فبين أن كيفية الأعظم أشد كيفية من الأصغر. فمن الناس من يظن أن السبب فى ذلك ليس هو لأن الأعظم أشد كيفية، ولكن الأعظم تتدارك أجزاؤه البعيدة ما يعرض للأجزاء القريبة من المنفعل. فإن هذا المنفعل لا محالة، كما تأثر بمادته فقد يؤثر بصورته. فإن الفاعل فى الطبيعيات منفعل. فإذا انفعلت الأجزاء القريبة من الفاعل الكبير عن المنفعل المكنوف الضعيفأعادت الأجزاء التى تليها إياها إلى قوتها، فحفظت قوتها. وهذا مثل المنغمس فى الماء الغمر. فإنه يصيبه من البرد ما لا يصيبه لو انغمس فى ماء يسير. وذلك لأن الماء اليسير إذا برد البدن تسخن أيضا من البدن. فإذا تسخن لم يجد مما يطيف به ما يتداركه فيبرد. وأما الماء الغمر فإنه إذا سخن ما يلى البدن منه تداركه ما يلى ما يليه، فبرده، فعاد يبرد البدن. فلا يزال يتضاعف تبريده.
فهؤلاء يكاد أن يكون احتجاجهم يناقض مذهبهم. أما أولا فلأنهم يجعلون الأجزاء تبرد من الأجزاء: وليس يجب أن يسخن الشىء حتى يبرد. فإن البارد إذا لم يكن الجامد فى الغاية؛ بل كان من شأنه أن يقبل زيادة برد، كان من شأنه أن يبرد مما هو مبرد زيادة تبريد: وهذا يوجب أن تكون الأجزاء كلما تجاورت أكثر، زاد كل واحد منها فى برد صاحبه؛ لأن صاحبه يبرد من طبيعته، ويبرد أيضا من مجاورته لأنه مبرد.
فيجب من هذا أن يكون كلما ازداد عظما ازداد تبردا، وإن لم يكن هناك مسخن.
وليس لقائل أن يقول إن الماء كله متشابه، فيستحيل أن يفعل جزء منه فى جزء، قائلا إن الشىء، كما قد علم، لا يفعل فى شبيهه. وإذا كان كذلك فما دام مجاوره باردا مثله لم يصح أن يؤثر فيه؛ بل يجب أن يتسخن هو أولا، حتى يصير ضده، فيفعل ذلك فيه البرد.
وإنما ليس له أن يقول ذلك لأن المجاور البارد ليس ينفعل عن مجاوره من حيث هو بارد؛ بل من حيث ذلك مبرد، وهو ناقص البرد، مستعد لزيادة التبرد. فهو من جهة ما هو مستعد مقابل للبارد بالفعل.
Página 216