فعهد الحر ما يعد
من ذا يقول بنسخ لليقين بلا
عهد جديد به المنسوخ يطرد
ما كان يصدق في الأديان قاطبة
هيهات يكذب في دين ويفتقد «مصر» ارتضت منه فرقانا لعزتها
واليوم تنشده بحثا فلا تجد
ولا عزاء لها من دين نهضتها
من بعد ما هده في حنقه «الأسد»
إن تحسبوها على صفو وفي طرب
فإن ذلك لو أدركتم الجلد
يزمجر الرعد فيها وهي صامتة
ويسكب الغيث فيها وهي تتقد
مرت قرون عليها جد راشدة
واليوم يزعم غر ما بها رشد
لو أنها نضت الصبر الذي ادرعت
به لضعتم ولم يصمد لها أحد
ليس الدبا
58
أهلها، كلا وليس لكم
قدر الشماريخ
59
مطواع لها الأبد
وما تهاون يوما معشر صبر
60
في الحق ما دام إيمان لهم يقد
الأسد تقبل ذل الخمص
61
راضية
وليس يقبل ذل المهجة الأسد
والحر يرفض دار البغي معتملا
62
والسجن مزدرعا
63
ما لم تخنه يد
وليس يحسب زف الريش
64
زينته
إلا الذي لم يطعه الصيد والطرد
إن البطولة جهد طي تضحية
ما دام يقضي به الإخلاص والسدد
وما الرضوخ جلال إن قضى حرض
65
ولا العناد جمال إن قضى حسد
وكل مضطبن
66
يوما على فئة
ولو بعذر وجيه فهو مضطهد
تصاغرت
67
نفسي الدنيا بما جمعت
لما هوى من علاها للحجى سند
وقود
68
الناس مفتون يدبرهم
69
وتاه من هو قبل الميت الهمد
فليس يعمل للتحقيق مجتهد
وليس يصمد للتمحيص منتقد
وأصبح الأهل أعداء تساورهم
شر الشكوك إذا ساروا وإن قعدوا
تراشقوا بسهام الطعن قاتلة
كأنما الأهل لا أهل ولا ولد
غدا السميدع
70
ذاك النكس في زمن
من ينصر الحق فهو الآثم الفرد
ويزدهى القلع
71
العاتي بلا سبب
سوى التبجح حين الفضل يضطهد
وصار من هو ضخم في نزاهته
لصا بعرف الألى في الأمس كم حمدوا
فمن تنادوا بإنصاف فهم همل
ومن تنادوا بعدوان فهم نضد
72
فهل لهم سمع إخلاصي وموعظتي
خير النصيحة قد يزجيه منفرد
وما الحقيقة في بأس بشيعتها
بأس الحقيقة ما تعنيه لا العدد
نصيحتي لا جديد طيها، وكفى
أن العصور لديها الآن تحتشد
نصيحتي بنت تاريخ بلا أمد
وعمرها ما له حد ولا أمد
هي التآخي كفيل النصر إن عبست
دهم الخطوب وقامت خلفها السدد
فلا صلاح وإن غنى أعاظمكم
به إذا مزق الإخوان من حقدوا
فأرجعوا سيرة الماضي مبجلة
ولا تطيلوا وعودا للمنى تئد
خلوا المحبة عنوانا لهمتكم
خلوا الكرامة ما يزهى بها البلد
روح المجد
تمر الحادثات وليس يبقى
سوى روح المروءة والتفاني
ولم ير كالوفاء الحر مجد
ولم يبن العلى كالنبل بان
ويحمد محسن إن صان فردا
فكيف بمنصف شعبا يعاني؟
ومن عجب تسخر للدنايا
نفوس تشمئز من الهوان
نمتها ذكريات المجد قدما
وإن حالاهما متباعدان
فكيف وفي الشموس لها غذاء
تطيق العيش في هذا الدخان؟
رضيت عن الجهالة وهي داء
إذا عفت، ولا عن علم جان
فكم من خائن سفها أخاه
بفلسفة تضيق عن المعاني
وكم من بائع شعبا أسيرا
ولم يغنم سوى سخر الزمان
ندبت تقلب الفتيان بينا
يبزون التقلب في الغواني
ألسنا معدنا أولى بمجد
وهل يرضى الرغام سوى الجبان؟
طب وطب
بعث بها صاحب الديوان إلى صديقه الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي ردا على كتاب مودة منه:
أتاني كتاب الصديق الكريم
فكان النديم
لقلبي الكليم
وقدست فيه شعور العظيم
ورمز الوفاء
ومثلك في حكمة كالطبيب
لقلب حبيب
كثير الوجيب
فإن من الطب روح الأديب
وروح الإخاء
وما كدت أشكر حظي السعيد
برد جديد
ككنز فريد
وقلت أأزجي إليه النشيد
بشعر الغناء؟
وما كدت أطمع فيك ائتناسا
فلم أدر ياسا
ونوولت كاسا
من الشعر فيما نظمت اختلاسا
لتحيي الرجاء
إذا بي أفاجأ من لؤم دهري
بما ساء فكري
وماهد بشري
بسقمك، عوفيت من كل ضر
تلبي النداء
فأصبحت بعد الأسى والوجيب
كأني الطبيب
لسقم الأديب
فيا ليت شعري: أشعري الحبيب
رسول الشفاء؟
شيخوخة الفيلسوف
بعث بها صاحب الديوان إلى صديقه الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي وقد كتب إليه يشكو عبء الشيخوخة:
ما شاخ قط الفيلسوف
إن شاخ نجم سائر
في عالم الدنيا يطوف
إن ضل فيه العاثر!
ويظل يدأب في حياه
ويرى الحياة الآخره!
من ظن يوما منتهاه
فله الظنون العائره
هو دائما يلقى الوجود
سفرا يطالعه بصيرا
حتى المحجب لا يعود
متحجبا عنه أثيرا!
وإذا تشاءم أو تفاءل
فهو في الحالين سام
وإذا تجاهل أو تساءل
فهو متبوع الأنام
وجميع عالمه بدا
في صورة من ذهنه
وسع المدى بعد المدى
من شكله أو فنه!
مهما تخبط جاهلا
فتراه في الجهل العليم
تلقى التفرد ماثلا
فيه كديان عظيم!
لو شاخ رب للأنام
فالفيلسوف إذن يشيخ
فله كيان لن يضام
وألوهة العقل الشموخ!
فلتشك سقمك يا صديقي
ولتشك من عبء الكبر
لكن أرى الحظ الحقيقي
والمجد عندك في سير
ليصدق القوم الألى
لا يعرفون الفيلسوف
أما أنا فأرى العلى
فوق السقام بل الحتوف!
عمر لنا عمرا طويلا
ولو ان عمرك لا يحد
وابسم لنا شعرا جميلا
فيه السعادة تسترد!
عناصر التفاؤل
تذوقت ألوان الحياة فولدت
تفاؤل نفسي حين وحدها ذهني
كما وحدت أصباغ طيف فأصبحت
ضياء وكانت لا تضيء ولا تغني
الاستقلال
ما كان هزلا ولا صيحات ذي ألم
لكنه جهد تعمير وتشييد
فما توطن مزهوا بموطننا
جيش العدو سوى من جهلنا المودي
ويدعي أنه طب لنا، وبنا
ضعف، ولا ضعف منكوب بتيفود!
ضعف التسمم من تشتيت وحدتنا
وأي جسم تعافى دون توحيد؟
كل يصيح بأحلام يرددها
كأنها هذيان عند ترديد!
والكل ينسى معاني ما يفوه به
والكل في كوسج
73
في روح عربيد!
هي النفارة
74
إتلاف لهمتنا
باللغو أو بصياح غير محدود
نال العدو بهذا من كرامتنا
فوق الغرامة من مال بتهديد
ورأوة
75
الحمق ما زالت تعاودنا
كأننا البلدة الجلحاء
76
في البيد!
تعرضت لصنوف الغزو غافلة
وأهلها في صياح أو أناشيد!
فمن لنا باتحاد لا انفكاك له
نرعاه كالدين في حب وتوكيد
ومن لنا بوفاء للجهاد فلا
نشط ما بين تكوين وتبديد؟!
الفاتح الجريء
إلى سعادة الدكتور محمد شاهين باشا لمناسبة تنفيذ سياسته الإنشائية الجريئة:
بالأمس قام «بمصر» أول داعم
بالمال لاستقلالها الوضاء
يبني المصارف كالحصون، وعنده
في المنشآت دليل كل مضاء
وتقوم أنت اليوم أجرأ فاتح
بالطب يخضد شوكة الأدواء
عرف الحياة سلامة وكرامة
فسعى ليرفع «مصر» في الأحياء
ما بين «مؤتمر»
77
وجمع وسائل
للبحث والتعمير والإنشاء
أمم تراقب «مصر» بعد عزوفها
عنها وتحمد فيك روح رجاء
ما المجد؟ ليس سوى الطموح لعزة
تهدى من الآباء للأبناء
ما النصر؟ ليس سوى الحياة نقية
لا سيرة الأجداث والأشلاء
وأرك أنت اليوم تعمل دائبا
للمجد بعد النصر دون مراء
عبئان من كلف بمجد خالد
ومن الولوج «بمصر» للعلياء
وبناء صحتها بهمة ثائر
في طبعه المتوثب البناء
قالوا: «تعجل، وهو غير موفق
إن التعجل أصل كل بلاء
سيضيع الأرواح في استهتاره
ويردد الأعذار دون حياء!»
ولو انهم سمعوا الأنين لقدروا
ألم العظيم لنكبة الضعفاء
ما كان أقتل من مدى أدوائهم
أو كان أرحم من وفاء نداء
لكنهم عاشوا على أحلامهم
فنسوا حليف خصاصة وعناء
تنتابه الأمراض دون تمهل
كالدود نال القطن دون عياء!
ما أحرزت أمم العلى استقلالها
إلا بجهد في سبيل بقاء
هيهات ندرك أصله من فرعه
مهما تنوع بعد في الأجزاء
جهد الحياة موحد متضامن
فإذا تفرق ضاع مثل هباء
والشعب أحصف ما يكون إذا أبى
أن يكتفي لعلاه بالأسماء
أو بالنداء وبالشكاة، كأنما
حجج الكلام مريعة الأعداء!
إن المرافق لا يقوم قوامها
إلا بمطرد من الآلاء
كل بمنهجه يقدم بذله
حتى يجمع في أجل نداء
وأراك تبذل همة غلابة
وترد عادي الموت عن شهداء
فتلق من «مصر» العزيزة شكرها
شكرا تردده صباح مساء
مهدت تمهيدا إلى استقلالها
وقتلت داء تبلبل الآراء
وعرفت آساس البناء عماده
والشعب في مرض رهين فناء
فبذلت قسطك للحياة عزيزة
فإذا ببذلك حرب كل شقاء
لا خير في شعب عليل قابع
ما بين أدعية وبين بكاء
أو بين سفسطة الجدال وشهوة
لتراشق وتخاذل وعداء
يفتر روح المجد من إيثارنا
عملا «لمصر» على أبر وفاء
حتى نكون لها جبابرة العلى
ونعد في الأحياء والكرماء
شعاع النفس
عش أنت يا جسمي العليل فإنني
راض بهمي فيك أو آلامي
ليكن سقامك كالغذاء لمهجتي
فإذا ظفرت بها رضيت سقامي
والنفس إن سلمت فليس بقاتل
ضيم الحياة وقسوة الأيام
فالنور يشتمل الجمال وضده
ويغيب وهو هو الطهور السامي
دولة العقل
جان الزمان لكي تسود فقد كفى
عمر بذلناه بطوع قلوب
لم نأل إعلانا لنا عن حقنا
واليوم يوم تتبع المطلوب
عقبى الدعاوة أن نئول لدعوة
للعقل فهو العون للمغلوب
لو كان يغنينا الكلام لعزة
غني الورى عن همة وحروب
أو ساد من تخذ العواطف وحدها
درعا لما شقي الورى بخطوب
العقل ميزان السلامة حينما
يدنو المجاهد من أذى مرهوب
فهو الذي يهدي البصائر والنهى
ويراوغ الإعصار عند هبوب
أما العواطف للحياة فشارة
وفتوحها ليست بغير قلوب
الزعامة
إلى دولة صدقي باشا:
لك أن تسوس وأن تجلك أمة
ناديت أنك خادم إصلاحها
لك أن تكافح في سبيلك دائما
إن المبادئ لن تفوت كفاحها
لك كل هذا، فالمواهب للعلى
موفورة لك بأسها وجناحها
لكن لنا أمل المرجي عزمة
نحو الوئام تنيلها أفراحها
وتصون للزعماء فضل كرامة
لهمو، فكم حملوا لها مصباحها
إن الزعامة للتداول دائما
ومن الرجاحة أن نذيع صلاحها
يتراشق الزعماء، لكن في غد
يتصافحون ويطلبون سماحها
فكن الجريء وللمروءة صافحا
وكن الزعيم مبددا أتراحها
يتناوب الزعماء فضل قيادة
لكن تضافرهم يعز سلاحها
ليس التآلف غير برء جراحها
حين التحزب يستنير جراحها
وطنية الشاعر
لن يصمت الشاعر الحساس إن درست
ربوعه ومشى ذل بموطنه
وإن يكن وطن الإلهام موطنه
والكون أجمع لغوا جنب مسكنه
فمثله يخلق الأكوان قاطبة
كما يهدم في ماضي تفننه
لكنما من نفاذ الحس مهجته
ومن حنان دقيق الفن مزمنه
فتستبيه من الأرض التي سعدت
به ربوع دعوها أصل موطنه
استقلال العراق
خذي مكانك تحت الشمس في الناس
الملك للعقل فوق الملك للباس
يا أمة عرفت معنى تضامنها
حين التضامن آساس لآساس
بك العروبة قد تاهت ولا عجب
ملك الرشيد سما من وهدة الياس
هل للممالك غير العلم باعثها
أو الرجولة من جند وأحراس
ما قيمة اللفظ والمعنى يقوضه
أو قيمة الشعب في موت وأرماس؟
لم تحفلي مرة إلا بصالحة
فنلت تاجين فوق النفس والراس
وصرت مضرب أمثال نرددها
والذكر قد يوقظ المخدوع والناسي
دم زكى نقي ما يلوثه
لهو الحضارة أو إنعامها القاسي
قد صان للعرب نبراسا لنهضتهم
ما أحوج العرب مذ ضلوا لنبراس
أولى بهم أن ينالوا من يد لهمو
ذاك الهدى قبل أيدي أبعد الناس
ما للعروبة إلا مجد جامعة
للعارفين بإلهام وإحساس
تنزهت عن مرام في توحدها
إلا مرامي العلى والنبل والآسي
عواطف صاغها التاريخ في أدب
وجمعت من مناحات وأعراس
إن ضل قوم هدى منها أو اضطربوا
فرب ظلم جناه عجز قسطاس
فخرا بني عمنا، فخرا بهمتكم
وقد قطعتم لها النعمى بمقياس!
وقد أبيتم إباء كل بارقة
من التهور مثل الجحفل الراسي
وقد جعلتم لكم لسنا مقومة
وأنفسا حرة بل حر أنفاس
فما أطاق عدو أن يخاصمكم
إن البطولة قد تغني عن الباس
أمير الطب
الجراح المصري الشهير الأستاذ الدكتور علي باشا إبراهيم:
شرف أمير الطب ما أسديته
ولو ان ما أحرزته هو أعظم
بفتوح فنك في الجراحة يزدهي
وطن بآيات النبوغ متيم
ما اعتاد في ماضي القرون لمجده
إلا التفرد بالذين تقدموا
شرف خصصت به بموطنك الذي
لنداك في آلامه يتبسم
ويعد في هذي المواهب ذخره
إن جارت الأحداث أو من قد عموا
ما جاز حد علاك ما بلغته
فبمصر عاش الملهمون وحوموا
يكفي لها شرفا بنانك هاديا
للبرء وهي عليلة تتألم
والمعجزات بمبضع تكييفه
بيديك سحر للجسوم ومغنم
والداء مهزوم أمامك في رضى
وكأنما غنم له إذ يهزم!
فإذا مدحت فقد غنيت مواهبا
عن كل مدح في صفاتك يكرم
إن الذي يحيي النفوس بفنه
يأبى ثناء المادحين وإن سموا
فتلق إعجابي شعور محبة
عن والدي، وعواطف لي تنعم
ما كان لي طوق على كتم لما
يمليه وجداني، ولا هو يرغم
لون من الفن
تحاملت لواما وأسرفت هاجيا
وأسرف قوم في دفاعهم عني
ولكنني حتى بعلمي كأنني
جهلت فلم أشعر بهجو ولا طعن
إذا لم يكن للسوء وقع بمسمع
فكل هجاء لا يسيء ولا يجني
ومن ساس دنيا من مشاعر نفسه
يعف عن المدح العريض ويستغني
أبجل دهري فهو خير معلم
أراني معاني الصفح لونا من الفن
الضاحك الباكي
أبكي على وطني العاني وإن سخرت
نفسي بنفسي فإني الضاحك الباكي
ما للضباب طغى والشمس مشرقة
وما لأزهاره في سجن أشواك؟!
أيعدم الروض جنانا يشذبه
في عالم بجمال العيش ضحاك؟
أم يعدم النور مجلى منه نرقبه
أم للضباب معان فوق إدراكي؟ •••
يا قلب ما أنت إلا طائر غرد
نشأت في السجن تبكي عمرك الباقي
يكفيك وجد دفين أنت حامله
يا واعيا كل أسراري وأشواقي
فلا تدعني أناجي موطني حرقا
من بعد ما قد رأى صلبي وإحراقي
داء الزعامات كم حر وكم علم
بعد الشموخ يعاني ذل إطراق! •••
رجعت أعرف نفسي بعدما فقدت
نفسي وجودي بليل المحنة الداجي
أنا الأسير كما أني الطليق به
كموجة زخرت من بين أمواج
أبت إباء حياة الأسر فانطلقت
إلى فناء فسيح المد وهاج
والبحر ملء اضطراب من عناصره
وكل حي به كالميت الساجي! •••
يا موطنا كل ما فيه يؤرقني
وكل ما فيه أتراحي وآلامي
من حرم اللحن للصداح في زمن
أحق أن يتهادى بين أنغام؟
ومن رأى أن هذا النور منقصة
وأن حق الورى أضغاث أحلام؟
ومن أباح لأصنام مجردة
ذل الجباه كأنا دون أصنام؟
عيد الإحسان
تحية «جمعية الاتحاد والإحسان السورية المصرية» في يوبيلها الفضي:
الآن يهتف بالنشيد غرامي
ويرف في حلل من الأنغام
ويقبل الأرض التي جادت له
بالحسن فتانا وبالإلهام
نجمت حشائشها بوشي ربيعها
وزهت براعمها بنور سلام
من كل ما تهب الحياة لسائل
عطف الجمال وكل لب ظامي
فاح الأريج فأي قلب لم يثب؟
وبدا الشعاع فمن ترى المتعامي؟ «فينوس» مرت كالبشير فأنجبت
هذا الربيع وملكه المتسامي
هذي مفاتنها بكل صباحة
طبعت على الأرواح والأفهام
مرت بموكبها فلم تترك سوى
حلم الخلود سما عن الأحلام
دعني أثب وثب الصغير مناجيا
ما حفني، وأجز صلاة غرامي
عيد له الأرواح تسكب حبها
ويفيض بالإحسان كل مقام
وتنال عصبته الجلال بمرتقى
يوبيلها المتلألئ البسام
في ربع قرن أطلعت آياتها
بر المسيح ورحمة الإسلام
حتى إذا ابتسم الربيع مهنئا
أعلامها بمآثر الأعلام
فرحت بها الدنيا وكان لعيدها
ذاك الشذى وتلألؤ الأيام
واستجمعت أحلامنا وغرامنا
وثناءنا ومدامع الأيتام
قيثارى
قد حطم الدهر قيثاري فما تركت
أحداثه غير فرد بين أوتاري
فيا فؤادي تشجع ولتذب نغما
فيه الوداع لدنيا الحرب والثار
عشت المرجى لفن فلتمت مثلا
للفن ما دمت في الحالين قيثاري
وربما آهة أرسلتها ولها
تفردت بحياة بين أشعاري
يا خافقا بمعان كلها شجن
هون عليك وبح حرا بأسراري
فيم التكتم والأيام قد نفدت
وما بقاياك إلا بعض آثار؟
كأن صدري غدا لحدا أضمنه
ذكرى السنين وأحلامي وأوطاري!
نح في نشيدك مهزوما ومنتصرا
كلا المآلين معصوم من العار
يناشد الفن ما أحسست من تلف
فالفن غير رحيم، غير صبار
فنح إذن غير هياب ولا وجل
لكن نواح جريح خلف أسوار
مهما تألم والآلام تنطقه
تجده يزري بأصفاد وأحجار
وقد بلوت بني الدنيا فما عرفت
نفسي ذنوبا لنفسي غير إيثاري
يا للتفاؤل في دار يزينها
غدر وأعجبه إشفاق غدار!
حلوى العرس
مداعبة إلى الصديق الشاعر عبد الله بكري «لمناسبة عرس أخيه»:
أخي العزيز بحق أخيك
لا تنسني فالعرس قريب
يكفيك يا أملي يكفيك
أني أبثك شعر «حبيب»
وصيتي أن تستدعي
حالا «أبا درش»
78
الغالي
لكي يهيئ للجمع «ترم ترالا ترلالي»!
الشعر من عرق جبينه
واللحن صوت من أنفه
والله خص بتكوينه
ما كان حقا من حتفه!
ورغم ذلك فهو إمام
لجمعنا وهو المفتي!
وليس يعرف أي خصام
وإن تورط في الزفت!
فهو العزيز لنا دوما
وكلنا إخوان هواه
ولو سقيناه سما
لما تسمم من سقياه!
هل لليواقيت إلاه
أو غيره رب المرجان؟
79
لولاه لم نضحك لولاه
ولا تضاحكت العيدان!
فلتعطه فرص الإنشاد
لكي يوزع مرجانه!
80
فيستقل به الأولاد
والكل يرقب إحسانه!
وعندها بالله عليك
ابعث إلي بحلواهم!
وبالفواكه بين يديك
وكل ما هو سلواهم
فإن حولي جيش حسان
يحتاج مثلي للتموين!
وكلهن إلي روان
فلا تضن، فلست ضنين!
المصاب
جد في مزاح لمناسبة صدور قانون مزاولة مهنة الطب في مصر سنة 1928:
قابلت «يني» و«خرلمبو»
كلاهما في اللطم ينوح
والسوق ماج بمن فيه
والكل مذهول مبحوح!
هذا يغامز صاحبه
وذاك يضحك في السر
وآخرون على ندب
وغيرهم حاف يجري!
وجاء «كستى» محزونا
لصاحبيه بقاروره
فأسقيا بعض «العرقي»
من بعض فضل الماخوره
فزاد هذا وجدهما
وجددا ندبا ونواح
فقال فلاح: «ذكر
لله! سبحان الفتاح!
سبحان ربي من يهدي
للدين جاهل إيمانه!
ومن يعلمه ذكرا
للرسل في غير لسانه!»
وجاء دور «ام خديجة»
فقالت: «الزار! الزار!
أم تلك ضوضاء الزيجه
يا ابني وينقصها «الفار»؟!»
81
وجاء دوري فرآني «يني» فقلت: «شفاك الله!
ماذا جرى؟ أهو الدنجي؟»
فقال: «والله أرضاه!
يا ليتني كنت عليلا!
بل ليت موتي وافاني
هذا شريكي مخبول
مثلي، وعقلي جافاني!»
فقلت: «لا سمح الله
هل في المزاد عماراتك؟
أو ضاع ربح تهواه؟
أو عاندتك تجاراتك؟»
فقال: «ما كان البنيان
ربحي ولا ربح شريكي
بل كان ما خلف الدكان
للطب أو للتدليك!
كنت الطبيب لأغنى الناس
وصاحب الكيف العالي
وكم جمعت بلا وسواس
ما جل عندي من مال
أهل الحظوظ وأهل الكيف
بين الزبائن كالأهل
والآن أصبح مثل الطيف
حظي فلا تنهر عقلي!
وكل خطبي لو تدري
من فرط مكر «شاهين باشا»
قضى على شغلي وأنا
والله لست الغشاشا
فكم ظفرت بتشجيع
من الحكومة في الماضي
فكيف يحسب لي غش
ما دام يرضاه القاضي؟!»
فقلت: «اخرس يا جاني!
أأنت رغم الختل نبيل؟!
وصمت طب الإنسان
بكل أنواع التدجيل
وصار فن الطب بكم
عارا ولا عار دعاره
ولا شهادة تنصفكم
إلا قناني الخماره!»
فولول الرجل العاتي
يحفه صرعى الككيين
وصوتوا وجروا حولي
فكنت فيهم شر سجين!
وحاولوا ضربي فإذا «بالمتر يني» يغمى عليه
فطرت طيرة ملهوف
من بين من حملوا رجليه!
حتى اصطدمت بدراجه
يسوقها «جورجي» المخبول
فقمت من نومي وأنا
أروي المصاب «لوادي النيل»
82
فبئس «يني» وأخوه
وكل من نهبوا وطني
ومن يصادمني قتلا
وبعد ذا يهدي كفني!
وألف شكر لرئيس
للطب في «مصر» يرعاه
حماه من كل خسيس
وزاد رفعته والجاه
وكان قبل «الطب» عليل
من الدعاوى والغش
واليوم حف به التهليل
إذ قام في أنف يمشي
وهكذا تبنى الأمم
بالجهد يحدوه التعمير
وتتبع الذمم الهمم
في كل شعب غير حقير
معذرة!
بعث صاحب الديوان بهذه القصيدة الوجدانية قبيل انتقاله من الإسكندرية إلى القاهرة سنة 1928 إلى صديقه الأديب الأستاذ عبد القادر عاشور:
رجوت من صاحبي «عاشور» معذرة
فقد وجدت زماني شبه مخبول!
فلم أشأ أن أعاديه وأفضحه
ولم أزل بين تطبيب وتعليل
83
حتى يئست وأشقاني أقاربه
فخيرهم بين مجنون ومهبول!
لهم دعاوى إذا طاوعتها قتلت
فيك الرجولة حقا شر تقتيل
أغالط النفس في حبي لنهضتهم
فما رفعت سقيما شبه مغلول
وضاع وقتي طويلا في رعايتهم
ولم أزل بهواهم جد مشغول
فكلهم من بني جنسي وسقطتهم
تثير وجدي، وهذا الدهر يرثى لي
حتى أتى وقت إنذاري بفرقتهم
فقلت: أكرم بنقل لي ومنقول!
فما خسرت سوى خلين في بلد
جماله لوفي غير مبذول
سكت ما بين أشجان منوعة
وقتا طويلا وفي نجواك مأمولي
وما سكت فروحي ما عرفت، وما
تحول إن حالت الدنيا لتأميلي
وعن قريب سأمضي شطر عاصمة
روح «المعز» وقتها كل تذليل!
بها ولدت، فلي حق البنوة إن
حرمت حق غرامي في حمى «النيل»
فإن أتيت إليها فادكر أملي
في ودك الصفو، واذكر شوق تقبيلي!
واسأل تجدني بحي عد محتجبا
مثل احتجاب المعالي عن أباطيل
ولتتخذ من «أبي درش»
84 - إذا سمحت
لك الحكومة - ناقوسا لتهويل!
حتى يكون جوازا تستطيع به
أن لا توقف في «درب المهابيل»!
فأغلب الظن أني سوف أسكن في «منشية الصدر» أو في «بركة الفيل»!
دنيا الهموم
أجالس دنيا من همومي كأنها
صحابي، فكل باحث ومناقش
لئن حجبتني عن أذى الناس حينما
أذاهم إلى قلبي المسالم طائش
فقد ذقت تعذيبا عتيا مضاعفا
وما زلت محسودا كأني عائش!
البيئة الجانية
بث ظلامة رفعها الشاعر إلى حضرة صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا رئيس مجلس الوزراء، شاكيا من المحاربة العنيفة التي كان يوجهها إليه بعض كبار ذوي النفوذ من أجل أعماله الثقافية العامة. والواقع أنه لم يعرف عن عهد للنور يعاني فيه الأدب والأدباء الحلوكة العامة والاضطهاد كما يعانون في هذا العهد:
أيخذلني دهري وأنت مناصري
ويغمطني قومي وأنت زعيم؟
إذن كل سعي للمجدين مجدب
وكل جهاد للصلاح عقيم
أبيت أبا الأشبال خذلي بدولة
لها منك رأي حازم وحكيم
أبيت إباء أن يبدد همتي
خصيم وأن يطغى علي أثيم
أبيت ظلام العيش والنور ساطع
وعهدك عهد كالشعاع عميم
شكا الناس حين الموت ما يخلقونه
وكل من الفكر السقيم سقيم
وجاءت شكاتي من فؤاد مقسم
أوزعه حين الزمان لئيم
تحارب فيه العبقرية مثلما
يطارد لص أو يداس عديم!
دقائق عمري ذاهبات على المدى
دقائق فن يشتهيه عديم
تألق شعرا أو علوما وحكمة
ويقبس منها باحث ونديم
لقد جمعت صفو النعيم لقارئ
ورب نعيم ليس فيه نعيم!
تخيلني القراء أسعد من سعى
وأروح من يصفو لديه نسيم
ولكنما العبء الذي أنا حامل
وجهدي الذي صبري عليه عظيم
يحولان حتى دون حسي بأنني
أعيش وأن الكون فيه كريم!
تقدمت رواد الحقيقة رائدا
وحولي ظلام خادع وبهيم
وما لي من حول وذخر لمأربي
سوى ذخر إيمان عليه أقيم
فلما خططت النهج فيما انتهجته
وصفق للقلب الأبي خصيم
رأيت صديقي نائما عن رعايتي
وحولي حسود ناقم وجحيم
كأني وقد أرهقت روحي ببذلها
جنيت وكل من نداي غريم!
وما ساءني أني المضحي بروحه
جهودا، وما لي في الجهاد رحيم
ولكن شجاني أن أموت ولم أصب
لقومي فلاحا أرتجي وأشيم
ولم يبق لي ركن أيمم شطره
سواك كما يرجو الحنان يتيم
فإن لم تنلني من ودادك منعة
وذو العقل بالعقل العتي يهيم
فيا أسفي في مصرع الفكر تائها
بدنيا حواها جاهل ووخيم
ولكنني المزجي إليك تجلة
يعززها حب لديك قديم
85
وكل يقيني أن حبك منصفي
وأني وفي شاكر وحميم
الحساب
أحاسب نفسي في حياتي فما أرى
لغيري - ولو بعد الممات - حسابي!
شكوت زماني وهو في الغدر سادر
وعدت إلى نفسي بمر عتابي
يعذبها دهري، ولكنني الذي
أجرعها بالسخط شر عذاب
كأني أراها فوق طاقة دهرها
وآبى عليها لوعتي ومصابي
أكلفها شق المحال طريقها
فإن فشلت كان العقاب عقابي
حملت بكفي كل صاب وعلقم
لنفسي جزاء واحتقرت شبابي
فأذهل دهري رغم يأسي توثبي
كأن غبائي كان محض تغابي
وحيره حملي المكاره قاسيا
على النفس حين الدهر ليس يحابي
كأني الذي حالفته في شقائها
وإن كنت لم أعرفه بين صحابي
فأدرك أني في الهزيمة والعلى
أخو شمم في الحالتين عجاب
وما زال في أمري بحيرة مجرم
جنى ما جنى وهو الأسير ببابي!
إلى الآنسة مي «في وفاة والدتها»
عز العزاء وأنت خير عزاء
يا كوكب الأدباء والشعراء
الدهر يثأر والنبوغ خصيمه
فلقيت منه تتابع الأرزاء
وبقيت أنت برغمه في عصمة
من حكمة ورجاحة وسناء
تجري دموعك حين قلبك نابض
بالحزم غلابا وبالعلياء
والأم أكرم من تراق عواطف
في فقدها ومشاعر الأبناء
وتمضنا تلك الشجون وإنما
نلقاك لقيا الفجر في الظلماء
الأغاني
استمع للأغاني
فهي مثل النسيم
كم شدت بالأماني
كم بكت بالحنين
إن تدعها تذب
في ممات أليم
فاستمعها تصب
من جمال ثمين
استمع للأغاني
تغتنم عمرها
سمعها بافتتان
نعمة أو صلاه
فاقتبس سحرها
ناهلا سرها
واعتبر خيرها
من معاني الحياه!
القطة الذكية
1
لي قطة مشغولة
بالبحث في الأشياء
حتى هواء غرفتي
والطير في السماء!
تجري هنا وهاهنا!
تقفز في أشكال
تعلم الأولاد مك
را مزعجا للبال
صارت مثالا يتقى
من مكرها الختال
حتى رأينا طردها
من غاية الآمال!
لكنها قد لجأت
من مكرها للحيله
تريد أن نبقيها
في بيتنا خليله
القطة الذكية.
2
تركت شئون اللهو وات
تخذت من العقل المعين
ومضت تدقق في شئو
ن البيت تدقيق الرزين
وكأنما هي تكنس
وكأنما هي تدرس
ولكل أمر مظهر
ولكل حال ملبس
حتى غدونا نحسب ال
قطة صارت كالأميره
وكأننا كنا على
ذنب وترمى بالجريره
ومضت تشوق كل طف
ل للمجالي النافعه
بوقوفها ووثوبها
نحو الأمور الرائعه
والآن تبصرها وقد
قبضت وعاء السمكه
كمدرس متأمل
جم المنى والحركه
فغدت لنا أستاذة
واستأثرت بمحبة
والحسن يكرم دائما
حتى ولو في قطة
حنين
أرسلها صاحب الديوان إلى صديقه الشاعر محمود أبو الوفا حينما توجه إلى فرنسا لعمل رجل صناعية:
سلام للوفاء «أبا الوفاء»
ونجوى من رجائك أو رجائي
قد امتزجا فإن أرسلت شوقي
فذاك صدى لشوقك في صفاء
تركت صديقك الوافي عليلا
لبعدك حين بعدك للشفاء
ولم يزل الظلام قرين حظي
فجد بالنور من بلد الضياء
أقضي العمر في كد وكد
وأضحك للهموم وللشقاء
فيحسبني الحسود على هناء
ومنذ صباي عشت بلا هناء
وآثرت السكوت، فلي فؤاد
فصيح بالعواطف والدعاء
وكنت إخاله في البعد جلدا
فزاد بخفقه المضني عنائي
كأني كنت جنبك كل يوم
ولست على التوزع جد ناء
ولكن الصداقة حين تنمو
تغذى بالقلوب وبالدماء
وتكرم بالصموت ففيه معنى
يغيب عن المهرج والمرائي
وليس الحب بالإعلان عنه
وقد سطعت بصورته المرائي •••
فعجل بالشفاء وعد إلينا
منارا للمحبة والوفاء
وإن كان الزمان أحط من أن
يلاقى بالشفاء والاحتفاء!
نعيش به بأرواح تلظى
وأبدان تئن من القضاء
تعاني كل حين ما تعاني
من الأرزاء داء بعد داء
فعد للنيل تقرئه التحايا
من الشعر المعطر بالولاء
وعد لأخيك صورة ألمعي
من اللطف المرنق والذكاء
إذا جاشت بأصفى الشعر نفسي
تجمع عنده أحلى غنائي
وقد أنأى ولا ألقاك لكن
تشع لمهجتي بمنى الإخاء
وتغترب الجسوم إذا تناءت
ولا تنأى النفوس على التنائي
وطني
ألموطني حبي أم اللفتات
لربوع حسن أنت فيه حياة
وطني بدنيا الحسن لا حد له
فإذا تحدد فالحياة ممات
هذي الظلال المفصحات نوافح
من كل معنى في جمالك حالي
من نال رحمتها بلفح حياته
هيهات يذكرها بروح السالي
وطني هواك عبدته لك حينما
أكسبته ألقا وخفة روح
ألقاك فيما يستطاب به كما
ألقاك طب فؤادي المجروح
طبي وروحي أنت يا وطني الذي
من أجله قدست «مصر» بلادي
ما كل أرض للجدود عزيزة
إن كان يجهلها حنين فؤادي
رعاية الجمال
قد أصبح الحسن حسنا من تعهده
وأصبح الحسن قبحا من تبدده
صار التجمل إبداعا ومعجزة
وكان من قبل مكفولا بمولده
كالزهر مهما صفا شكلا ورائحة
هيهات يكمل إلا من تعهده
عابدة القمر
خطرت بضوء البدر تستشفي به
وتجردت عن ثوبها الشفاف
وتضرعت في شوق مبتهل وفي
شعر من الإلهام دون قواف
يا للجنون من الملاحة حينما
هذا الجنون لنا الدواء الشافي!
خطرت كعابدة تبتل حسنها
والنور يغمرها بلطف واف
يتبادلان طهارة برشاقة
دقت على الفنان والوصاف
جسم يغيب النور في أثنائه
ويشع كالخافي وليس بخاف
ظمأى النفوس إذا ارتوت من نظرة
فالري من سحر الألوهة كاف
ولو ان أمواج الضياء تجسمت
لبدت مظاهر نشوة وهتاف
ما أروع الحسن الذي لم يحتجب
إلا بستر ملاحة وعفاف
هو من مفاتنه بأبهج حلة
ومن الخلود ترف في الأفواف
ويقبل الدهر الشموخ مواطئا
غمرت من القدمين بالألطاف
بحر الحياة بجزره وبمده
من ذلك الوحي العظيم الضافي
تتسابق المهجات حول صفائه
كالشعر حول مطالع الأطياف
والطير حول منابع علوية
جذابة النفحات والأعراف
مرأى عليه من الفنون تزاحم
ويصان ملء عواطف وشغاف
ونرى به سير الطبيعة كلها
ومدى الطموح وغاية الإسفاف
في الإنسان
وقالوا: يفوق النبت حس ابن آدم
بحس ويحوي مهجة مثل قلبه
فقال لسان الحال: يا ليت أنه
يقارب إحساس الجماد بلبه! •••
أطل على ماضيه وهو سحابة
وقال لها: من أنت؟ قالت: أنا الدنيا!
وساءل آتيه فلاحت سحابة
فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا الأخرى! •••
سما عقله فاعتز بالعقل وحده
فأفسد هذا العقل بنيان نفسه
فراح يناجي القلب والقلب عاتب
فعاد التآخي خالقا نبل حسه
الألاف
دواجني
تنقلت في بشر أحيي جموعها
فكنت كأني سائر بين أفراح
نفوس لها إيمانها وشعورها
فهل باينتني أم حكتني بأرواح؟
تهش إلى البرسيم حتى كأنه
ثمار جنان الخلد أو راحة الراح
وترمقني بالحب حتى كأنني
رسول أمين قد أتاها بإصحاح
فذي فرخة في نعمة بترابها
تدل على ديك مشوق وصداح
وذا أرنب ضاح بعزة وارث
إلى الصاحب الرومي كالعاتب اللاحي
وذا غزل جن الحمام تفننا
به كجنون النور ما بين أدواح
لواعب ترعى الحب في سكناتها
مليكا عزيزا دون يأس وأتراح
يطل عليها النحل في خطراتها
وقد يتغنى في تبسط مزاح
فألحظها في نشوة لسرورها
سرور خليل بالحبيب وبالصاح
تعارفت الأرواح حتى توحدت
بكل صديق معجم النطق مفصاح
فصرت كأني بينها في عشيرتي
وقد فهمت شعري وحبي وأمداحي!
رثاء حافظ إبراهيم
الشعر بعدك لن يعيش يتيما
والنظم دونك لن يهون نظيما
وزعت روحك في الحياة فأطلعت
عمرا، وصيرت الممات عديما
طبعت بها الآيات للأدب الذي
ما زلت فيه على البعاد زعيما
أدب تسير الشمس بين ركابه
في الخافقين وتحفظ التعليما
يحيا على كر الزمان ولم يكن
ليموت لو غاب الشعاع رميما
من طين «مصر» نما ومن أنفاسها
والأرض لا تنمي الشعور ذميما
نحت الحياة وتارة تمثيلها
عاشا مثالا من نداه وسيما
ما كان رمزا للقسامة مظهرا
كالكنز خبأ حاليا وقسيما
لا يستخف بما يصوغ كيانه
فيجيء معجزه الجريء قويما
إن كان تنقصه الرشاقة تارة
فمن الرشاقة ما يكون سقيما
يلقيه في الحفل العظيم رسالة
فيهز صحبا إذ يهز خصيما
كالأنبياء يفيض عن إيمانه
باللفظ شهدا والبيان شميما
في جوهري الصوت يدوي عاليا
حتى إذا أشجاك عاد حليما
خضعت له المهج العزيزة وانثنى
بالراح يشفي عانيا وكليما
فترى الحياة تدب في ألفاظه
والصوت ينهض بالحروف رخيما
وتراه في المعنى وفي المبنى سما
فوق النبوغ إذا التفوق ريما
وينال بالإلقاء عمرا آخرا
من روحه ويزيده تفخيما
ولكم يموت الشعر من متعثر
فتراه في أبهى الجمال هشيما
جزعت نفائسه لفقدك حينما
موت كموتك يشبه التكريما
تمضي إلى دنيا الخلود وقبلها
ملك الخيال مرحت فيه نسيما
روح شباة السيف حدة خاطر
فيه، ووحي الفن فيه أقيما
لاقى الحروب ودام في حرب المنى
ومضى ولم يعرف بها التسليما
غلبت بسالته الزمان وأشرقت
منه البشاشة سالما وسليما
86
يتميز القدر العتي بنظمه
ويقص أسرار القضاء رحيما
جمع الشباب مع المشيب فأطلعا
حكما وآيات تزين حكيما
زهت الفصاحة والرصانة والحجى
فيها نجوما تستحث نجوما
يبني البيوت العامرات مآثرا
وهي الصوامع للجمال سليما
ويصوغ للوطن العزيز ذخائرا «النيل» بارك كنزها فأديما
جلو الدعابة والحديث فما انتهى
متذوق منه نهى ونديما
ينسى مرارات الحياة بقربه
والحظ ختلا والزمان لئيما
صافي الفؤاد فليس ينبض مرة
ألا صفيا للنفوس حميما
علم بقامته ونخوة قلبه
كم صان للأدب الصميم صميما
يحيي القريض وكم يغيث رجاله
والفن أجمل ما يكون عميما
يحنو على البؤساء حين استعذبوا
منه الشفاء بشعره ترنيما
نشر المحبة والسلام ولم يذق
إلا أليما للورى وأليما
كم من أياد للمروءة حجبت
حتى العليم بهن ليس عليما
حفظ الوفاء كحفظه لغة العلى
وأشع سحرا للعقول جسيما
هيهات أنسى من نداه محبة
قد كان يسبغها علي كريما
لولا المحبة فاضت الدنيا أسى
وغدا شقاء الهالكين جحيما •••
يبكيك وجدان العروبة منقذا
والجهل قد نشر الظلام بهيما
يبكيك من عبدوا الوفاء، وكلنا
ذاك الوفي المرتجيك قديما
أما أنا فأرد دمعي، طائرا
فوق الأثير لكي أراك نعيما
وأعاف من شعر الرثاء مناحة
وأراه ذكرا شاملا ومقيما
ربح الذين رثوك شأو مفاخر
وعدا الذي أغفلته التعظيما
لكن وددتك من يصوغ لي الرثا
عن أن أصوغ لك الرثاء كليما
شعر تقاس به الحياة ومجدها
ويخلد الظل السريع رسوما
ولكم تمناه الأديب كنوزه
عن أن تدوم له الحياة خديما
وتعد من نعم الحياة وبرها
نفس كنفسك لا تسيء خصيما
طبعت على الزهد النقي وقدرت
في الجاه غبنا واليسار غريما
ما الحي إلا نفحة علوية
ما الميت إلا من يعيش أثيما
فلك البقاء السرمدي فإنما
خلق البقاء لمن يموت عظيما
رثاء شوقي
نظمت ونشرت يوم وفاته:
أهذا هو الجسم الذي كان إنسانك
أهذا هو الكنز الذي عد جثمانك؟
أهذا هو الظل الذي كنت ساكنا؟
أهذا هو السفر الذي ضم ديوانك؟
أهذا مآل العبقرية بعدما
أدمت لسحر العبقرية ألحانك؟
فجعنا بهذا الخطب فيك، وإنه
عميم، وما استثنيت من أنكروا شانك
كأن لم نكن بالأمس نبسم للمنى
لديك، وكم خان الزمان الذي خانك
كأنا جمعنا للوداع فيا أسى!
ويا لوعة الفنان يشهد فقدانك
ختمت كتابا للحياة وإن تكن
خططت لسفر آخر منك عنوانك
وإن أسرف اللوام لوما فإنني
إذا سأل التاريخ أذكر إحسانك
بكيت وقد جاء النعي يثيرني
بكاءك في المنفى تسائل أوطانك
وإني الذي ينسى الإساءة راضيا
وهيهات أن أرضى كغيري نسيانك
فوا عجبي ممن برى الحقد قلبه
وآثر حتى في المنية عدوانك؟
وما أنت بعد الموت إلا كجنة
فما تلهب النيران للحقد نيرانك
رحلت بإيمان التقي فلم يحل
وحسبك للديان أن صنت إيمانك
وما هده استهتار عيش منوع
كأنك في الحالين حالفت ديانك!
وفي ذمة العرفان ما قد بذلته
إذا رفض الحساد للمجد عرفانك
أحب جمال كنت تسديه للورى
صحائف للتاريخ أشبعن ألوانك
وآيات أنغام بلفظ مسلسل
فكل قصيد زف كالراح أوزانك
إذا لم تطعه الروح يفتن مسمعا
ويعطي لموسيقى الملاحة وجدانك
ومن ذا الذي ينسى خيالا موزعا
على الكون حتى صرت تخلق أكوانك؟!
مواهب شتى إن غررت بقدرها
وأكبرت من بعد التفرد بنيانك
فهل أنت إلا آدمي وإن تكن
عظيما، وقد أثقلت في الحكم ميزانك؟!
حكيم بشعر لا بحسن سياسة
لذلك قد ضاعفت في العيش أحزانك
فنم هانئا، بل طف بدنيا جديدة
من الشعر، وانظر في خلودك شهبانك
وخل لنا في حكمة الموت هذه
كثيرا من الأعباء ما كن شغلانك
تحد جريئا من تحداك كي يفي
إلى الأدب العالي بما فات حسبانك
فهذا وهذا وحده صدق همة
وإلا فلقن راحة النوم أجفانك!
ودع ترهات الشانئ الساخط الذي
يجرد شعرا صغت من كل ما زانك
ودعني أكرر شكر قلبي وحسرتي
وودا على الأيام لم أسل سلوانك
مضيت كملك باذخ هد أصله
ولكن له ذكرى تصاحب إرنانك
وخلفت صيتا بين قدح ومدحة
وحسبك عمرا حين تملأ أزمانك
وكم من دعي منكر فيك آية
وغايته ألا يبلغ أكفانك!
رسل الشعر
نظمت ترحيبا بشعراء العربية الذين وفدوا لتأبين المغفور له أحمد شوقي بك في القاهرة:
أهلا برسل الشعر والفن
من كل فنان ومفتن
تاه «الألمب» بهم وألههم
شعر له التقديس في عدن
سبقوا الربيع لنا فجاذبه
إنشادهم فجرى من الزمن!
نثروا الرثاء نوافحا حملت
روح الحياة ونعمة الفن
فاستقبلته الأرض باسمة
وهفا إليه الميت في الكفن
من ودع الدنيا بما جمعت
فبمثل هذا الشعر يستغني
من ذا الذي يدري، فرب مدى
هذي الحياة مدى من اللحن
تبقى على الدنيا لنا شعرا
وتغيب في شعر وفي وزن
أهلا بموسيه وشيعته
الساكنين مواطن الحسن
الخالقين من العزاء لنا
ما لم يكن في الحلم والظن
والطائفين بكل مخلدة
من نشوة الخلد التي تبني
فاحت أطايبهم لنا عجبا
من مستساغ الشهد والمن
أهلا! فمصر مصركم أبدا
في الفن صادحة وفي السكن
لم تنزلوا إلا على مهج
أو تصدحوا إلا على فنن
شعر الصمت
أملاها صاحب الديوان ارتجالا على صديقه الشاعر حسن كامي الصيرفي:
وبي حنين إلى شعر أغرده
لكن يشرد شعري فرط حرماني
أين الجمال لأوفيه عبادته؟
فما الطبيعة إلا بعض وجداني
أين التي ترقب الألحان طلعتها
لكي تصاغ بإلهام وإحسان
غابت فغاب الهوى عن خاطري ردحا
وإن أقام بقلبي طي أكفان
فأي شعر أغني بعد فرقتها
إلا الصموت بأوجاعي وأحزاني
شعر من الصمت أقسى ما أحس به
وكله قطع من قلبي العاني
لن يعرف الناس معناها وما حملت
من النشيد لحيران ولهفان
وإن أحس بها قلب يشاطرني
معنى الجمال ويرعاني ويرضاني
من شاعر حائر مثلي وحيرته
تملي علي فأملي روح حرماني
الفراغ
عصفت بقلبي الحادثات فلم تدع
فيه ذخيرة نعمة أو سؤدد
نثرت وشتتت الخواطر والمنى
ومضت بأحلام الربيع الأغيد
فإذا الخريف مع الشتاء تحالفا
وتوليا بالنبت والزهر الندي
وغدوت من قلبي بصحراء خلت
من حسنها للشاعر المتودد
غلب الفراغ علي حتى لم تعد
في القلب إلا حيرة القلب الصدي
بل ربما لم ألق حتى حيرتي
وتركت في موت الفراغ السرمدي
هيهات غير الحب يعمر مهجة
بالخلد أو يحيي المحب بمعبد
تاج الشوك
ألبستها الحياة تاجا من الشو
ك جزاء على الجمال المبين
ليس بدعا من الحياة إذا غا
رت من الحسن قبلة للعيون
هي بنت لها وكم من عجوز
تتصابى برغم شيب السنين
ألبستها تاج العذاب بذكرى
لشجون موصولة بشجون
فتراها والحسن يعبد فيها
في إسار من الهموم مكين
حملت رأسها المصدع بالهم
م ولكن بكفها المحزون
ونضت ثوبها كما تنزع الهم
م عن النفس أو أسار الرهين
فإذا الوجد قد تغلغل في الحس
ن كليل بهيكل مستهين
يتراءى الأسى بظل ونور
يتجلى بها وثغر حزين
كل ما أظهرت معان من الضد
دين من عالم عزيز مهين
نتملاه في خلود من الحظ
ظ وإن كان في اللظى والأنين •••
إنها صورة الضحية للدن
يا فيا لوعة الجميل الثمين
كل ما سر في الحياة مسيء
والسخي النبيل مثل الضنين
قبست من «حياتها» النور والآ
ن ترد النعيم رد الغبين
كم ضحايا أولى بأن يعبد الأر
باب من قبل أن يضحوا لدين
إن صنع الفنان قد يغلب الفن
نان قدرا ومستعز الفنون!
البلبل الصامت
من علم البلبل هذا السكوت
أيسكت البلبل حز الألم؟
أيعشق البلبل هذا الصموت
والعيش كل العيش ملء النغم
يا بلبلي الساحر لا تنسني
إن كنت من ينسى حزينا هواك
أشبعت أنفاسي هواك الذي
قد صار من روحي، وروحي فداك
لو كنت تدري أن لفظا له
حلاوة الشوق ونجوى الغرام
قد صار عندي مثل وصل المنى
رأيت هذا الصمت نحوي حرام
يا بلبلي الساحر لا تكتئب
واجعل حنيني يا حبيبي رضاك
ما أنت إلا نغم طائر
في حين قلبي طائر في شراك
ما متعة الطائر إلا الهوى
وسلوة الطائر إلا النغم
رضيت أسري وارتضيت النوى
إن لم تعش أنت أسير الألم
الظلال
ولما لم أنل إلا صدودا
لجأت من الشعاع إلى الظلال
وودعت الحقيقة حين باتت
خيالا وابتسمت إلى الخيال
ورحت أسائل الأيام عما
خبأن من ابتسامك وابتهالي
وأسأل كل بيت فيه ظل
لذكرك ليس يسلو عنه سال
وأقرأ من خطوطك ما تراءى
كآثار من الدمن الغوالي
فصرت أعيش في حبي كأني
أعيش بعالم حي وخال
الضحايا
كم في الخراف ذبيح باسم تضحية
للميت والميت لا تنجيه أموات
دنيا التناحر لم تبدع بها صور
إلا وإحسانها فيه الإساءات
قبري
أحببت عمري الروض حتى أصبحت
روحي مثال الروض في أوزانه
فحياته شعر، وصورة مهجتي
شعر، وأصفى الشعر من ألوانه
أنفقت عيشي للأنام مكافحا
والحر مملوك لأهل زمانه!
وأكاد أختم رحلتي ورسالتي
كالناسك المحسود في حرمانه
لم يغنم الدنيا ولم يطلب سوى
قبر يطيب إليه في تحنانه
مثوى ترف به الحشائش مثلما
رفت شغاف فؤاده بحنانه
في روضة الماء وثاب بها
بشعوره وغرامه وجنانه
والزهر يعبق من محبته كما
عبق النسيب بوصفه وبيانه
وتنمق الأزهار في أصباغها
من وجده الباقي ومن أحزانه
ويزوره الطير الحنون مواسيا
والفجر مبتسم إلى ألحانه
والشمس ترأف بالأشعة فوقه
كالأم تلثم طفلها ببنانه!
والظل شتى الوشي في ألوانه
كالشعر في التعبير عن وجدانه
والنحل ترقص حوله في نشوة
وتطير في فرح على إيمانه
نسيت خلاياها وقد حنت إلى
من خصها بالجم من إحسانه!
وتود - مثلي - لو يصاغ خلية
قبر حوى آمالها بأمانه
جوزيت عمري بالعقوق، فهل ترى
في الموت ألقى الحب في بستانه؟
التجاوب
تركت الفن معتزا بشعري
ولم أعرضه في صور الهوان
وما البحر العظيم بمستعز
إذا أعطى اللآلئ كل ران
فإن أمعنت فيه رأيت دنيا
تلألأ في مباهجها الرواني
حوت صورا وألوانا تناهت
بأطياف التخيل والمعاني
فتنسى أو ترى دنياك، لكن
تراها بالعواطف والجنان
وتعرف كنهها، وكأن عمرا
جديدا ما تطالع من بياني
وتعتنق التفاؤل دين حب
يصادم كل أحداث الزمان
وإن آثرت أن تزري بشعري
وتلهو عن دموعي أو حناني
حرمت جماله، وحسبت أني
خسرت، وما خسرت ولا الأماني!
نقد وملاحظات الشعلة
بقلم إبراهيم ناجي
وما كان شعري في نظيم أصوغه
ولكن شعري أن أكون أنا الشعرا
أبو شادي
هكذا أسمى أبو شادي ديوانه الجديد ولم أجد وصفا ينطبق على أبي شادي وشعر أبي شادي كهذا الوصف! فأما الرجل فهو شعلة حقا، هو نور ونار، هو قبس حي، هو شعاع طواف متميز بالقلق، منفرد بالهداية، ضارب في مجاهل الليل، مترام فوق عباب جياش مترام! هو ألق يقتحم الظلمة ويبددها ويغشاها، ولكنه يرهب أطيافها ويخشاها، هو عين جواسة مجهرة، ترمي العالم بالنظرة الرحيمة الواسعة، ثم تعود مغمضة جفنيها على دمعة تترقرق فيها، وحسرة تذوب في محاجرها، هو فيض من سلام وحنان وصفح، ينحدر من نبع قوي صاف، فيصطدم بالبغضاء، والقسوة والغل ... فيقف حائرا عاثرا متلفتا هنا وهناك حزينا، ثم يسترد قوته ويعاوده إيمانه المتين فيعلو ويعب ثم يتدفق جبارا مكتسحا!
هذا هو أبو شادي في كلمتين، وشعره صورة منه. وتعريف الشعر في أحدث الآراء أنه «كلمات تعبر عما لا تستطيع الكلمات المألوفة أن تعبر عنه ... هو كلمات تستقر النار والروح في قرارها:
charged with fire and spirit ».
وبقدر هذا اللهب، هذه الشعلة الكامنة، يكون الشاعر شاعرا أو لا يكون، وينفذ قوله إلى صميم إحساسنا أو لا ينفذ، ويعيش ويخلد أو يموت ويطوى. وليس هذا في الشعر فقط بل في الفن بأكمله؛ فالصورة الفنية الرائعة تكاد تمشي، وتنطق، وتقول شيئا، والوجه الجميل هو الوجه الذي ترتسم في تقاسيمه أثر تلك الروح الدفينة. والواقع أننا لا ندري تماما كنه ذلك الشيء الذي ميز شاعرا مثل بيرون، عن شاعر آخر من النظامين، غير أن الله ملأ روح الأول بشحن من الأثير الكهربائي، من القوة الخفية الخارقة التي يسميها العالم ماكس بلانك «الكوانتم» ... وهي التي تتغلغل في المادة وتكسبها الحياة ... وأنعم على الثاني بتيار هادئ قانع متواضع! •••
ديوان أبي شادي الجديد زاخر بالأمثلة العديدة عن الروح القوية التي تسيطر على شعره وتكسبه جدة وطرافة وتنوعا!
استمع إلى عابد الجمال في هذا الشعر الجميل:
وأنا العبد الذي ناجى الإله
ورأى رؤيا عيان منتهاه
ورأى ألف ذنوب وعذاب
ورأى الغفران من بعد الحساب
ورأى المعبد في رقعة أرض
ورأى الجنة في لمحة غمض!
واستمع إلى العابد في صلاة أخرى:
وأحرق مهجتي الحيرى صلاة
وقلبك صادف عني وهاني
وأرجع خائبا من غير معنى
سوى معنى التحرق والتفاني
وانظر إلى حيرة الفنان يستلهم ويستوحي:
فإذا نأيت جعلت ألتمس الهوى
والحسن بين مصادر الإلهام
وحدت فيك صبابتي وعبادتي
لما جمعت مفاتن الأيام!
وانظر إلى النظرة القاتمة في اليائس التائه:
علام التمادي في المنى حينما نرى
ضحايا المنى أضحوكة الحظ والبؤس؟!
ثم تعاوده الرحمة والأمل والصفاء فيقول:
إني لتطفئ نار الحقد ما رزقت
نفسي من الحب مهما اشتد عاديه!
وإن نفسه الصافية لمرآة للكون وصورة للطبيعة، فحين يراها غائمة في يوم مطير ينشد هذين البيتين الرائعين:
فيا غمام أطل سحا على زمن
الحسن والنور بعض من خواطره
أنت الحري بسكب الدمع في شجن
فقد صحبت قديما غرس ساحره!
وبينما هو يثار في نفسه، في حبه، في فنه، وفي اليوم المطير، وفي اليوم الضاحي والليل الذي يكتنفه، والصبح الذي يوشك أن يتنفس ... إذا به يتجاوز هذه الآفاق: فيحلم بمصر، وجمال فتياتها؛ لأن هذا الجزء من الكل، فهو في نظره جدير بشعره، جدير بالتقديس، فيقول:
ولم يدر الألى حجوا وزاروا
وناجوا مصر في ماض وحال
بأن فتاتها هي سحر منف
وآية حسنها الفذ المثال
وفجأة يترك كل هذا ليطرق بابا آخر، ليريك لونا من الفلسفة العالية العميقة:
حرام أن تعد الطرس ذخرا
وأن تعتز من ملك القريض
مقاييس الزمان قد استحالت
فما أدنى الحبيب إلى البغيض!
أي صدق وجلال فيما يقول! حقيقة إنه إذا استحال الغم إلى مرارة، والأفق إلى سواد، فما أقرب عن حظوظ الشعوب في فلسفة ممتازة:
حظوظ الشعوب حظوظ الدماء
فإن الدماء الغنى الأول
وما كرمت نطف للهوان
ولا حقرت عندما تنبل!
فهذا التنوع، والنظرة إلى الحياة: النظرة التي تستقر الرحمة والطيبة في أعماقها، والأمانة التي يؤدي بها الرجل رسالته ككل شاعر ملهم ممتاز، والصدق في الإحساس والتصوير، كل هذا يجعلك تمعن في هذا الشعر الذي انتزعه من صميم قلبه ومن مرآة الكون حوله وقد عكست أضواءها على ذهنه الحساس المتوقد.
Página desconocida