Poesía y Pensamiento: Estudios en Literatura y Filosofía
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Géneros
هكذا انعكست الخلفية السياسية والاجتماعية على رؤية الشاعرين للمسائل النظرية والعملية في الفن، كما أثر إدراكهما للتناقضات المتزايدة في الحياة البرجوازية الحديثة على نظرتهما إلى قضية الشكل الفني والأنواع الأدبية، وتداخلها الملحوظ في كثير من الأعمال الشعرية إلى وضع الشاعر نفسه في مجتمع متخلف مختلط الأوضاع، مجتمع دخل مرحلة تقسيم العمل الرأسمالية قبل أن ينتهي من تصفية الإقطاع، وآمن مثقفوه بمثل الثورة الفرنسية مع شعورهم بعجزهم، وتفتت بلادهم إلى إمارات مجزأة يتحكم فيها طغيان الملكية المطلقة والنبالة المستبدة. ولهذا اعترف الشاعران بضرورة تداخل الأنواع الأدبية، واقتراب القصيدة الملحمية من المأساة، ونزوع الدراما نحو الشعر الملحمي، واستحالة المحافظة على نقاء الشكل الكلاسيكي، وصعوبة كتابة الملحمة والشعر الحكمي الموجز «الإبيجرام» على الشاعر الحديث، الذي لم يعد في مقدوره أن يلتزم بقواعد الفن الإغريقي أو يحاكي النماذج الأدبية الإغريقية. ولعل الشاعرين قد مهدا بذلك كله لضرورة تجاوز الكلاسيكية وأشكالها وقواعدها نتيجة لضغط المادة الجديدة وتناقضات الحياة الاجتماعية الحديثة. ولقد جاءت الحركة الرومانسية، فحققت التداخل بين الأشكال والأنواع الأدبية إلى حد الخلط والاضطراب اللذين حذرا منهما، ثم سرعان ما جاءت الواقعية، فاستوعبت الطرفين وتجاوزتهما معا (والغريب أن بعض أعمال الشاعرين قد حققت هذا بالفعل قبل ظهور الرومانسية والواقعية كتيارين متميزين بزمن طويل، كما نرى مثلا في رواية جوته «فيلهلم ميستر»، وفي فاوست، وفي مسرحية وليم تل لشيلر). •••
ونصل أخيرا إلى العمل «البربري» الذي لا يقاس به أي عمل آخر من أعمال جوته (كما قال عنه بنفسه!) إلى إلياذة الحياة الحديثة (كما وصفها الشاعر الروسي بوشكين) إلى القصيدة الكبرى التي خرجت عن حدود الملحمة والدراما والشعر الغنائي إلى فاوست ... هذا الفرد الواحد الذي يلخص مصيره مصير البشرية كلها.
أدرك جوته منذ شبابه الباكر ما تنطوي عليه أسطورة فاوست الشعبية من إمكانات شعرية هائلة، وظلت تشغل عقله ووجدانه ما يقرب من ستين عاما من عمره الطويل، فراح يعالج مادتها الزاخرة في صيغ ومقطعات وصور ومشاهد متفرقة يبتعد عنها سنوات طويلة ثم يعود إليها، حتى فرغ من كتابة القسم الثاني منها قبل وفاته بقليل. وكان من الطبيعي أن تنضج القصيدة الكبرى مع نضجه، وأن تعكس تحولات حياته وفكره كما تعكس التحولات الجذرية التي غيرت مجتمعه وعصره. ولم يكن الأمر مجرد تشخيص لمصيره الشخصي أو لذاتيته الخاصة في موضوع شعبي أسطوري، وإنما كان «تطويرا مستقلا متميزا للوعي الذاتي القومي، بل للوعي الذاتي للبشرية» (ص90).
لقد سبق لجوته الشاب أن عالج أساطير شعبية (مثل فاوست الأصلية في مسودتها الأولى، واليهودي التائه وبروميثيوس) أو شخصيات تاريخية تحيط بها هالة من التراث والتقاليد الشعبية (مثل شخصية النبي محمد وشخصية قيصر)، إلا أن هذه الموضوعات جميعا لم تكن لها جذور في الحاضر، ولهذا اقتصر تعبيره عنها على بعض الشذرات الغنائية أو المشاهد المسرحية الناقصة التي بقيت شخوصها أشباحا غامضة مفتقرة إلى الحركة والفعل. فلما أن عالج موضوعا من التاريخ الألماني من عصر الإصلاح الديني مثل ثورة «جوتز فون برليشنجن» في مسرحيته المعروفة بهذا الاسم ظل هذا الشخص التعس - كما سماه ماركس - بطلا وهميا من أبطال الحرية الجوفاء، وتحتم عليه الاندحار والسقوط بسبب تشوش مفهومه عن الحرية والواقع والتاريخ. ولعل هذا أن يكون أيضا هو السبب في بقاء الصياغة الأولية لفاوست - التي كتبت في نفس الفترة الزمنية تقريبا - شذرة ناقصة مفككة، واحتياج المشروع الكبير إلى عشرات السنين؛ لكي ينضج مع نضوج جوته نفسه وتطور تصوره للتاريخ والحرية وتناقضات مجتمع متخلف عاجز عن الثورة الحقيقية. فلما أن عكف على «فاوست» اتسعت فكرة «الفارس المعتمد على ذاته» وازدادت عمقا، واستوعبت العالمين الكبير والصغير، وضمت الماضي والحاضر والمستقبل ، وطرحت قضايا الطبيعة والمعرفة والخير والشر، والعلاقة بين الفكر والعمل، وتطور سعي الإنسان وجهده المحدود على الأرض بصورة شاملة، ومختلفة اختلافا جذريا عن الصورة التي قدمها عصر الإصلاح الديني للأسطورة الشعبية.
ولعل الإحساس بجدلية الحياة والفكر والطبيعة والتاريخ - هذا الإحساس الذي نجده بصورة حدسية غامضة عند بعض أقطاب عصر التنوير الألماني مثل جوته نفسه وصديقه وراعيه هيردر، ومن قبلهما «هامان» قبل أن يكتمل في صيغته المثالية الرائعة لدى هيجل - لعله كان وراء هذا التطور في تصور فاوست الذي أصبح يعكس بمتناقضاته تناقض الحياة والتاريخ والواقع الاجتماعي والإنساني جميعا، كما يعكس تطور تفكير جوته الفلسفي، ونظرته إلى العالم في اتجاه هذه الجدلية الحيوية الشاملة. والتتبع التفصيلي للفوارق الأساسية بين فاوست الأصلية (التي ترجع إلى خريف سنة 1775-1776م) وشذرة فاوست (لسنة 1790م)، وبين الصياغة النهائية للقسم الأول أتمه جوته سنة 1806م يبين تأثير هذا التطور التاريخي والفكري والفلسفي الذي انعكس على بنية فاوست ومختلف قضايا المعرفة والحياة والخير والشر والحب والمصير ... إلخ، التي عبرت عنها القصيدة الكبرى التي بين أيدينا اليوم.
إن فاوست في هذه القصيدة الشاملة الفريدة فرد تمثل تجاربه وتطوره ومصيره تقدم البشر كلهم ومصيرهم. ويكفي أن نقرأ معا هذه الأبيات التي يقولها في حواره مع الشيطان مفيستو فليس (وقد وردت شذرة سنة 1790م مؤذنة بالتعديل الجديد للقصيدة):
أود أن أتمثل في أعماق كياني
ما قدر للبشرية جمعاء.
أن أدرك بعقلي أسمى الأشياء في نظرهم وأعمقها،
وأجمع في قلبي سعادتهم وشقاءهم.
Página desconocida