وقد ظن ظان أن الاشتداد والتنقص قد يكون لا فيما بين الأضداد؛ ومثال ذلك أن الصحة لا تضاد الحسن ولا ضده؛ وربما كان حسن أكثر من صحة. ولا ينبغى أن تلتفت إلى ذلك؛ فإن الذى ذهب هذا الظان إليه هو نوع من اعتبار الزيادة والنقصان غير الذى ذهبنا إليه ههنا. وكما أن الجوهر لا يقبل الاشتداد والتنقص على سبيل الحركة، كذلك لا يكون منه ما هو أشد وما هو أضعف. لست أعنى بالمقايسة التى تجرى بالأولى والأحرى وعمقا؛ فإن الجواهر قد قيل إن بعضها أولى بالجوهرية من وجه؛ ولكن أعنى بحسب المقايسة التى تخصه من طبيعة واحدة وحد واحد؛ فليس شىء من أشخاص الناس فى أنه إنسان، الذى هو جوهره، بأشد من شخص آخر؛ كما أنه قد يكون بياض فى أنه بياض أشد من بياض آخر؛ ولا أيضا شخص إنسان بأشد من شخص فرس فى أنه فرس؛ كما يتوهم أن بياضا أشد فى بياضيته من سواد فى سواديته وحرارة فى حراريتها أشد من برودة فى بروديتها.وكذلك حال الأنواع التى فى درجة واحدة؛ فإنها ليس بعضها أشد فى بابه من الآخر، إذ فرضنا أن الأجناس إنما تحمل عليها بالسوية؛ ومع ذلك فإن الجواهر الأولى، وإن كانت أولى بالجوهرية من الثوانى، فليست أشد فى الجوهرية. والأولى غير الأشد؛ فإن الأولى يتعلق بوجود الجوهرية؛ والأشد يتعلق بماهية الجوهرية. والكم أيضا يشارك الجوهر فى هذا كما نبين بعد.
وقد يعتقد فى ظاهر الأمر أن أخص الخواص بالجوهر أن ماهيته ماهية إذا تشخصت وضعت الأضداد؛ فكان الجوهر ما الواحد بعينه منه، لا الكلى منه، قد يقبل الأضداد لتغيره فى نفسه؛ أما الجوهر الكلى فلا يقبل الأضداد؛ لأن الكلى يشتمل علىكل شخص؛ ولا يصدق أن كل شخص أسود وأن كل شخص أبيض.
فإن ظن أن العرض الكلى يقبل الضدين أيضا كاللون يكون بياضا وسوادا، فليبطل ظنه بأنه ليس اللون الذى هو الأسود قابلا للون الأبيض بأن ينسلخ السواد عن اللون ويغشاه البياض؛ بل إنما يقال فى اللون المطلق إنه يقبل الضدين بمعنى أنه بعض وبعض؛ أو بأن تفرز الطبيعة اللونية مجردة فى الوهم فتقبل فى الوهم أى الفصلين شئت؛ وليس كلامنا فى مثل ذلك، بل كلامنا فى القبول الذى فى الوجود وفى القبول الذى يكون لقابل واحد؛ ولو كان اللون الكلى يقبلهما، لكان كل لون سوادا وكان كل لون بياضا. ولو كانت طبيعة اللون المجردة تقبل ذلك لما كانت سوادا وبياضا، بل مسودة ومبيضة، فلم يكن لون ما سوادا ولون ما بياضا؛ ولكانا على التعاقب لامعا.
وهذه الخاصية لا تعم كل جوهر؛ فما كل جوهر بقابل الأضداد؛ فإن الجواهر العقلية البسيطة قد لا تتغير البتة؛ وما لا يتغير البتة فلا يقبل الأضداد؛ بل إنما تقبلها الجواهر المتغيرة والجواهر الجسمانية المركبة من هيولى وصورة؛ ولا كل المركبات الجسمانية؛ فإن كثيرا من الأجسام السماوية لا تقبل الأضداد؛ وإنما يقبل ذلك بعض الجواهر الجسمانية.
وهذه الخاصية تساوى ذلك البعض، وهى خاصة لا لجزئيات ذلك البعض فقط؛ بل لجميعه؛ فإن كلياتها أيضا يحمل عليها أن الواحد منها بالعدد يقبل كذا وكذا؛ وأنه وإن لم يقبل ذلك كليته بكليته، فإن كليته موصوفة بأن الواحد منها بالعدد يقبل ذلك. والأشخاص فإن الواحد منها يقبل.
فإن قال قائل: إنك إن جعلت هذه الخاصية بحيث تصح للكليات، لم تصح للجزئيات؛ فإن زيدا ليس يقال عليه إن الواحد منه بالعدد يقبل المتضادات؛ فالجواب ان هذا حق صحيح وإن هذه الخاصية فى النظر الأول لطبيعة الجوهر الجسمانى المذكور منظورا إلى ماهيتها؛ فمنها كلى ومنها جزئى؛ وتلحق هذه الخاصية والكلية؛ بسبب أنها تلحق الطبيعة وتلحق المقولة لحوقا على الوجه الذى قيل فى بعض الخواص التى تخص ولا تعم موضوعات المخصوص.
ولكن قد يظن أن من الأعراض ما سبيله هذه السبيل؛ وذلك لأن القول قد يكون صادقا وقد يكون كاذبا؛ والظن قد يكون صادقا ثم يصير كاذبا؛ والسطح يكون أبيض ثم يسود.
وكشف هذه الشبهة: أما فى القول، فالقول لا يبقى بعينه للصدق والكذب؛ فالواحد منه بالعدد ليس قابلا للصدق والكذب؛ وأما الظن فإنه يبقى فيكون موضعا لهذه الشبهة. فالجواب المشهور عن هذه الشبهة عام فى القول والظن؛ وهو أن القول والظن لم يتغير من حالهما شىء؛ لكن التغير من حال إلى حال إنما عرض للأمر المحدث منه أو المظنون به؛ وكانت الأضداد متعاقبة على ذلك الأمر دون القول والظن.
لكن هذا الجواب على هذا الوجه غير سديد؛ فإنه ليس إذا كان الأمر يستحيل؛يجب أن يكون الظن لا يستحيل؛ فإن الأمر يستحيل استحالة توجب فى الظن استحالة وذلك أن الأمر يستحيل فى أنه كان موجودا؛ وكان الظن فيه صادقا أنه موجود؛ فإذ صار معدوما وبقى الظن بوجوده؛ فإن الظن أيضا يستحيل حين يكذب ذلك الظن الباقى فيه بعد أن كان صادقا. فهذا الحل إنما يثبت استحالة أخرى؛ وليس يتعرض لأن ينفى الاستحالة الأولى؛ وذلك لأنه يثبت للأمر استحالة فى وجوده وعدمه؛ وكلامنا فى استحالة الصدق والكذب.
Página 86