على أني لا أقصد تقديرا لهم فحسب، بل أقصد إلى تغذية الروح الوطنية بمدد من شعرهم وإلهامهم، وإذا كان مما تعمد إليه الأمم أن تغذي نفوس أبنائها بالأناشيد الوطنية، فأجدر بنا أن نشيع الشعر الوطني ونجعله في متناول المواطنين جميعا، رجالا ونساء، شيبا وشبانا، فكلنا في حاجة إلى أن نستذكر تلك القصائد الغر التي تملأ النفوس وطنية وإيمانا، وتغرس فيها فضائل الصدق والإخلاص والشجاعة والتفاني في أداء الواجب الوطني، فلعلها تدفعنا إلى السير دائما إلى الأمام، غير متوانين ولا متنابذين، مستمسكين بالمثل العليا في حياتنا القومية.
إن حياة هؤلاء الشعراء وقصائدهم الوطنية - إلى جانب أنها عماد للأدب وتاريخه - هي قطعة من تاريخ الحركة الوطنية وعنصر من عناصر بعثها وتطورها، ولا غرو فالشعر فرع من دوحة الأدب، والأدب الوطني له الأثر الذي لا ينكر في تكوين المواطن الصالح، والشعر بما يطبع في نفس الشاعر من التحليق في سماء الخيال، والتطلع إلى المثل العليا، يمهد للنهضات الوطنية ويبعثها ويغذيها؛ إذ يهيب بالأمة أن تتمسك بالحرية والكرامة، ويستحثها على النفور من الذل، وإباء الضيم، ويحبب إليها الثورة على الاستعمار والاستبداد، وشعراء الوطنية في مصر لهم في هذه الناحية فضل عميم؛ فكم ناصروا الحركة الوطنية في مختلف عهودها، وغذوها بقصائدهم وروائع شعرهم، وسجلوا حوادثها الهامة، وأشادوا بمفاخر الشعب، وأهابوا به أن ينهض ويستعيد مجده القديم، وكم استصرخوا الإنسانية أن تهب لنصرته، وتنتصف له من المظالم التي حاقت به، وإن كثيرا من روائع الأدب التي جادت بها قرائح أولئك الشعراء كانت معالم للحركة الوطنية، وكان الشباب يحفظها عن ظهر قلب، فتذكي في نفوسه روح الوطنية والإخلاص والإقدام والتضحية.
وكم من قصيدة أو بيت من الشعر قد حركت المشاعر في نفوس المواطنين وستحركها على الدوام، مهما تقادمت عليها الأعوام. ألست ترى إلى نشيد المارسلييز؟ كيف أنه رغم تقادم العهد على وضعه لا يزال يلهب شعور الفرنسيين ويثير في نفوسهم روح الجهاد والفداء، ويقدرون له قدسيته الفنية والوطنية.
ولعل في جمع عيون الشعر الوطني في كتاب واحد ما يبرز لنا فضل أولئك الشعراء في إمدادهم الروح الوطنية بغذاء معنوي يتجدد على تعاقب العهود والعصور، ولعلنا بذلك نكون أكثر عرفانا لفضلهم، وتقديرا لذكرياتهم، وما أجمل وفاء الأمم للمجاهدين السابقين من بنيها، في مختلف الميادين، ولا غرو فالحركة الوطنية ليست وليدة الجيل الحاضر، ولا هي وقف عليه، بل هي ثمرة الجهود المتواصلة التي يتوارثها المواطنون جيلا بعد جيل، وما أضعف الروح الوطنية إذا حدد مولدها بجيل واحد؛ لأنها بذلك تكون رخوة البناء، مقفرة المعالم، أما الوطنية الوطيدة الأساس، العالية الذرى، فهي التي تجمع بين مجد الماضي، وجهاد الحاضر، وأمل المستقبل.
إن في قيثارة الشعر سلوى للقلب، وغذاء للروح، وإنها لتوحي إلى النفوس أسمى معاني الإنسانية، وما أجمل هذه القيثارة حينما تغرد للناس ألحان الوطنية!
هذه المعاني والخواطر هي التي ألهمتني إخراج هذا الكتاب، وكم يطيب لي أن أنشر فيه صفحات لشعراء تكاد أحداث الزمان تنسينا شعرهم، بل تنسينا أسماء بعضهم، في حين أن فضلهم لا يصح أن ينسى، وآثارهم في بعث الوطنية لا تمحى، والأدب في حاجة إلى استذكار أشعارهم؛ فإنها حقا عماد الأدب الرفيع وكيانه، وهذه الأشعار هي في ذاتها سبيل لنشر الثقافة الوطنية بين أفراد الشعب في مختلف طبقاته.
من أين نبدأ؟
لقد ساءلت نفسي قبل أن أرسم خطوط الكتاب: من أين نبدأ تاريخ الشعر الوطني؟ أنبدؤه من يوم أن قرأنا قصائد شوقي وحافظ وسمعناها ووعيناها وكان لها صداها في إحياء مشاعرنا الوطنية؟ إننا إذ نحدد هذه البداية نكون قد اجتزأنا تاريخ الشعر الوطني، وأغفلنا مرحلة سبقت شوقي وحافظ، وهذا ما لا يقره الحق والإنصاف، ولا يرضاه شوقي وحافظ، على علو كعبهما وبلوغهما الذروة بين شعراء الوطنية.
فلنبحث إذن عن بداية سابقة على شوقي وحافظ.
إنني عندما أرخت مصطفى كامل بحثت في بداية الحركة الوطنية الحديثة، وتساءلت: هل تبدأ هذه الحركة بظهور مصطفى كامل فيكون تأريخه تأريخا لها؟ أم أن لها بداية سبقت ظهوره؟ وعلى أنني تلميذ لمصطفى كامل وكان تتلمذي له هو من البواعث على إخراجي لتاريخه ، كما نوهت إلى ذلك في مقدمة كتابي عنه، فإني قد وجدت من الإنصاف أن أبحث عن الأدوار التي تقدمت عصر مصطفى كامل؛ لأقف عند حد يصح اعتباره مبدأ الحركة القومية الحديثة. وانتهى بي البحث إلى أن بدايتها - في تاريخ مصر الحديث - ترجع إلى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، وأن أول دور من أدوارها هو عصر المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر؛ ومن ثم تطورت الفكرة عندي من تأريخ لمصطفى كامل إلى تأريخ للحركة القومية، وعلى هذا الأساس أخرجت سلسلة هذا التاريخ.
Página desconocida