وقد قال «أنبادقليس»: إن ملوحة البحر بسبب أن البحر عرق الأرض. وهذا كلام شعرى ليس بفلسفى. لكنه مع ذلك يحتمل التأويل. فإن العرق رطوبة من البدن تملحت بما يخالطها من المادة المحترقة من البدن. وماء البحر قد يملح بقريب من ذلك.
فإذا كانت ملوحة البحر لهذه العلة ولغاية هى حفظ مائه عن الأجون، ولولاه لأجن، وانتشر فساد أجونه فى الأرض، وأحدث الوباء العام. على أن ماء البحر يأجن إذا خرج من البحر أيضا، وإنما ينحفظ بعضه بمجاورة بعض وبمدد التمليح الذى يصل إليه.
فلهذه الأسباب كان الغالب فى البحر مالحا. إنما العذب منه قليل. وطبيعته حارة تلهب النارفوق أن تطفئها، ثقيلة لذاعة للمغتسل به، أكالة. وإذا تميز منه العذب فليس بسبب الأرض؛ بل بسبب عيون ذكرناها، وإلآ لأصلحتها الأرض الطيبة إذا جعل فيها له مصانع.
فبين من هذا أن جميع أجزاء الماء قابل للاختلاط بما يتصعد من الأراضى، ومنفذ لما ينفذ من القوى السماوية. فليس للبحر طبقات.
وأما اختصاص البحر فى طباعه بموضع دون موضع فأمر غير واجب؛ بل الحق أن البحر ينتقل فى مدد لا يضبطها الأعمار، ولا تتوارث فيها التواريخ والآثار المنقولة من قرن إلى قرن إلا من أطراف بسيرة وجزائر صغيرة؛ لأن البحر لا محالة مستمد من أنهار وعيون تفيض إليه، وبها قوامه. ويبعد أن يكون تحت البحر عيون ومنابع هى التى تحفظه دون الأنهار. وذلك لأنها لو كانت لوجب أن يكون عددها جدا، وأن لا تخفى على ركاب البحر؛ بل إنما تستحفظ البحار بالأنهار التى مصبها من نواحى مشرفة عالية بالقياس إلى البحر.
Página 208