٧- الكلام المفكك
جاء فى سورة الإسراء: (وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) (١) . (وقرآنا فرقناه): نزلناه مفرقًا منجمًا " فإنه نزل فى تضاعيف عشرين سنة " (لتقرأه على الناس على مكث): على مهل وتؤدة. فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم (ونزلناه تنزيلا) حسب الحوادث، بعد هذه المقدمة قالوا:
" كيف يكون القرآن وحيًا، وهو متقطع مفرق يأتى بعضه فى وقت، ويتأخر بعضه إلى وقت آخر، لقد كان محمد يرتبك عندما كان العرب أو اليهود أو النصارى يسألونه. وأحيانًا كان يحتج بأن جبريل تأخر.
الرد على هذه الشبهة:
إنهم يستبعدون أن يكون القرآن وحيًا لأنه لم ينزل مرة واحدة. فنزوله مفرقًا على مدى ثلاث وعشرين سنة ينفى عنه كونه وحيًا من عند الله، هذه واحدة ويثبت أنه كلام مفكك، وهذه ثانية ونقول لهم على وفق طريقتهم:
ونحن نسأل:
من أين لكم هذا الدليل؟ أَنَزل عليكم وحى من الله قال لكم فيه: إن كل وحى من عندى يكون نزوله دفعة واحدة. وكل ما خالف هذا لا يكون وحيًا؟ ! هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. هذا عن الأولى.
أما عن الثانية، فمن يجاريكم من العقلاء على هذا المعيار الذى وضعتموه لمعرفة الكلام المفكك الذى تتهمون كلام رب العالمين به؟
إن الكلام المفكك عند العقلاء هو الكلام الذى لا يناسب بعضه بعضًا، لامن حيث المفردات والتراكيب ولا من حيث المعانى والدلالات. وهذا معيار عام لا يخص كلامًا دون كلام، فمن الناس من يكتب كتابًا فى سنة، أو خمس، أو عشر، ويأتى ما كتبه آية فى الجودة والإتقان. ولو قدر لإنسان أن يكتب كتابًا من مائة صفحة فى ساعة أو ساعتين أو ثلاث لجاء كتابه " تخاليط " يصد عنه الناس.
والقرآن، الذى نزل مفرقًا فى ثلاث وعشرين سنة، ليس له مثيل ولاحتى مقارب فى إحكام نسجه، وتآلف نظمه وصحة معناه وصفاء عباراته، وسلامة لغته من كل عيب أو قصور.
كتاب قطع عمرًا من الدهر يقترب من الألف ونصف الألف من السنين، ومع هذا فهو كتاب كل عصر سام فوق كل كلام قيل بعده أو قبله أو فى عصر نزوله ومعانيه تكشف للناس فى كل عصر سبقًا فى ميادين المعرفة يذهل ويدهش. وكفاه فضلًا سبقه للحضارات الحديثة فى مختلف ميادين المعرفة العلوية والأرضية وما بين السماء والأرض، وما فى أعماق الأنهار والبحار والمحيطات، وما فى أعماق الأرض.
وكل هذا وفاء بالوعد الإلهى، الذى ورد فى القرآن: (سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (٢) .
إن القرآن الذى تفترون عليه هو كتاب الوجود كله، كم حاول الحاقدون قبلكم ومعكم أن يحدثوا فيه شرخًا فأعياهم، وبقى هو كلمة الله العليا السابحة فى الآفاق يتحدى تعاقب الدهور والعصور، وهو المنارة الشامخة يتلألأ ضوؤها ماحيًا حيالك الظلام. (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيمًا لينذر بأسا شديدًا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا * ماكثين فيها أبدًا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) (٣) .
_________
(١) الإسراء: ١٠٦.
(٢) فصلت: ٥٣.
(٣) الكهف: ١- ٥.
1 / 2