Poesía y Pensamiento: Estudios en Literatura y Filosofía
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Géneros
1
ويكتشفون أنهم أمام عبقري ملهم قد لا يتفوق عليه أحد من الناطقين بلغته سوى «جوته»، بل ربما ذهب بعضهم إلى حد تفضيله على سيد أدباء الألمان. •••
ومعالم حياة هلدرلين - أو بالأحرى نصف حياته الذي قضاه ممتعا بالعقل قبل أن يغوص في هاوية الجنون - بسيطة يمكن سردها في سطور قليلة لا يسمح المجال بأكثر منها. فقد ولد في العشرين من شهر مارس سنة 1770م في بلدة «لاوفن» الصغيرة التي تقع على نهر النيكار في منطقة شفابن أو سويفيا، وكان أبوه معلما في أحد الأديرة القريبة ومديرا له. ومات الأب قبل أن يتم هلدرلين سنتين من عمره، وتزوجت الأم بعد موته بسنتين من عمدة مدينة نورتنجن، وانتقلت إلى هذه المدينة، ومعها طفلها الذي قضى مرحلة صباه، وتعليمه الأولي هناك. ومات زوج أمه وهو في التاسعة من عمره، وأنهى دراسته في المدرسة اللاتينية في مدينة نورتنجن، وهناك بدأ كتابة قصائده المبكرة، ثم انتقل إلى «السيمنار» العالي في دير المدينة «ماولبرون»، وقضى به سنتين قبل أن يدخل معهد اللاهوت الشهير في مدينة توبنجن. وكون جمعية أدبية مع اثنين من أصدقائه، ومضى في كتابة أشعاره متأثرا بالشاعر المتدين كلوبشتوك (صاحب الملحمة الغنائية الكبرى عن السيد المسيح) وبشعر شيلر الفلسفي، متوجها بها إلى المثل الإنسانية كالصداقة والجسارة والحرية والحب والجمال، كما بدأ أولى ترجماته عن اليونانية ببعض أناشيد الإلياذة.
وفي التاسعة عشرة من عمره تعرف إلى «شتويدلن» الذي كان يتولى نشر عدد من المجلات الأدبية والفنية، فشجعه ورعى عددا من قصائده، كما تعرف في هذه السن أيضا إلى الشاعر الوطني الحر شوبارت (1777-1811م)، وكان قد خرج من السجن بعد أن قضى فيه عشر سنوات، ولا شك أنه تأثر بنزعته الوطنية المشبوبة، ولغته العاطفية المتدفقة. وحصل في العشرين من عمره على درجة الماجستير في الفلسفة (وكانت في ذلك الحين أدنى الدرجات الأكاديمية) وجمعت الصداقة الحميمة بينه وبين هيجل (الذي كان يشاركه نفس الحجرة في ذلك المعهد الذي طالما عانى فيه من الطعام السيئ والرقابة الصارمة ودروس اللاهوت) كما انضم إليهما شيلنج الذي كان يصغرهما بأربع سنوات، وفي سنتي 1792، 1793م ظهرت أولى قصائده في المجلة التي كان يصدرها شتويدلن، وبدأ يكتب المسودات الأولى من روايته «هيبزيون »، ويشارك صديقيه وشباب جيله تحمسهم لمبادئ الثورة الفرنسية، وسخطهم على مظالم الحكم الإقطاعي في بلاده. ويقال إنه احتفل مع طلبة المعهد اللاهوتي بعيد الثورة الفرنسية، واشترك معهم في غرس شجرة الحرية في أحد ميادين المدينة بين الرقص والتهليل والغناء ... كان في هذه الفترة من حياته شديد الإعجاب بشخصية شيلر ورجولته ومثاليته. وقد عطف عليه الشاعر الكبير، وأرشده وأعانه على مصاعب الحياة، وإن لم يستطع هو ولا «جوته» أن يقدرا شاعريته حق قدرها. وقد توسط له شيلر - بعد أن أتم امتحان اللاهوت في مدينة شتوتجارت - في البحث عن عمل يكسب منه قوته، وأوصى به خيرا عند السيدة شارلوته فون كالب التي كانت على اتصال بالحياة الأدبية؛ ليعمل مدرسا خصوصيا لأبنائها، وسافر بالفعل للالتحاق بعمله في بيتها بمدينة فالترز هاوزن بمقاطعة تورنجن. وبذلك بدأ سلسلة العذاب والإخفاق التي سيقاسيها من مهنة التعليم الخصوصي البائسة.
ونشر له شيلر قطعة من روايته «هيبريون» في مجلته «تاليا»، وهي روايته الوحيدة التي سيعكف على صياغتها مرات عديدة. وسافر مع تلميذه الصغير الذي كلف بتربيته إلى مدينة «يينا» - كعبة المثالية الألمانية في ذلك الحين - وهناك التقى بشيلر عدة مرات كما قابل الفيلسوف فشته وجوته الذي تجاهله في أول لقاء، ثم قابله بعد ذلك عدة مرات، ولكنه لم ينصفه، ولم يستطع أن يقدر موهبته، وأصر دائما في رسائله إلى شيلر على أنه من «تلك الطبائع المسرفة في التوتر والذاتية».
وفي منتصف شهر يناير سنة 1795م تخلى عن عمله عند عائلة فون كالب، وذهب لمدينة «يينا»، وفي نيته أن يواصل دراسة الفلسفة، ويتقدم بعد ذلك للتدريس بجامعتها الشهيرة. واستمع إلى بعض محاضرات فشته، وتابع كتابة «هيبريون»، وتعرف إلى أخلص أصدقائه وأوفاهم، وهو أسقف سنكلير الذي رعاه في أزماته، وبذل بعد ذلك غاية جهده لإنقاذه من الجنون. ويبدو أنه سئم الفلسفة فجأة، واكتشف أنها تبعده «عن عمله الحبيب»، وتشغله عن الشعر وهو على حد قوله: «أكثر المشاغل براءة»، فغادر المدينة، وقفل راجعا إلى بلدته نورتنجن التي قضى فيها النصف الأخير من ذلك العام، ولكنه لم يقبل على نفسه أن يكون عبئا على أمه، فسافر إلى مدينة فرانكفورت؛ ليعمل مدرسا خصوصيا في بيت رجل المال والبنوك جونتار. وهناك كان ينتظره أسعد لقاء وأعظم حب في حياته. رأى «سوزيته» جونتار ربة البيت وزوجة رجل الأعمال، فأحبها وعرف فيها قدره ومأساته وفرحته الوحيدة، وسماها ديوتيما على اسم الحبيبة في روايته التي كانت لا تزال تتعثر بين يديه، فشاء لها الحظ أن تنمو وتكتمل، أو على اسم «ديوتيما» الكاهنة الغامضة التي تكلم سقراط وتعلمه أسرار الحب والحكمة في محاورة «المأدبة» لأفلاطون، وظهرت أولى علامات الحب المثالي الجارف في أغنية رقيقة كتبها سنة 1796م تحت عنوان ديوتيما.
بدأت المحبوبة - أو كاهنة الحب المقدس كما كان يسميها - تبادله حبه، وتستمع إلى شعره، وتعزف له على البيان، بينما يشاركها بالغناء، وترسل نظرتها النافذة الحنون إلى أغوار حزنه، وتحاول أن تصرفه عن كآبته.
ورافقها في السفر عندما هربت مع أولادها فرارا من الجيوش الفرنسية الغازية إلى دريبورج عبر مدينة كاسيل. وفي هذه الأثناء مات صديقه شتويدلن منتحرا بعد أن طرد من البلاد، واشتدت عليه المحنة، وأهداه هيجل قصيدته «إلويزس» التي تعبر عن دفء صداقته له (وستجدها بعد قليل على هذه الصفحات)، وظهر المجلد الأول من رواية هيبريون عند الناشر «كوتا». ثم اضطر أن يهجر وظيفته في بيت جونتار في منتصف شهر سبتمبر سنة 1798م، بعد أن حاصرته الإشاعات ورقابة الزوج الغيور. ولجأ إلى صديقه سينكلير في مدينة هومبورج. وحاول هذا أن يخفف عنه جراحه، فصحبه معه في أسفار عديدة. وبدأ يكتب مسرحيته الوحيدة «موت أمبادوقليس» في صياغتها الأولى، كما جرب نفسه في بعض المقالات الفلسفية التي أكدت من جديد أنه لم يخلق للفلسفة. وفكر في إصدار مجلة أدبية، ولكن المشروع مات قبل ولادته، كما حاول أن يتقدم لجامعة بينا لإلقاء محاضرات في الفلسفة، فأوصدت الجامعة أبوابها في وجهه، ورجع إلى بلدته نورتنجن، وهو في أسوأ حال من الضعف وقلق الأعصاب، ولكنه استطاع أن يكتب أخلد قصائده، وأن يبلغ ذروة إبداعه الفني. وشق عليه أن يكون عبئا على أمه المسكينة، فرجع إلى مهنته البائسة، وقبل العمل في بيت أنطون جونسباخ، وكان من تجار الأقمشة في مدينة «هاوبتفيل» بسويسرا، ولكنه لم يلبث أن هجر العمل بعد أن أخفق من جديد في تلك المهنة التي لم يخلق لها. ورجع إلى أمه في شهر أبريل سنة 1801م، وأقام فترة قصيرة في مدينة شتوتجارت، حيث تفاوض دون نجاح مع الناشر «كوتا» على طبع أشعاره. واضطر أن يلجأ للدروس الخصوصية من جديد، فقبل العمل في بيت القنصل الألماني في مدينة «بوردو» الفرنسية. وسافر إلى هناك في أواخر العام على قدميه عبر مرتفعات الأوفرن الخطرة التي كانت تغمرها الثلوج، ولكنه سرعان ما تخلى عن عمله الجديد؛ إذ يبدو أنه لقي نفس المعاملة التي جرحت كبرياءه في كل بيت دخله - وكان المعلمون الخصوصيون يعاملون معاملة الخدم والأتباع - وتلقى نبأ وفاة حبيبته سوزيته جونتار التي كان يعلم أنها تعاني داء السل. ورجع في شهر يوليو إلى وطنه سائرا على قدميه، ورآه الناس في مدينة شتوتجارت فذهلوا لمنظره. كان محطما ممزق الثياب أشعث الشعر، مضطرب الكلام، في حال من اليأس والارتباك لا نظير لها. وواصل إنتاجه على الرغم من مرضه وظهور بوادر الجنون عليه، فكتب عددا من قصائده المتأخرة التي سماها «أغنيات الليل»، وعكف على ترجمة مسرحيتي «أوديب ملكا»، وأنتيجونا لسوفوكليس، وبعض قصائد من شعر بندار. واشتد عليه المرض، وتأكد للجميع أنه يترنح على حافة الهاوية، فأسرع إليه الصديق الوفي سينكلير، وأخذه معه إلى مدينة «هومبورج»، وسعى له في الحصول على وظيفة أمين مكتبة في بلاط أمير المدينة الزاهد «فريدريش فون هومبورج»، وكان الصديق يدفع له مرتب الوظيفة من جيبه، ولكن محاولات الصديق لم تجد شيئا، فقد ازدادت حالته سوءا، حتى صار الأطفال يجرون وراءه في الشارع. وأدخلوه مصحة الأمراض العصبية في مدينة توبنجن سنة 1806م، لكن حالته تدهورت، ويئس الأطباء من شفائه. وتطوع النجار تسيمر - وكان من هواة الأدب وأحباب الشعر - فتقدم للمصحة، وأعلن استعداده لإيواء المريض في بيته. وقال له الطبيب وهو يسلمه له إنه لن يعيش أكثر من سنة أو سنتين على الأكثر، ولكن المريض ظل يعيش في بيت النجار الطيب كالحالم أو كالميت ستا وثلاثين سنة ... كان طوال هذه السنوات يتجول في باحة البيت في هدوء غريب، ويجلس بالليل أمام نافذته يتأمل النجوم. لم تفارقه طلعته الجميلة، ولم ينطفئ من عينيه الصافيتين ذلك البريق العجيب الذي كان يشع منهما، ولم تفارقه طفولته ونقاؤه وبراءته وحياؤه وانكساره، لكنه ظل غائبا عن الوعي تماما إلى أن أنقذه الموت في اليوم السابع من شهر يونيو سنة 1843م عندما مات وهو يجلس إلى جوار نافذته يتأمل النجوم. •••
لنعد الآن إلى سؤالنا الذي بدأنا به.
ما العلاقة بين الفلسفة والشعر؟ ما الذي يجمع بين لغة العقل ولغة الوجدان؟ أهما جاران متباعدان أم لعلهما في البداية أو النهاية يلتقيان؟
Página desconocida