وأما العام فلم يكن هذا، بل كان هو بعينه تارة يفصل هذا عن ذاك، وتارة يفصل ذاك عن هذا؛ فالفصل العام، وهذا القسم من الخاص، قد يصلح أن تنفصل بهما أشخاص نوع واحد. وأما القسم الأول من قسمي الفصل الخاص فإنه لاتنفصل به أشخاص نوع واحد بعضها عن بعض؛ إذ كان لازما لطبيعة النوع؛ ولو كان عارضا لبعض الأشخاص لم يمتنع أن يعرض مثله لأشخاص أخر، فيبطل دوم الانفصال به، اللهم إلا أن يكون من جملة مايعرض لما يعرض له من ابتداء الوجود، كما للناس في ابتداء الولادة، ولا يجوز أن يعرض بعد ذلك. فيجوز أن يكون في هذا الفصل ما إذا فصل عن شخص موجود استحال أن لايفصل ألبتة؛ إذ كان ذلك الشخص بعد وجوده قد فاته ابتداء الوجود، فيكون هذا أيضا مما يقع به الفصل بين أشخاص النوع. وأما الفصل الذي يقال له خاص الخاص، فإنه الفصل المقوم للنوع، وهو الذي إذا اقترن بطبيعة الجنس قومه نوعا، وبعد ذلك يلزمه مايلزمه، ويعرض له ما يعرض له، فهو ذاتي لطبيعة الجنس المقوم في الوجود نوعا، وهو يقررها ويفرزها ويعينها، وهذا كالنطق للإنسان. وهذا الفصل ينفصل من سائر الأمور التي معه بأنه هو الذي يلقى أولا طبيعة الجنس فيحصله ويفرزه، وأن سائر تلك إنما تلحق تلك الطبيعة العامة بعد مالقيها هذا وأفرزها، فاستعدت للزوم مايلزمها، ولحوق مايلحقها، فهي إنما تلزمها وتلحقها بعد التخصص، وهذا النطق للإنسان؛ فإن القوة التي تسمى نفسا ناطقة لما اقترنت بالمادة فصار حينئذ الحيوان ناطقا، استعد لقبول العلم والصنائع كالملاحة والفلاحة والكتابة، واستعد أيضا لأن يتعجب فيضحك من العجائب، وأن يبكي ويخجل، ويفعل غير ذلك من لأمور التي للإنسان، ليس أن واحدا من هذه الأمور اقترن بالحيوانية عند الذهن أولا، فصار بسبب ذلك للحيوان الاستعداد لأن يكون ناطقا، بل الاستعداد الكلى والقوة الكلية الإنسانية هي التي يسمى بها ناطقا، وهذه رواضع لها وتواضع. وأنت تعلم هذا بأدنى تأمل، وتتحقق أنه لولا أن قوة أولى هي مستعدة للتمييز والفهم قد وجدت للإنسان، لما كانت له هذه الاستعدادات الجزئية، وأن تلك القوة هي التي تسمى النطق فصار بها ناطقا؛ وهذا هو الفصل المقوم الذاتي لطبيعة النوع. وأما أنه أسود أو أبيض أو غير ذلك، فليست من جملة الأشياء التي لحقت بطبيعة الجنس فأفردته شيئا عرض له ولحقه أن كان إنسانا.
فيجب أن تتحقق أن الفصل بين الفصل الذي هوخاص الخاص وبين تلك الفصول هو هذا. فلذلك لك أن تقول: إن من الفصول ماهو مفارق، ومنها ماهو غير مفارق؛ ومن جملة غير المفارقة ماهو ذاتي، ومنها ماهو عرضي. ولك أن تقول: إن من الفصول مايحدث غيريه، ومنها ما يحدث آخريه، والآخر هو الذي جوهره غير، والغير أعم من الآخر، وكل مايخالف فهو غير، وليس كل ما يخالف شيئا فهو آخر، إذا عنيت بالآخر المخالف في جوهره. فمن الفصول مايكون من قبله الغيريه فقط؛ كان مفارقا كالقعود والقيام، أو غير مفارق كالضحاك وعريض الأظفار؛ فإن الضحاك أيضا - وإن كان يجب أن يكون في جوهره مخالفا لما ليس بضحاك - فليس كونه ضحاكا كما هو الذي أوقع هذا الخلاف في الجوهر، بل الضحاك لحق ثانيا، بعد أن وقع الخلاف في الجوهر دونه، ثم عرض هو، فموجبه الأولى لذاته هو الخلاف فقط، إذ لايجوز أن لايوجب الضحاك خلافا بين ما يوصف بالضحاك، وبين ما لا يوصف به؛ ولكن كون هذا الخلاف جوهريا ليس هو من موجب الضحاك، بل من موجب شئ آخر وهو الناطق. فالفصل الذي هو خاص الخاص هو العلة الذاتية للخلاف الموجب للآخرية، بحسب اصطلاح أهل الصناعة في استعمال لفظ الآخر.
Página 28