فهولاء حكموا بأن الأبيض إذا قيل على هذا الشىء الأبيض لم يكن مقولا على موضوع، بل موجودا فى موضوع، إذ ظنوا أن الأبيض موجود فى موضوع إذ ظنوا أن الأبيض عرض؛ بل جاوزوا هذا إلى أن قالوا: إن الكلى هو المقوم لماهية الشىء؛ فكأن غيره ليس بكل. فلنورد لفظ بعض مقدميهم فى تصحيح هذا المعنى، ولندل على الفضيحة التى فى ليتضح أن الصواب ما ذهبنا إليه. قال: وإنما قلت إن الكلى هو الذى يحمل على جزيئاته عن طريق " ما الشىء " ، وهو الذى يقال على موضوع، لأنه قد يحمل على الموضوع أشياء على غير هذه الجهة؛ مثال ذلك أن نحمل على زيد أنه يمشى، فنقول: إن زيدا يمشى؛ لكن معنى يمشى ليس يحمل على زيد على أنه أمر كلى وزيد جزئيه؛ لأنه ليس يحمل على زيد عند المسألة عنه ما هو؛ لأنه إن سأل سائل: ما هو زيد، فأجابه المسؤول :بأنه يمشى، كان جوابه له خطأ وكذبا؛ لأن معنى يمشى ليس يدل على ماهية زيد، بل إنما هو فعل من أفعاله. فانظر إلى هذا المنطقى جعل مطلوبه ودعواه أن الكلى هو الذى يحمل على جزيئاته من طريق ما الشىء، ثم أراد أن يبين هذه الدعوى فجعل بيان ذلك من أن ما يحمل لا من طريق " ما الشىء " لا يكون كليا؛ وهذا عكس النقيض للمطلوب. ولوكان بينا أو مسلما لكان الأول لازما عن كثب. ثم نص المسألة في جزئى، وهو أنه يمشى وترك الماشى، لأن هذه المغالطة كانت تظهر فى الماشى أكثر، إذ كان الماشى اسما، وكان يمشى فعلا. ويجب أن لا نضايق فى هذا أيضا، بل نقول: فلما أراد أن يبين أن " يمشى " ليس كليا، أخذ المطلوب الأول المشكوك فيه مقدمة كبرى فى بيان أن هذا ليس كليا، فقال: لأن " يمشى " لا يدل على ماهيته، وكل ما لا يكون مقولا فى ماهية الشىء فلا يكون كليا، وهذا هو الأمر الذى انصرف عن المطلوب إلى بيانه على أنه والمطلوب سواء فى الحكم. فإن ظن أن هذا غير المطلوب، بل يلزم عنه المطلوب، ومن شأن القياسات أن تأخذ أشياء هى ملزومات المطلوب، إذ كانت أعرف، فيقال له: لا يخلو إما أن تأخذ هذه المقدمة فى، هذا الموضع على أنها بينة، أو تتبين أولا ثم يتبين منها المطلوب. فإن كانت بينة بنفسها، فلا يحتاج إلى تكلف هذه القياسات، بل يجب أن يؤخذ هذا، قيقال: لما كان ما لا يكون مقولا فى ماهية الشىء لا يكون كليا ، فكل كلى مقول فى جواب ماهو. ثم دعوى أنها بينة وأبين من أن كل كلى مقول فى جواب ما هو دعوى بعيدة عن العقول؛ فإن من يقول: ليس كل كلى مقولا فى جواب ما هو، يقول مع ذلك: ليس كل ما ليس مقولا فى جواب ما هو فليس بكلى؛ وإن كان يحتاج إلى أن تبين هى ليبين منها المطلوب؛ فلم أخذت نفسها جزء القياس الذى يبينها ليتبين بها المطلوب ؟ ثم هل لإدخال " يمشي " ههنا فائدة إلا أن يجعل ذلك مكان المحمولات على الشىء التى ليست كلية ؟ فتبين أن المحمولات لا من طريق ما هو لا تكون كلية، فكيف يكون ذلك بأن يؤخذ أن المحمولات لا من طريق ما هو ليست كلية ؟ وقد أومأ فى هذا الفصل إلى شىء ولم يفصح به، وهو أشبه ما قاله فى ما يخيل وهو أن " يمشى " ليس كليا، لأن زيدا ليس جزئى " يمشى " . فإن قوله: لأن زيدا ليس جزئيا " يمشى " هو مما يسبق إلى الذهن قبوله، إذ قد سبق إلى الذهن أن زيدا شخص من نوع الإنسان، والشخص جزئي للنوع، فيسبق إلى الظن أنه جزئى للنوع، ليس جزئيا لغيره؛ كأن الشئ لايجوز أن يكون جزئى شيئين.
لكن يجب أن يحصل المفهوم من قولنا إن كذا جزئى كذا، فنقول: إن قولنا كذا جزئى كذا، معناه أنه أحد مليوصف بكذا، فيكون كذا، لايلزم أن يوصف ذلك الجزئى به وحده، فيكون كذا صفة له ولغيره بفعل أو قوة. فإذا كان الوصف مما يحمل عليه وحده بالفعل والقوة معا، إن كان كذلك، لم يكن هو جزئى ذلك الوصف. وأما إذا كان يوصف به هو وغيره وصفا بمفهوم واحد، وحد واحد، ووصفا على سبيل أنه هو من غير اشتقاق، فهو أعم فى الوقوع منه، وذلك أخص منه؛ فإن زيدا أخص من " يمشى " " ويمشى " أعم من زيد. فإن زيدا لايقال إلا على واحد، و " يمشى " يقال على ما يقال له زيد وعلى غيره؛ فيكون زيد أحد الأمور الجزئية التى يحمل عليها " يمشى " . وإنما نعنى بالجزئى هذا.
وأما أن المحمول العام على زيد وغيره يجب أن يكون أمرا يحمل عليه فى ذاته فهو شرط زائد لزيد على الجزئية وللصفة على الكلية. وقد أجمع الناس على أن الخواص والأعراض كلية؛ ولها، من حيث هى خواص وأعراض، جزئيات غريبة عنها؛ فإن الضحاك بالقياس إلى هذا الضحاك، من حيث هو هذا الضحاك، ليس خاصة، بل نوع ومقوم لماهيته كما علمت، بل هو خاصة للإنسان. وجزئيات الضحاك، من حيث هو خاصة هى أشخاص الإنسان. وأشخاص الناس، من حيث هى أناس، فلا تتقوم بالضحاك؛ فإنه غير داخل في ماهيتها؛ وذلك لأنه ليس يقوم ماهيته، ومع ذلك فهو كلى مقول على كثيرين هى جزيئاته، من حيث هو خاصة ثم إن كان الأبيض للإنسان و " يمشى " لزيد ليس مما يكون مقولا على موضوع، بل هو عرض، لم يخل إما أن يكون اسم العرض يقال على العرضى وعلى العرض الحقيقى باشتراك بحت، لاتشكيك ولاتواطؤ فيه، أولا يكون مقولا بالاشتراك.
Página 52