ومن شأن الناس أن لا يبحثوا عن علل الأمور المتقاربة الظاهرة؛ لأن كثرة مشاهدتهم إياها يزيل عنهم التعجب؛ وزوال التعجب عنهم يسقط الأشغال بطلب العلة، ولا يعني أكثرهم بأن يعلموا أنه لم كانت النار تحرق فى ساعة واحدة بلدة كبيرة، أو لم البرد ييبس الماء، ويعنيهم بأن يعلموا لم المغناطيس يجذب الحديد.ولو كانت النار شيئا عزيز الوجود ينقل من قطر بعيد من أقطار العالم، ثم يشعل من شعلة منها شعل كثيرة لدهش الإنسان من العجب الموجود فيها، ولكان طلبه لسبب فعلها أكثر من طلبه لسبب فعل المغناطيس. وكذلك لو كان البرد مما يجلب من بلاد إلى بلاد، فيسلط على الماء فييبسه، لكان الناس يتعجبون. لكن كثرة مشاهدتهم ما يشاهدون من ذينك يسقط عنهم الاشتغال به، حتى إن سأئل لم يفعل البرد ذلك استنكروا، وقالوا: لأن طبيعته ذلك، ولأنه برد؛ وكذلك فى جانب النار يقولون إنها إنما تفعل ذلك، لأنها نار. .والبصير منهم الذى يرتفع عن درجة الغاغة يقول: لأن المادة التى للنار اكتسبت صورة تفعل هذا الفعل لذاتها، ولأن البرد طبيعته أن يكثف الجسم ويجمده. ثم لا يقنعه مثل هذا فى حجر مغناطيسي أن يقال: لأن المزاج سبب لأن حصل فى هذا المركب قوة هي لذاتها وطباعها تجذب الحديد، لا لشىء آخر. وليس أمر جذب مغناطيس بأعجب من أمر نبات ما ينبت، وإحساس ما يحس، وحركة ما يتحرك بالإرادة. لكن جميع ذلك أسقط فيه التعجب كثرته وغلبة وجوده.
والقول فى جميع ذلك قول واحد، وهو أن الجسم المركب استعد، بمزاجه، لقبول هيئة، أو صورة، أو قوة مخصوصة، يفاض عليه ذلك من واهب الصور والقوى، دون غيره.أما فيضانه عنه فلجوده، ولأنه لا يقصر عنه مستحق مستعد.
وأما اختصاص ذلك الفيض به دون غيره فلاستعداده التام الذى حصل بمزاجه. فجميع هذه الأشياء تفعل أفاعيلها؛ لأن لها تلك القوة الفعالة. وإنما لها تلك القوة هبة من الله تعالى. فيجب أن يتحقق أن المزاج هو المعد لذلك.
Página 256